ندين ونستنكر.. لكن، لا ننسى
وائل قنديل
استنكرْ واشجب حادث باريس كما تشاء. لكن، لا تتجاهل العار الأخلاقي الذي يلحق بكل عربي يكتفي بالفرجة على "الموت الأزرق"، إذ يفترس أرواح الأطفال والشيوخ من النازحين السوريين، الفارين من مقصلة إرهاب حاكم يتيح له "العالم الحر" ملاذاً آمناً في قافلة "الحرب على الإرهاب"
وأظن أن من العبث أن تسلم رأسك لأصحاب محاولة استنساخ 11 سبتمبر/ أيلول الأميركي في الحالة الفرنسية، بعد الحادث الإرهابي ضد صحيفة الكاريكاتير "شارلي إيبدو"، ذلك أن السياق الاجتماعي يختلف في الحالتين، فالحاصل أننا بصدد جريمة فرنسية على أرض فرنسا، بمعنى أنه، وفقاً لما أذيع من أنباء مقتضبة عن الجناة، فإنهم مواطنون فرنسيون ولدوا في فرنسا، ونشأوا في ظل قيم المجتمع الفرنسي، ولم يأتوا من الخارج، كما كان الحال في الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2011 في نيويورك.
وعلى ذلك، يمكن النظر، من دون الابتعاد عن الواقع، إلى هذه الجريمة البشعة في سياق اجتماعي فرنسي، كان ملبداً بغيوم العنف والعنصري منذ سنوات، ما دفع باحثين ومفكرين فرنسيين عديدين إلى التحذير من اندلاع مشكلات اجتماعية خطيرة.
في منتصف العام 2013، حذرت اللجنة الاستشارية المستقلة لحقوق الإنسان في فرنسا من أن الاعتداءات ذات الطابع العنصري في تصاعد مستمر، وأكدت رئيس اللجنة، كريستين لازرج، أن ظاهرة اللاتسامح تجاه المسلمين في فرنسا أكثر من مقلقة.
وإذا وضعت في الاعتبار أن عدد المسلمين الفرنسيين زاد عن ستة ملايين نسمة، غالبيتهم ولدوا ونشأوا على قيم الجمهورية الفرنسية، فإنه، بفرض التسليم بصحة الرواية التي راجت قبل أن تبدأ التحقيقات، أن الجريمة كانت انتقاماً من الصحيفة على سخريتها من النبي محمد عليه السلام، فإننا نكون أمام موضوع فرنسي قلباً وقالباً، إذ هناك أكثر من عشرة بالمائة من سكان البلاد يهمهم أمر الرسول، وفي مناخ اجتماعي مأزوم باعتراف المسؤولين الفرنسيين أنفسهم، من الممكن أن يبلغ التطرف والتعصب مداهماً إلى حد ارتكاب جريمةٍ بهذه البشاعة والوحشية.
إذن، ومع الإدانة الكاملة والصريحة لهذه الجريمة، لا يمكن القفز على حقيقة تقول إن المجتمع الفرنسي كان قبلها يحمل نذر خطر، حذّرت منها جهات فرنسية مسبقاً.
ولعلك تذكر أنه، في مناسبات مختلفة في أزمنة غابرة، كان الفرنسيون يفاخرون بقيم التنوع والثراء والتسامح الديموغرافي التي تسود المجتمع، وتساهم في تقدم فرنسا في المجالات كافة، وإذا عدت بالذاكرة إلى مطلع هذه الألفية، فستجد أن فرنسا كلها كانت تباهي الأمم بأن نصف أعضاء فريقها لكرة القدم الفائز ببطولة أوروبا، ثم بطولة كأس العالم في غضون عامين فقط، مواطنون فرنسيون مسلمون يمثلون جوهر قيم التسامح والمساواة والمواطنة في الجمهورية الفرنسية، وبالتالي، كان النظر إلى منجزهم الرياضي باعتباره منجزاً لفرنسا الحرة المتعددة المتنوعة المتسامحة، على الرغم من أنهم قادمون من أصول عربية وإفريقية.
ومن ثم لا يمكن أن نسلخ جريمة الاعتداء على الصحيفة الفرنسية عن سياق تاريخي واجتماعي فرنسي، شهد تحولات وتبدلات مخيفة طوال السنوات الماضية، جسدتها تحذيرات لجنة حقوق الإنسان ودراسات سوسيولوجية عدة، وهذا لا يعني، بالطبع، أن نعزلها عن الظروف الدولية والإقليمية المعبأة بكل عوامل التطرف والإرهاب.
ندين الجريمة، ونستنكرها، كعرب ومسلمين، هذا هو الموقف الإنساني الصحيح. لكن، من دون أن تستبد بنا "الدونية"، فتجعل السفهاء منا يسلكون وكأن على رؤوسهم، أو بالأحرى في رؤوسهم، بطحة فكرية أو عقائدية، تجعل بعضهم ينحني أمام عاصفة من الاستثمار السياسي للحادث وتصنيفه (9/11) جديداً بنكهة فرنسية، وما يستتبع ذلك من إثارة الغبار، بغية الذهاب إلى مشاريع سياسية وعسكرية كانت مدرجة أساساً، ومنذ وقت طويل، على جدول الأعمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق