ترجمة وتحرير نون بوست
في 12 سبتمبر 2001، قمت برحلة إلى جنيف لحضور المؤتمر السنوي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، ولدى وصولي، وباعتباري رئيس برنامج الشرق الأوسط في المعهد، طُلب مني أن أتحدث في حلقة نقاشية، تم إعدادها على عجل، حول التصدي لهجمات الحادي عشر من سبتمبر التي حدثت في الولايات المتحدة في اليوم السابق.
في الوقت الذي ناقش فيه زملائي من أعضاء الفريق الردود الغربية الممكنة تجاه تنظيم القاعدة، ركزت في نقاشي على الإجراءات التي ينبغي القيام بها في الدول العربية لمنع التهديدات المستقبلية، وأوضحت بأنه من الضروري معالجة الأسباب الجذرية للتهديدات التي يعاني منها الملايين من المواطنين العرب، والمتمثلة بالتهميش الاقتصادي والسياسي والاغتراب الاجتماعي، ولكنني شددت على أن التحدي الرئيسي يكمن في تحديد الأشخاص النادرين الذين دفعتهم هذه الظروف لارتكاب أعمال عنف عشوائية ومروعة سواء ضد الأجانب أو في مجتمعاتهم.
وتابعت موضحًا بأن مواجهة هذا التهديد المجهول وغير المتبلور يتطلب استعدادية ومشاركة قوات الشرطة، الأجهزة الأمنية الداخلية، السلطات البلدية المحلية، والجمعيات الاجتماعية في البلدان العربية، كون هذه الأجهزة هي الوحيدة التي تتمتع بمعرفة وثيقة حول مجتمعاتها المحلية، وتمتلك معلومات استخباراتية مفصلة تعتبر حاسمة لتحديد ومنع التهديدات المحتملة، وهذا يجعل الشرطة عنصرًا أساسيًا لنجاح أي إستراتيجية لمكافحة الإرهاب، وللوصول إلى الفعالية التامة، ينبغي على أجهزة الشرطة اكتساب الشرعية الحقيقية والقبول داخل المجتمعات العربية.
علاوة على ذلك، وبغية تحقيق الشرعية التي يتطلع إليها القطاع العربي الأمني، الذي يضم قوات الشرطة ووكالات الأمن الداخلي والقوات شبه العسكرية التي تشرف عليها وزارات الداخلية الوطنية، ينبغي ممارسة إصلاحات تهدف لتحقيق تحسينات حاسمة في مهنية هذه القوات، ومهاراتها التقنية وكفاءاتها الأساسية، فضلًا عن تحسين طريقة عملها الوظيفية.
وخلصت في خطابي إلى وجوب تجنب الحكومات الغربية للوقوع في خطأ احتضان القطاعات الأمنية غير المكتملة باسم مكافحة الإرهاب، متغاضية عن أساليب هذه القطاعات الخام وعيوبها الأساسية لأسباب نفعية سياسية.
14 عامًا ولا نجاح
بعد مرور 14 عامًا على تلك الندوة، لم تسوفِ البلدان العربية الشروط اللازمة لتحقيق فعالية الشرطة في الدول العربية الأكثر تضررًا من تهديدات تنظيم القاعدة، الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أو المنظمات الجهادية الأخرى؛ فالقطاعات الأمنية في كل من مصر وتونس، على سبيل المثال، قاومت بنجاح جميع المحاولات التي بُذلت منذ عام 2011 لتكريس مبدأ المحاسبة عن الأفعال المرتكبة من قِبل القوات الأمنية.
هذه الثقافة المتجددة للإفلات من العقاب تنعكس باستمرار بصورة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ ففي الآونة الأخيرة، وثّق مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف مقتل 13 مواطنًا، 42 حالة تعذيب أثناء الاعتقال لدى الشرطة، و40 حالة اختفاء قسري في مصر في شهر نوفمبر 2015 فقط، وفي أغسطس جددت هيومن رايتس ووتش دعوتها لوضع حد لاستخدام أساليب التعذيب في مراكز الاحتجاز التونسية.
ما يثير القلق أيضًا، هو أن مقاومة القطاعات الشرطية والأمنية لترسيخ مبدأ المساءلة أدى بالتبعية إلى افتقار هذه القطاعات للقدرات والمهارات اللازمة لتنفيذ عمليات شرطية "ذكية" تقودها قوى المخابرات ضد التهديد المتنامي للإرهاب في الداخل؛ فالاعتماد على الاعترافات التي تُنتزع بالقوة بدلًا من المهارات الجنائية بقي المعيار المتّبع في أغلب القطاعات الأمنية العربية، مما أسفر عن تحقيق ضعف متنامٍ في أجهزة الاستخبارات العربية.
علاوة على ما تقدم، يتم تطبيق القانون من قِبل موظفين يتقاضون أجورًا زهيدة، يفتقرون للدوافع الشخصية الملائمة، ويعملون لساعات طويلة لتنفيذ مهام متناقضة ومختلفة لم يجرِ تدريبهم على الاضطلاع بتنفيذها، فضلًا عن أن هؤلاء العناصر مشبعون بروح العدائية تجاه المواطنين، وبالمثل فإن المسؤولين المنتخبين يتم وصمهم بشكل روتيني بانعدام الكفاءة والشرف والوطنية.
وزارات الداخلية في مصر وتونس، وغيرهما من البلدان العربية، بقيت كـ"صناديق سوداء"، عصية ومنيعة ضد أي تدقيق تمارسه حكوماتهم، مما أسفر عن اتخام هذه المؤسسات بالصراعات الفئوية وتركها عرضة لاستشراء الفساد.
أدى هذا إلى الارتباك في النهج المعتمد ضمن الأجهزة الأمنية العربية إلى بزوغ ازدواجية في المهام بين الأجهزة الأمنية الرئيسية؛ مما حال دون تبادل المعلومات والتنسيق التكتيكي بين هذه الأجهزة، وهو الأمر الذي يعد حيويًا أيضًا لمكافحة الإرهاب بنجاح.
جميع ما تقدم أدى إلى انعدام فعالية الأجهزة الأمنية العربية، سواء لجهة تعيين الموظفين، أو استنفاد الميزانيات، والأسوأ من ذلك، اطراد وتزايد الخسائر البشرية والمادية تبعًا للنهج غير الفعال المعتمد ضمن هذه المؤسسات.
العواقب الأوضح لهذا النهج تظهر بجلاء من خلال الاستجابة الأمنية البطيئة للغاية للهجوم الإرهابي المنفرد الذي نفذه أحد عناصر تنظيم داعش مزهقًا أرواح 38 شخصًا على شاطئ في تونس في يونيو 2015، وكذلك الخرق الأمني القاتل الذي سمح لإرهابيي داعش باختراق الإجراءات الأمنية، التي لطالما تم الافتخار بها، في مطار منتجع شرم الشيخ المصري، بغية زرع قنبلة على طائرة ميتروجيت الروسية، مما أسفر عن إسقاطها وإزهاق أراوح 224 راكبًا في نهاية أكتوبر المنصرم.
من جهة أخرى، فإن تقليص إستراتيجيات مكافحة الإرهاب وقصرها على الجانب "الحركي" فقط، كغارات الطائرات الحربية والطائرات بدون طيار، والاعتماد بشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات للحصول على المعلومات الاستخباراتية، وهو النهج المعتمد من قِبل الولايات المتحدة منذ عام 2001، لم يعالج داوفع التطرف، كما لم يقم بالقضاء عليها.
بل على العكس ذلك، أدى هذا النهج إلى إحداث المزيد من الأضرار في المجتمعات التي تعاني مسبقًا من التفكك والاختلال الهائل والاستنزاف المادي، كما أثبت هذا النهج فشله أيضًا في تحقيق الهدف الرئيسي المتمثل في تحديد واحتواء ودحر تهديد الإرهاب، خاصة في الدول العربية التي عانت من الموت والدمار بمستويات تفوق بكثير ما شهدته الدول الغربية.
إذن، ممارسة جهود حثيثة ومستمرة بغية تأسيس نظام أمني وشرطي شرعي ومهني وخاضع للمساءلة، هو النهج الفاعل الوحيد القادر حقًا على مواجهة الإرهاب، والتغاضي عن هذه الإصلاحات سيسفر عن نتائج عكسية وكارثية.