الأربعاء، 1 يونيو 2016

"صفقة حياة أو موت": قصة ديون أمريكية للسعودية بقيت لغزاً طيلة 41 سنة

"صفقة حياة أو موت":
 قصة ديون أمريكية للسعودية بقيت لغزاً طيلة 41 سنة


الترجمة/ خدمة العصر

كشفت وزارة الخزانة الأميركية في مايو الماضي عن حجم استثمارات السعودية في سندات الخزانة الأميركية، للمرة الأولى، بعدما أبقت عليها سراً لأكثر من أربعة عقود. وأعلنت الوزارة في حينه أن حيازة السعودية من السندات الأميركية بلغت 116,8 مليار دولار حتى مارس الماضي.

وفي تحقيق مطول شمل وثائق من الأرشيف الوطني الأميركي وبرقيات دبلوماسية، روت الصحافية "أندريا وونغ" في موقع "بلومبرغ" الأميركي قصة الدين الأميركي الذي بقي سرياً طيلة 41 سنة، وكيف استطاع تاجر سندات إقناع المملكة بصفقة كانت بمثابة اتفاق" حياة أو موت" لأميركا وأعادت رسم العلاقات السعودية-الأميركية لأجيال.

وتعود "وونغ" في تقريرها إلى أحد أيام يوليو 1974 عندما صعد وليام سايمون، المعين حديثا وزيرًا للخزانة الأمريكية، ونائبه جيري بارسكي، على متن الطائرة المنطلقة في الثامنة صباحًا من قاعدة أندروز الجوية.

وكان الجو متوترًا، ففي تلك السنة، ضربت أزمة النفط البلاد جراء حظر الدول العربية للنفظ ردًا على الدعم الأمريكي لإسرائيل في حرب السادس من أكتوبر، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط أربعة أضعاف، إضافة إلى زيادة التضخم، وانهيار سوق الأسهم، وكان الاقتصاد الأمريكي في فوضى عارمة.

وقد دُفعت، رسميا، مصاريف رحلة سيمون لمدة أسبوعين على أنها جولة دبلوماسية اقتصادية في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، بما فيها حفلات التعارف ومآدب العشاء. ولكن المهمة الحقيقية، والتي كانت على درجة كبيرة من السرية ضمن الدائرة المقربة من الرئيس ريتشارد نيكسون، ستجري خلال توقف لمدة أربعة أيام في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية.

وكان الهدف هو تحييد النفط الخام كسلاح الاقتصادي وإيجاد وسيلة لإقناع المملكة السعودية المعادية لأمريكا لتمويل العجز الأمريكي الكبير من خلال ثروة البترودولار المكتشفة حديثا به. 
ووفقا لبارسكي، كانت تعليمات الرئيس نيكسون بعدم العودة إلا بعد التوقيع على الاتفاقيات الضرورية مع ممثلي المملكة. ذلك أن الفشل لن يؤدي إلى تقويض الوضع المالي الأمريكي فقط ولكن سيعطي الاتحاد السوفيتي فرصة لتعزيز علاقات ناجحة مع الدول العربية.

للوهلة الأولى، بدا سايمون غير مناسبًا لمثل هذه الدبلوماسية الحساسة. فقبل أن يستخدمه نيكسون، أدار سلسلة مكاتب سندات الخزانة لدى سلومون براذرز. وقبل أسبوع فقط من وصوله إلى السعودية، انتقد سايمون شاه إيران، الحليف الإقليمي الوثيق آنذاك، واصفًا إياه بأنه "مجنون".

ولكن سايمون، أفضل من أي شخص آخر، فهم خطورة الدين الحكومي الأمريكي، وكيف يبيع للسعوديين فكرة أن الولايات المتحدة هي المكان الأكثر أمانا لاستثمار عائداتهم النفطية. ومع هذه المعرفة، وضعت الإدارة الأمريكية خطة غير مسبوقة من شأنها أن تؤثر فقط عن جميع جوانب العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية على مدى العقود الأربعة المقبلة (سايمون توفي عام 2000 عن عمر يناهز 72 عامًا).

وكان الإطار الأساسي بسيط ولافت للنظر: أن تشتري الولايات المتحدة النفط السعودي وتوفر المساعدات والمعدات العسكرية للمملكة. وفي المقابل، على السعودية أن تستثمر المليارات من عائداتها النفطية مرة أخرى في شكل سندات الخزانة وتمويل الإنفاق الأمريكي.
وقال بارسكي إن الأمر استغرق عدة اجتماعات ومتابعة رصينة لتسوية كل التفاصيل. ولكن في النهاية، بعد شهور من المفاوضات، بقيت هناك نقطة صغيرة، ولكنها حاسمة: طلب الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود أن تظل مشتريات سندات الخزانة "سرية جدًا"، وفقا لبرقية دبلوماسية حصلت عليها "بلومبرغ" من قاعدة بيانات المحفوظات الوطنية.

وظل الأمر سرًا بين عدد قليل من مسئولي وزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الاتحادي لأكثر من أربعة عقود حتى الآن. 
وفي استجابة للطلب المقدم من وكالة أنباء بلومبرغ، وفقًا لقانون حرية المعلومات، كشفت وزارة الخزينة أسرار المملكة العربية السعودية للمرة الأولى هذا الشهر بعد "خلصت إلى أن أنه يتفق مع الشفافية وقانون الإفصاح عن البيانات"، وفقا للمتحدثة باسم الوزارة ويتني سميث.
وبهذا يجعل كنز 117 مليار دولار المملكة أحد أكبر الدائنين الأجانب للولايات المتحدة.

ولكن في جوانب كثيرة، أثارت المعلومات كثيرًا من الأسئلة أكثر مما أجاب. وقال مسئول الخزانة السابق، المتخصص في احتياطيات البنك المركزي والذي طلب عدم الكشف عن هويته، إن الرقم الرسمي يقلل إلى حد كبير من الاستثمارات السعودية في السندات الحكومية الأمريكية، والتي قد تكون أضعاف هذا الرقم.

ويمثل الرصيد الحالي 20% فقط من 587 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية، أقل بكثير من ثلثي ما تحتفظ به البنوك المركزية من أصول الدولارات عادة. ويتوقع بعض المحللين أن تكون المملكة قد أخفت ما لديها من ديون أمريكية من خلال تجميع سندات الخزانة عبر المراكز المالية الخارجية، والتي تظهر في بيانات دول أخرى.

واليوم أصبحت كمية ما لدى السعودية من ديون على الولايات المتحدة في الواقع أمر مهم أكثر من ذي قبل. 
وفي حين عمَّق انهيار أسعار النفط المخاوف من أن السعودية ستحتاج إلى تصفية سندات الخزانة لجمع الأموال، فقد برزت مخاوف أكثر مدعاة للقلق أيضًا: أن تستخدم المملكة موقفًا في أكثر أسواق الديون أهمية في العالم كسلاح سياسي، مثلما فعلت مع سلاح النفط في السبعينيات.

في أبريل الماضي، حذرت السعودية من أنها ستبدأ ببيع ما يقارب 750 مليار من سندات الخزانة وأصول أخرى إذا أقرّ الكونجرس مشروع قانون يحمل السعودية مسئولية الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر بالمحاكم الأمريكية، وذلك وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز".

ويأتي هذا التهديد وسط دفعة جديدة من قِبل مرشحين رئاسيين ومشرعين من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري لرفع السرية عن قسم يشمل 28 صفحة من تقرير للحكومة الأمريكية عام 2004، يُعتقد بأنه يشمل تفاصيل حول علاقات السعودية بالهجوم الإرهابي. ويناقش مشروع القانون هذا، والذي أقرّه مجلس الشيوخ في 17 مايو 2016، في مجلس النواب الآن.

ورفضت وزارة المالية السعودية التعليق على البيع المحتمل لسندات الخزانة رداً على ذلك. كما لم تجب مؤسسة النقد العربي السعودي فوراً على طلبات للحصول على تفاصيل عن الحجم الكلي لسندات ديون الحكومة الأميركية.

وتواجه المملكة العربية السعودية بالفعل أزمة مالية وحشية. وخلال العام الماضي وحده، بدّدت السلطة المالية 111 مليار دولار من الاحتياطات لتصل إلى أكبر عجز في ميزانيّتها خلال ربع قرن، حيث دفعت ثمن حروبٍ مكلفة لهزيمة تنظيم داعش وحملات دعم وكلائها ضد إيران. ورغم أن النفط استقر عند حوالي 50 دولار للبرميل (بعد أن كان أقل من 30 دولار بداية العام الجاري)، إلا أنه لا يزال أقل بكثير من الأعوام التي وصل فيها سعر برميل النفط الخام إلى 100 دولار.

وقد أصبح وضع المملكة سيئا لدرجة أنها اضطرت لبيع جوهرة من تاجها، وهي شركة النفط "أرامكو السعودية". وإضافةً إلى ذلك، فإن الالتزام بسياسة "الاعتماد المتبادل" بين الولايات المتحدة والسعودية، والتي يمتد عمرها لعقود بعد أن انبثقت من اتفاق ديون سايمون، بدأت بالتآكل، حيث اتخذت الولايات المتحدة خطواتٍ مبدئية للتقرّب من إيران، وكان أبرزها صفقة الرئيس باراك أوباما النووية العام الماضي. كما أنّ طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة جعلتها أقلّ اعتمادًا على النفط السعودي بكثير.

وقال ديفيد أوتاواي، باحث دراسات الشرق الأوسط في مركز وودرو ويلسون الدولي بواشنطن، إن "شراء السندات وكل ذلك كان إستراتيجية لإعادة تدوير البترودولار وإعادته إلى الولايات المتحدة"، لكن من الناحية السياسية "كانت دائما علاقة غامضة ومقيدة".

ووفقاً لبارسكي، الذي يشغل اليوم منصب رئيس مجموعة "أورورا كابيتال"، وهي شركة للأسهم الخاصة في لوس أنجلوس، فقد كان تشكيل تلك العلاقة (والسرية التي احتاجتها) عام 1974 سهلاً ولا يحتاج للتفكير، حيث كان الكثير من حلفاء الولايات المتحدة، بما فيها اليابان والمملكة المتحدة، يعتمدون بشدّة على النفط السعودي ويتنافسون بهدوء لجعل السعودية تعيد استثمار الأموال في اقتصاداتهم.

وقال جوردون براون، الضابط الاقتصادي لدى وزارة الخارجية بالسفارة الأمريكية في الرياض بين عامي 1976 و1978: "كان الجميع، يمن فيهم الولايات المتحدة، فرنسا، بريطاني واليابان يحاولون وضع أيديهم في جيوب السعودية".

أما بالنسبة للسعوديين، فقد لعبت السياسة دورًا كبيرًا في إصرارهم على أن تظل جميع استثمارات الخزانة مجهولة.

اندلعت التوترات بعد عشرة أشهر من حرب السادس من أكتوبر، وكان هناك عداء كبير في جميع أنحاء العالم العربي تجاه الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل. ووفقًا لبرقية دبلوماسية، كان أكبر مخاوف الملك فيصل هو انتهاء أموال النفط السعودي، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين يدي عدوّها الأكبر على هيئة مساعدات أمريكية إضافية.

حل مسئولو "وزارة الخزانة" المعضلة عن طريق السماح للسعوديين بالدخول من الباب الخلفي، كما سمحت الولايات المتحدة للسعودية بتجاوز عملية تقديم العطاءات التنافسية المعتادة لشراء سندات الخزانة. وأخفت هذه المبيعات -التي استُبعِدت من مجاميع المزاد الرسمية- كل أثر لوجود المملكة العربية السعودية في سوق سندات الحكومة الأمريكية.


وقال براون: "عندما وصلت إلى السفارة، قال لي الناس هناك إن هذا هو عمل الخزانة، وجرى التعامل مع كلّ ذلك بسريّة تامّة”.

وبحلول 1977، كانت السعودية قد راكمت 20% من مجموع سندات الخزانة في الخارج، وذلك وفقاً لكتاب البروفيسور ديفيد سبير من جامعة كولومبيا: "اليد الخفية للهيمنة الأمريكية: توظيف إيرادات إعادة التدوير والأسواق الدولية".

وجرى ترتيب استثناء آخر للسعودية عندما بدأت “وزارة الخزانة” إصدار تفاصيل ملكية ديون الولايات المتحدة لكل دولة. وبدل الكشف عن حيازات المملكة العربية السعودية، جمعتها “وزارة الخزانة” مع 14 دولة أخرى، كالكويت والإمارات العربية المتحدة و نيجيريا، تحت عنوان عام وهو “الدول المصدرة للنفط” في ممارسة استمرت لمدة 41 عامًا.


وجلب هذا النظام معه مشكلاته. فبعد أن أُتيحت إضافة وزارة الخزانة لبنوك مركزية أخرى، هدّد الطلب الأجنبي غير المعلن والخاطئ بدفع الولايات المتحدة فوق حد ديونها في عدة مناسبات.

وبيّنت مذكرة داخلية في أكتوبر 1976 تفاصيل عن كيفية جمع الولايات المتحدة دون قصد أكثر من ـ800 مليون دولار التي كانت تعزم اقتراضها في مزاد علني. وخلال ذلك الوقت، استخدم اثنان من البنوك المركزية مجهولة الهوية إضافاتٍ لشراء مبلغ إضافي قدره 400 مليون دولار من سندات الخزانة لكل منهما. وفي النهاية، حصل بنك واحد على حصته متأخرًا يومًا واحدًا لإبقاء الولايات المتحدة من تجاوز الحد.

وقد أخفيت معظم هذه المناورات والسقطات، وبذل كبار مسئولي وزارة الخزانة جهودًا مضنية للحفاظ على الوضع الراهن وحماية حلفائها في الشرق الأوسط خاصة مع زيادة المراجعة والتدقيق في أكبر دائني الولايات المتحدة.

وعلى مر السنين، تحولت وزارة الخزانة مرارا وتكرارا إلى الاستثمار والتجارة الدولية في قانون مراجعة الخدمات لعام 1976، والذي يحمي الأفراد في الدول التي تحتفظ بسندات الخزانة، كأول خط للدفاع.

واستمرت هذه الإستراتيجية حتى بعد أن اكتشف مكتب محاسبة الحكومة في تحقيق أجراه عام 1979، أنه "لا أساس إحصائي أو قانوني" للتعتيم. ولم يكن لدى المكتب أي سلطة لإجبار وزارة الخزانة على تسليم البيانات، لكنه خلص إلى أن الولايات المتحدة أقامت "التزامات خاصة من السرية المالية للمملكة العربية السعودية"، وربما غيرها من الدول الأعضاء في منظمة أوبك.

واعترف سايمون، الذي عاد إلى وول ستريت، في شهادته أمام الكونجرس أن "التقرير الإقليمي كان هو السبيل الوحيد الذي ستوافق عليه المملكة العربية السعودية" للاستثمار في الولايات المتحدة.

واليوم، يقول بارسكي إن الترتيب السري مع السعوديين كان ينبغي أن يُفكَك منذ سنوات، وأضاف أنه فوجئ بأن وزارة الخزانة أبقته في مكانه لفترة طويلة. ولكنه على الرغم من ذلك، أكد أنه غير نادم، مشيرًا إلى أن إتمام هذه الصفقة "كان إيجابيا لأمريكا".

**رابط التحقيق الأصلي: هنــــا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق