من جنايات التكفير على المسلمين |
محمد جلال القصاص
@mgelkassas
|
بسم الله الرحمن الرحيم
انتهى البغدادي سريعًا، وقبله تجربة أخرى مرت من قريب ولم تعط حقها من الدراسة، وهي تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر في نهاية القرن العشرين. انتشرت على مساحة واسعة من الأرض الجزائرية ولقيت تأيديًا كبيرًا من عوام المسلمين في شرقها وغربها، ثم انحسرت فجأة، ولم تلق حظها من الدراسة والتحليل. فقط علق عليها اثنان (أبو مصعب السوري، وعطية الله الليبي) وغلب على التعليق سرد الأحداث التي عايشوها والنكير على تصرف الغلاة دون استفاضة في البحث عن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تشريد الحركة الإسلامية في الجزائر حتى لم تظهر ثانية في الحراك الجماهيري المعاصر. ولو أننا بذلنا جهدًا في فهم التجربة الجزائرية ونشر تفاصيلٍ عن أسبابها. ولو أننا نهتم بدراسة وتحليل مثل هذه الظواهر.. في مرحلة الكمون ومرحلة البناء ومرحلة الديناميكية والفعل، لما تكررت مرة بعد مرة.
الذي قضى على "خلافة" البغدادي هو التكفير، أو بالأدق الإصرار على حسم كل خلاف وإقامة كيان لا خلاف فيه.. كيان غاية في التوحد، حتى في أدق التفاصيل.
عمل مبدأ "التكفير والإصرار على الحسم" كسكين حاد داخل التنظيم، فأدى إلى تفتيته وإيغار صدر من بقي فتفرق شملهم وركبهم عدوهم، ومضوا مثلًا للآخرين. وهنا لابد من إبراز عدد من الحقائق التي تقف بوضوح على ظهر الأحداث منذ الجهاد الأفغاني إلى اليوم:
أولها: وجود فئة غلقة متشنجة لا تقبل الخلاف مطلقًا، فقد كان بين العرب الأفغان من يكفر طالبان نفسها واشتهرت رسالة بعنوان (كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين)، ورد على هذه الرسالة أبو مصعب السوري بصوته وقلمه، وورد عليهم- كذلك- أبو قتادة وأبو محمد المقديسي وحدثت مشاجرة فكرية حول تفاصيل لا يهتم بها عوام المسلمين ولا خواصهم، اللهم فئة من الشباب حدثاء الأسنان هم الذين أخرجوها وأصروا على الحسم فيها تبعًا لرؤاهم الشخصية.
ثانيها: أن التكفير ينبع من عند الجاميين وليس فقط من عند القطبيين. فمع أن هؤلاء يظهرون الولاء التام للحكام إلا أن منهجيتهم هي هي بأم عينها منهجية التكفير. نقطة الارتكاز التي يتكئ عليها الجاميون هي عدم قبول الخلاف، أو الإصرار على الحسم، وما يتبع ذلك من تسفيه للمخالف والثورة عليه بما أمكن، فحين لا يكون بأيديهم إلا المنابر الخطابية فإنهم يمطرون من خالفهم، وإن كان منهم، بألسنة حداد؛ وحين يكون بأيديهم سلاح يَقتلون. وقد وُجدوا بين الحركة الجزائرية في التسعينات (فتش عن جمال زيتوني، وخليفته عنتر الزوابري، وهما نقطة الانحراف الرئيسية في التجربة الجزائرية) ووجدوا بين جماعة البغدادي (فتش عن أحمد عمر الحازمي).
ثالثها: أن التكفير استخدم- ويستخدم- كأداة لتبرير الانقضاض على الخصوم. ما يعرف بالتغلب. وهو مبدأ شائع بين الصحويين، ويأخذ درجات متفاوتة حسب ما يتاح في أيديهم من أدوات، فالدعويون حين يختلفون، أو بالأحرى حين يريدون الانفصال والاستقال عن غيرهم، يبدأ في السب والشتم والغيبة والنميمة وقد يصل الأمر إلى التعدي على الأعراض بدعوى (النهي عن المنكر) وبدعوى (محاربة المبتدعين) (اسقاط اللافتات الكاذبة). والمسلحون يتحدثون عن (كفر بواح) ومن ثم يقاتلون، كما فعلت جماعة البغدادي مع جماعة الجولاني، وكما فعلوا مع جماعة حطاب (مجموعة بداخلهم كانت تكفِّر البغدادي وتهيء لانقلاب عقدي).
رابعها: المطرد في قيام العَصَبيَّات (وليس العصابات) ومن ثم الدول هو التسامح والسعي للتجميع أيًا كانت طبيعة الدولة القائمة. وهو من مبشرات هلاك الموجودين الآن. فلا دولة بلا تسامح وسعي للم الشمل إذ أن الإصرار على الحسم يؤدي إلى تفتيت وانقسام داخلي وكل من يخرج بشجارٍ أو فصلٍ وعزلٍ تنتهي مصالحه ومن ثم مكاسبه وأحلامه فيجلس حولها يرمي عليها أو يتربص بها، ويخاف من بالداخل أن يصيبه ما أصابهم فيحتاط لنفسه. وينتهي في الغالب بصراع داخل الكتلة التي لا تتسامح، أو لاتتبنى إطارًا واسعًا يتناسب مع طبيعة الناس وتنوعهم.. يأكل بعضهم بعضًا.. ينشغلون بالحسم الداخلي وحماية المصالح الشخصية. ثم ينفجر مشهدهم.. أو يتهاوى فجأة كما حدث مع البغدادي ورفاقه.
خامسها: عند التأمل فيما يسمى بالخلاف العقدي نجد أن من أهم أسبابه: التعامل مع النص مباشرة دون سياقه الزماني والمكاني الذي نزل فيه ودون استحضار السياق الزماني والمكاني المعاصر، وبالتالي لا يتم مراعاة الفروق أو الأنسب في الاستحضار من الأحكام للمناط الذي نعالجه. فما يحدث الآن هو محاولة صناعة سياق مشابه لما قد كان في عهد الوحي، والصواب أن الوحي نموذج عملي يستطيع كل منا أن يقتبس منه ما يناسبه، فالرسول أسوة حسنة (قدوة عملية) في كل شيء. وما يحدث هو فئة قليلة تحاول فرض تصورها الخاص على غيرها. أحدهم في بيته أو في كهفه منغلق على نفسه ويظن الكل هكذا. أو أخذ نفسه بالشدة واستعذبها ويريد الكل أن يكون مثله، فيقرأ الشريعة بمنظوره ثم يحاول أن يلزم الجميع بمثل ما هو عليه. ولا يكون، فالضعيف أمير الركب كما جاء في الحديث.
سادسها: من يتأمل قليلًا في السيرة النبوية يعلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، غلب عليه العفو عن المخالفين من الخارج (الكفار) والداخل (المنافقين)- لم يزد الأمر مع المنافقين عن الفضيحة وكشف أفعالهم وبعض أشخاصهم ثم توعدوا بالقتل حين تمادوا-، حتى عوتب في كثرة عفوه وتسامحه. ومن الأمثلة على ذلك: عدم قتل أسارى بدر، والعفو عن بني طيء بلا مقابل، والعفو عن سيد بني حنيفة ثمامة بن آثال وكان غنيًا سيدًا، والعفو عن بني المصطلق، والعفو عن قريش يوم الفتح، والعفو عمن اختلق عذرًا من المنافقين يوم الأحزاب ويوم الحديبية ويوم تبوك (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ) (التوبة:43). هذا في الجانب العسكري وفي الجانب الاجتماعي كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يسمع الشعر وفيه الغزل العفيف من حسان ومن كعب بن زهير، وينصت للسادة الكرام الصحابة- رضوان الله عليهم- وهم يتذاكرون أيام الجاهلية، وكان يمازح أحدهم بحديثٍ عن (بعيره الشرود)، وكان يَقبل ممن يعتذر ولا يعنفه. إن سياسة مجتمع غير سياسة جندٍ حال القتال، وإنها دعوة إلى الله بالتي هي أحسن يظللها قول الله تعالى: (خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ)(الأعراف:199)
سابعها: لقي البغدادي ورفاقه دعمًا من عوام الصحوييين على أمل أن يكون سببًا في خلاصهم من الاستبداد القائم.. على أمل أن يزحف لدولهم ويزيل أنظمة الحكم المستبدة ويقيم دولة بلا مشاكل (طوباوية). ويسكتون عن تقييم التجربة ونقدها، تمامًا كما سكتوا عن تقييم تجربة الجزائر وتجربة القاعدة التي خربت أفغانستان وأعطت مبررًا لتخريب العراق والشام ومزيدٍ من نهب الثورات والتمركز على أرض المسلمين، فالسياق الذي ظهر فيه (الجهاديون) هو سياق غربي استهدف القضاء على السوفيت ومزيدٍ من التمدد شرقًا ومزيدٍ من التمكن من بلاد المسلمين ومحاصرة الصين لوقف تمددها.. ويشتعل (الجهاد) ويخبو بعوامل إقليمية ودولية. يسكتون بدعوى (حتى لا يشمت الأعداء). وهو الجهل، وهو الكسل. وهي الرغبة في نصر عاجل بقفزة واحدة. ولذات السبب أيدوا الهبات الشعبية في 2011م، مع أنها لا تسير وفق قناعاتهم العقدية، ظنوها تفتح الباب للحلم الكبير (الخلافة الإسلامية) حيث لا تعب ولا نصب، والله يقول: (وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡض)(محمد:4)، (وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡض فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرا) (الفرقان:20)٠
في كل مكانٍ تجربة فاشلة، ولا أحد يريد الدراسة والتقييم. تركوني وحيدًا أنادي بأن الثورات ليست إلا أدوات لتطوير المجتمعات في اتجاه مزيدٍ من التغريب، وأن الحركات المسلحة بوضعها الحالي أدوات في يد الأعداء يخرب بها المجتمعات ويعيد بناءها على قواعده لا على قواعدنا.
محمد جلال القصاص
غرة ربيع الأول 1441 أكتوبر2019 |
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الخميس، 31 أكتوبر 2019
من جنايات التكفير على المسلمين
الإطـراق الأخـير
الإطـراق الأخـير
إبراهيم السكران
2014-05-31
والله إنه لأمرٌ محرج أن يكون الله يوضح لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلين عن هذه الغاية القرآنية العظيمة، هل نحن حين نتلو القرآن نستحضر أن من مقاصد القرآن تعميق استحضار اليوم الآخر في النفوس؟ هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟
الحمد لله وبعد
إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليومية أصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحاً حتى تلقيك منهكاً فوق سريرك في أواخر المساء.
دوامٌ مضني، ورسالة جوال، ورسالة إيميل، وتعليق فيسبوكي، وخبر تويتري، ومقطع يوتيوبي، وتنقل بين الفضائيات، وصراخ منبهات في طرق مكتظة، وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم، الخ الخ
هل نظم الاتصالات المتقدمة هذه مشكلة، لا، قطعاً، بل هي نعمةٌ من الله يجب تسخيرها فيما يرضيه، لقد جنينا منها الكثير، نعم ربحنا، لكن لا أدري، أشعر أننا خسرنا “الصفاء” صفاء الذهن، وخلو البال، والتأمل الرقراق حين يتطامن السكون من حولك..
حين يكون الإنسان في فلاةٍ من الأرض، وتناديه عشرات الأصوات تتناهشه من كل جهة؛ فإنه لا يزداد إلا تيهاً وذهولاً.
ومع ذلك، ومع ذلك كله؛ فإن المؤمن تعتريه لحظات مفاجئة بين فينةٍ وأخرى تنتشله من هذا المسلسل المتماسك، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة، ويستعيد وعيه بالحقائق الكبرى.
لحظة الصدمة تقع دوماً حين يتذكر المؤمن لحظة لقاء الله، وقرب هذه اللحظة، وقد أشار القرآن إلى مفارقة مؤلمة، وهي شدة قرب لقاء الله، مع كون الإنسان يغفل كثيراً عن هذه الحقيقة، لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين، كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء، 1].
والقرآن أخبر عن المعاد بطرق كثيرة متنوعة جداً، ولا أظن باحثاً يستطيع أن يستوعب الآيات القرآنية التي شرحت بعض مشاهد القيامة، وهذه الكثافة الهائلة لهذه الآيات التي تربط العقل المسلم باليوم الآخر ليست عبثاً، ولم تكن كثرتها مصادفةً أو اعتباطاً، ولكنها لأغراض لا تخفى على المتأمل.
والحقيقة أنه من بين الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر لفت انتباهي وشدني كثيراً طائفةٌ من الآيات صورت الناس لحظة القيام من قبورهم، صورت تلك الآيات مشهد الذهول البشري، بالله عليك انظر كيف يصوِّر القرآن مشاعر المقصِّرين في ذلك اليوم:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42-43].
انظر كيف سنقوم من قبورنا شاخصةٌ أبصارنا، مهطعين أي مسرعين، ومقنعين رؤوسنا ننظر من شدة الأهوال، ومن شدة التحديق بحيث لا تطرف العين وصف القرآن هذه الحالة بأنهم {لا يرتد إليهم طرفهم}، ومن شدة الفزع والرعب وصف الله القلوب بأنها كأنها فارغة فقال: {وأفئدتهم هواء}.
ومن التصويرات القرآنية الأليمة لتلك اللحظات، تصوير لحظة الانكسار والذل والضعة التي تعتري المقصِّر، يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
بالله تخيل نفسك منكساً رأسك في ذلك اليوم تتمنى العودة لدار العمل، وافجيعتاه.
بل وصف الله الخجل والذل في ذلك اليوم وصفاً آخر يجعل الإنسان ينظر مسارقةً كما يقول تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45].
والإنسان الذليل الخائف يسودّ وجهه، وتعلوه القتامة حتى كأن الليل البهيم يعلو محياه، كما قال تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27].
أرأيت وجهاً كأنه الليل؟! يالذلِّ ذلك اليوم.
ومن الصور القرآنية التي تنخلع لها القلوب صورة الجثو على الركب في ذلك اليوم، فترى الناس مستوفزين لا يصيب الأرض منهم إلا ركبهم وأطراف أقدامهم، كما قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28-29].
وكما وصف الله القلوب أنها من شدة فزعها كأنما هي خالية {وأفئدتهم هواء}، فإنه في موضع آخر وصف الله القلب من شدة الرعب بأنه من شدة خفقانه كأنما صعد للحنجرة مع الصمت المطبق: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18].
وثمة آيات أخرى كثيرة تصف الذعر الشديد، وذهول الناس في ذلك اليوم.
وفي ست مواضع من كتاب الله وصف الله ذلك اليوم بأنه {بغتة} أي: مفاجئ، فياليت شعري على أي حالٍ سيباغتنا ذلك اليوم.
بل إن الله تعالى تمدَّح بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل لكي ينبهوا الناس على اليوم الآخر، فجعل الله من أعظم وظائف الوحي تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله، كما قال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر:15].
والله إنه لأمرٌ محرج أن يكون الله يوضح لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلين عن هذه الغاية القرآنية العظيمة، هل نحن حين نتلو القرآن نستحضر أن من مقاصد القرآن تعميق استحضار اليوم الآخر في النفوس؟ هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟
حين ننشغل بدنيانا ونغفل عن هذا اليوم القادم، فنحن لا نغفل عن يومٍ عادي بتاتاً، إننا نغفل عن يوم وصفه كتاب الله بقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27].
هذا الإطراق، وخشوع الأبصار، وتنكيس الرؤوس، وفراغ القلوب من الرعب، والجثو على الركب، في ذلك اليوم العصيب، ما سببه؟ لماذا تتيبس الأعصاب وتتجمد الأطراف؟ لا شك أن ذلك بسبب هول العذاب، وخجل الأعمال، ولكن ثمة أمر آخر أعظم من ذلك كله، وهو جلال وهيبة الله تعالى إذ يتجلى لذلك اليوم، سبب الإطراق إدراك الجميع لـعظمة الله، إنه الرحمن جل وعلا تخشع له الأصوات في ذلك اليوم المهول: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108]، وقال جل شأنه عن ذلك اليوم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111].
حسناً .. كلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قرب لقاء الله؛ فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، سيشعر كأنما قام قلبه باستحمام إيماني يزيل عنه العوالق والأوضار، ستتغير نظرته لكثير من الأمور.
ومن أهم ما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس الزهد في الفضول، فضول النظر، وفضول السماع، وفضول الكلام، وفضول الخلطة.
ومما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس الإقبال على القرآن، فيعيد المثقف المسلم صياغة شخصيته الفكرية على ضوء القرآن، لأن الله في هذا اللقاء العصيب القادم سيحاسبنا على ضوء هذا القرآن، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ . فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:65-66].
وإنه والله لغاية الخسارة أن يبني المثقف المسلم شخصيته من كتب فكرية منحرفة، هل رأيت أخسر ممن يترك النبع ويترشف المستنقعات؟!
ومما يصنعه استحضار لقاء الله في النفوس إقبال المرء على نفع إخوانه المسلمين في دينهم ودنياهم، في دينهم مثل: تعليم الناس معاني كلام الله ورسوله، ودنياهم مثل: حاجات المسلمين الطبية والهندسية والسياسية والاقتصادية ونحوها، وأي تهييجٍ لهذه المنزلة أشرف من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (صحيح مسلم [7028]).
فمن استحضر لقاء الله هل يستطيع أن يتجاهل دماء إخوانه المسلمين في ليبيا واليمن وسوريا؟ هل يستطيع أن يتجاهل إخوانه السنة في البحرين؟
ومما يصنعه كثرة استحضار لقاء الله الاستخفاف بالجاه في عيون الخلق، والتعلق بالجاه عند الله جل وعلا، وماذا يغني عنك ثناء الناس وأنت تعرف من خطاياك ما لو علموه لما صافحوك؟! من وضع بين عينيه لقاء الله، والمنزلة عند الله، وكيف ستبدِّل الآخرة من منازل الناس بشكل انقلابي كما قال تعالى عن الآخرة {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]، من استحضر ذلك كله؛ علم رخص الشهرة والظهور والرياسة، وكسد سوقُها في قلبه، وأيقن أنها أهدافٌ في غاية التفاهة بحيث لا تستحق دقيقة جهد، فضلاً عن أن يذهب عناء السنين في العلم والعمل لأجل مديح الناس.
يا ألله كيف يدع الإنسان جبار السموات والأرض، وينصرف قلبه لمخلوق ضعيف مثله يتوسل مديحه ويتزين لثنائه؟! وأين الله من الناس؟!
ولذا فوصيتي لنفسي وأخي القارئ أنه كلما اصطدت نيتك وقد التفتت إلى المخلوقين فتذكر مباشرة قوله تعالى {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل من الآية:59].
والله أعلم.
المصدر: مدونة الشيخ
حالات حرجة.. شهادة صحفي سوري على الثورة في بلاده
حالات حرجة.. شهادة صحفي سوري على الثورة في بلاده
لم يعرف الشاب السوري هادي العبد الله كليات ومعاهد الإعلام، وحين قصّر به مجموعه الكلي عن دخول كلية الطب وصل إليها من باب آخر ليتخصص في التمريض، فكل ما كان يهمه في مهنة الطب أنها تحارب الألم.
قطعته الثورة السورية -التي انفجرت في مارس/آذار 2011- عن استكمال المسار الذي رسمه لنفسه، ولكنه أصبح صوت ثورة شعبه حين أطل على العالم عبر شاشة الجزيرة بأول ظهور له في أبريل/نيسان 2012.
قطعته الثورة السورية -التي انفجرت في مارس/آذار 2011- عن استكمال المسار الذي رسمه لنفسه، ولكنه أصبح صوت ثورة شعبه حين أطل على العالم عبر شاشة الجزيرة بأول ظهور له في أبريل/نيسان 2012.
في كتاب قيد الإصدار، يحكي هادي العبد الله (32 عاما) يومياته مع الثورة السورية، فيقدمها -كقصة ضمير إنساني- تحت عنوان "حالات حرجة.. من يومياتي في الثورة السورية 2011-2019".
يحكي الكتاب قصص يوميات الحرب وما فيها من فجائع وموت يبدؤها بالحالة التي كان يعيشها لحظة اندلاع الثورة، وكيف انتقل من محاضر في معهد للتمريض إلى مراسل سري ينقل للقنوات الإخبارية تفاصيل فظاعات نظام الأسد، وما يفعله بثوار حمص، وكيف كان يتخفى تحت أسماء عدة، ويجتهد في تغيير صوته وتعتيم هويته حتى لا تناله يد النظام الباطشة.
هادي العبد الله يحكي في مذكراته قصص يوميات الحرب وما فيها من فجائع وموت
ويروي هادي كيف استخفى بعمله عن جميع الناس حتى عن أهله، ما عدا أمه التي أطلعها على مهمته الثورية، فكانت تقف بكل صمود الجنود على باب غرفته في الطابق العلوي لتحرسه وهو يؤدي مهمته، يهمس في الهاتف للقنوات فيعود الصوت إلى البيت ليجد صداه في الطابق السفلي، وينطلق من شاشة التلفاز التي يتابع عليها والده الأخبار فيدعو الشيخ لهذا المراسل بالخير وهو لا يدري أنه ولده، ثم ينادي ابنه ليستمع إلى أخبار المظاهرات لعله يتحمس فيلحق بها.
يحكي هادي -وهو اسم مستعار- كيف اختار اسما مستعارا ليخفي هويته في بدايات تواصله مع الشبكات الإخبارية، كان هذا الاسم "سمير فتحي"، ومع تطور أحداث الثورة وتشديد النظام قبضته على الناشطين شعر هادي بأن النظام قد اقترب من "سمير فتحي"، وأنه لم يعد بينه وبين الاعتقال إلا اجتهاد شبيح أو جندي.
احتال هادي لينقذ نفسه بأن قتل "سمير فتحي" هذا، ورمى الخبر إلى وكالات الأنباء فطارت به، وأذاعته "الجزيرة"، وأقامت قناة "وصال" الحداد عليه لثلاثة أيام.. لكن هذه الموتة لم تقضِ عليه، فقام منها ليصبح "هادي العبد الله".
كشف هادي تورط مقاتلي حزب الله اللبناني في دماء أهل مدينة القصير السورية في وقت لم تكن الشبكات الإخبارية تصدق أحاديث الثوار عن مشاركة حزب الله في معارك القصير.
كُتبت هذه اليوميات كما تكتب الملاحم البطولية، فهادي يحكي فيها كيف كان يتعرض للموت فيشيح عنه تارة، وتارة يلامسه الموت بأصابعه، فحتى الشظية التي اخترقت رأسه وقفت على بعد سنتيمتر واحد من دماغه.
سرد هادي قصصه مع رفاق النضال من المصورين الذين كانوا يتنقلون بصحبته على خريطة الموت السورية، بدءا بمصوره الأول طرّاد الزهوري، ثم مصوره الثاني خالد العيسى، إضافة إلى رائد فارس وحمود جنيد، وكلهم أدركتهم يد الموت.
لقد كان في قصص رحيل هؤلاء الرفاق أكبر تلخيص لقصة الثورة السورية المغدورة التي وقعت بين فكي كماشة لا ترحم: النظام السوري، والفصائل المسلحة، فالمصور طرّاد ذهب ضحية هجمات النظام الوحشي، أما الثلاثة الآخرون فاغتالتهم يد التطرف اللعينة.
إسطنبول.. حفل توقيع كتاب "حالات حرجة"
للناشط هادي العبد الله
يجيء كتاب هادي العبد الله كثاني مذكرات شخصية تسترجع أحداث الثورة السورية من داخل الصف الثوري بعد مذكرات برهان غليون "عطب الذات"، وهو يقدم بذلك صفحات من دفتر نضال الشباب العرب الطامحين للحرية والعدالة
الصراع التاريخي بين مصر وإثيوبيا على مياه النيل
الصراع التاريخي بين مصر وإثيوبيا على مياه النيل
مايجري الآن يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية البانية للسد تدعمها دوائر تريد تحويل الماء لسلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها لإسرائيل، وتحويل السد لأداة سياسة وتجفيف وتجويع مصر.
عامر عبد المنعم
أكد آبي أحمد أن بلاده ستحشد مليون إثيوبي إذا اضطرت لخوض حرب مع مصر بشأن سد النهضة
ظل النيل عبر العصور هو محور الأمن القومي المصري، وسواء كان الحكم مصريًا أو احتلالا أجنبيا، قديما أوحديثا، لم يفرط في النهر الذي يعتبر شريان الحياة للشعب المصري، وبدونه تنهار الدولة كما حدث في المجاعات التي ضربت مصر بسبب عدم قدوم الفيضان.
ما رأيناه من تفريط في النيل وتوقيع عبد الفتاح السيسي للإثيوبيين بالموافقة على بناء سد النهضة الذي سيحجز مياه الفيضان يتناقض مع كل ثوابت الأمن القومي المتوارثة، ويشكل تهديدا خطيرا لبقاء الدولة المصرية.
لا يمكن لدولة أن تتناسى التاريخ والجغرافيا وهي تتعامل مع قضايا استراتيجية وفي مقدمتها الماء مصدر الحياة، ولا يمكن تمرير الانقلاب على أسس التفكير المنطقي في أهم شأن يهم المصريين ومستقبلهم، ولا تفاوض حول الحق في شربة الماء.
على جدران المعابد الفرعونية توجد صور الحروب التي خاضها الفراعنة، وتظهر الانتصارات التي حققتها الجيوش المصرية لتأمين منابع النيل، وتنتشر صور الأسرى من بلاد النوبة ومملكة كوش ومن القرن الأفريقي وكيف أخضع الملوك المصريين وادي النيل.
الفراعنة ونهر النيل
كانت كوش هي نهاية الممالك الجنوبية حتى منابع النيل، وما بعدها قبائل بدائية متناثرة تخضع لنفوذ دولة النوبة، وكانت علاقة مصر بسكان وادي النيل ودية في فترات وعدائية في بعض الأحيان؛ لدرجة أن الكوشيين عبدوا الفرعون المصري سنوسرت الثالث أبرز ملوك الدولة الوسطى فاتح كوش حتى الشلال الثالث.
التاريخ الفرعوني يوضح أن أحمس أول ملوك الأسرة 18 تمكن من تحرير مصر من الهكسوس بمعاونة الكوشيين، إلا أن تحتمس الأول ثالث ملوك هذه الأسرة غزا بلاد كوش بسبب تمردها، وانتصر عليها وولى على البلاد التي فتحها أمراء نوبيين.
وفي عهد الأسرة 19 سجل الملك رمسيس الثاني انتصاراته على الحيثيين والكوشيين، وتجسد الصور المحفورة على الحجارة قوة الدولة المصرية وتغلبها على الأمم الآسيوية والأفريقية، ومنها صورة لأمير كوش وهو يقف ذليلا أمامه.
لقد دامت سلطة مصر على وادي النيل حتى الشلال الرابع حتى نهاية فرعون موسي وغرق الجيش المصري في البحر الأحمر، حيث انشغل المصريون في عهد الأسرة 20 بالفتن الداخلية والحروب مع آسيا، وبدأ نجم الكوشيين يعلو في مصر في نهاية الأسرة 22 ونجحوا في الاستيلاء على الصعيد في آخر الأسرة 23 ثم حكموا مصر كلها عندما بدأ الزحف النوبي الكبير بقيادة بعنخي الذي سيطر على كل الأراضي المصرية لتبدأ الأسرة 25 النوبية وكان من أشهر ملوكها طهراقة.
إثيوبيا ليس لها تاريخ حضاري
لم يكن لإثيوبيا أي حضارة في العصور القديمة، ولم يكن لهم ذكر في عصور مصر الفرعونية، ولم يكن بعد كوش حتى منابع النيل ممالك أخرى، وما ورد في كتب علماء المصريات الأجانب من وصف النوبة وبلاد كوش بأنهم إثيوبيين ليس صحيحا، وترجع هذه التسمية لكتب الإغريق القديمة التي كانت تصف السكان ذوي البشرة السوداء من أسوان وما بعدها جنوبا من ممالك السودان بالإثيوبيين.
كان الأحباش وهم خليط من قبائل وثنية يتحدثون لغات متنوعة يعيشون فوق الهضبة الإثيوبية متفرقين، وكان أول ظهور لمملكة أكسوم الحبشية في القرن الأول بعد ميلاد المسيح، واتسعت مساحتها في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك عيزانا الذي هزم مملكة مروي السودانية واعتنق المسيحية على يد الرومان، وامتد حكم الحبشة إلى اليمن على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
دخل الأحباش إلى اليمن عام 525 م، بعد واقعة قتل نصارى نجران على يد ملك حمير ذو نواس الذي اعتنق اليهودية، واستمروا في اليمن حتى قبيل ظهور الإسلام بسنوات وتم طردهم على يد الفرس، وقص لنا القرآن الكريم قصة إبرهة الأشرم في سورة الفيل، الذي بنى كنيسة أسماها القليس، وأراد أن يحج لها العرب؛ ولهذا قرر هدم الكعبة فسلط الله عليهم الطير الأبابيل وكانت القصة المشهورة.
وفي عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان ملك الحبشة النجاشي، الذي استقبل الصحابة في هجرتهم الأولى، واستمع منهم للقرآن، ووفر لهم الحماية، وتشير كتب السيرة إلى أنه أسلم بعد ذلك وصلى النبي عليه صلاة الغائب، وبسبب هذه العلاقة الودية لم يسع المسلمون الأوائل لفتح بلاد الحبشة.
حملات الخديوي إسماعيل
أراد الخديوي إسماعيل أن يكمل ما بدأه جده محمد علي، الذي مد الحكم المصري إلى شرق السودان ووصل إلى حدود الحبشة، وقرر إسماعيل الوصول إلى منابع النيل، ولكنه اعتمد على الأجانب الذين ورطوه وتآمروا عليه وغدروا به في النهاية.
عين إسماعيل الإنجليزي صمويل بيكر رئيسا لحملة الكشف عن منابع النيل، وخلفه جوردون الذي حكم كل السودان المصري بعد ذلك، فدرس الإنجليز المنطقة جيدا واستغلوا السلطة المصرية في وضع أقدامهم في منابع النيل والقرن الأفريقي، ثم طرد مصر من هناك بعد احتلال القاهرة والقطر المصري.
تورط إسماعيل في حروب لم يستعد لها مع الحبشة، بسبب استجابته لمجموعة من المغامرين الأمريكيين والأوربيين الكاثوليك الذين أوهموه بأنهم يريدون مساعدته في فتح بلاد الإثيوبيين الأرثوذكس.
من الأسباب التي شجعت الإنجليز لاحتلال مصر هزيمة الجيش المصري في إثيوبيا وخسائر القوات المصرية، وضياع هيبة الجيش المصري الذي حقق انتصارات كبرى تحت قيادة إبراهيم باشا، وكما يقول الرافعي في كتابه "عصر اسماعيل" بأنها "الحرب العقيم والعقبة الكأداء التي أتت بالهزيمة والخسران".
حروب مصر في الحبشة
وصلت القوات المصرية إلى الصومال وضمت السودان للحكم المصري، ووافقت مملكة أوغندا على التبعية لمصر، وكان الحلم الذي راود إسماعيل هو أن يجعل النيل كله مصريا بعد ان أحاط بالحبشة من كل الجهات، فأغراه المرتزقة الأجانب الذين كان يعتمد عليهم وعينهم قادة للجيوش المصرية، وأوهموه بأن فتح الحبشة سهل بقوات صغيرة فكانت الهزائم المتتالية.
في عام 1875 استطاع الكولونيل الدانمركي أندروب إقناع اسماعيل بفتح الحبشة فوافق له ومعه أراكيل بك الأرمني بتكوين حملة تتكون من 3200 مقاتل وبطاريتين من المدافع، فاستعد لها الملك الإثيوبي يوحنا في جونديت ومعه 30 ألف جندي، وانتصر على المصريين، وغنم أسلحتهم وذخائرهم.
الحملة الثانية متزامنة مع الأولى قادها المسيو متزنجر السويسري الذي عينه الخديوي محافظا لسواحل البحر الأحمر وشرق السودان، لتأديب الملك الإثيوبي، تتكون من 2000 عسكري، وحاول متزنجر استغلال الخلافات بين الزعماء الإثيوبيين فوقع في فخ نصب له، وتم القضاء على الحملة والاستيلاء على أسلحتهم في كمين محكم في عدوة.
فلما علم الخديوي بالخسارة أصر على الانتقام فجرد جيشا يتكون من 15 ألف مقاتل وأربعون مدفعا بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال الأمريكي وليم لورنج الذي شارك في الحرب الأهلية الأمريكية وتم تعيينه رئيسا لأركان الجيش المصري، فاستعد الأحباش بجيش يتكون من 300 ألف مقاتل بقيادة يوحنا الذي أعلنها حربا مسيحية ضد الإسلام، ففتكوا بالجيش المصري في قرع في مارس 1876 وقتلوا منهم 10 آلاف وأسروا 267 رجلا وغنموا بنادق القتلى والمدافع والذخائر.
وكان الزعيم احمد عرابي مشاركا في الحملة، مسؤلا عن المهام الإدارية إلا أنه تم استبعاده في بداية الحملة بسبب خلافات مع قائد شركسي، وقد حكي في مذكراته تفاصيل الخيانة التي قام بها القادة الأجانب للجيش المصري وتحالفهم مع الأحباش للقضاء على المصريين، وأشار عرابي إلى أن جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين ألقوا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم وريطوا في أعناقهم مناديل بيضاء دلالة على أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم عند اختلاط الجيشين حسب الاتفاق مع قس كاثوليكي كان حلقة الوصل مع الأحباش.
ومن العجيب أن الملك يوحنا الذي هزم المصريين تلقى هزيمة ساحقة بعد ذلك، في عام 1889 أمام السودانيين الذين قتلوه ومزقوا جيشه بسبب النزاع على الحدود، وعثر المهديون على جثة يوحنا وقطعوا رأسه وأرسلوها إلى أم درمان، حيث وضعوها على قصبة وطافوا بها في في الشوارع.
خطط تحويل مياه النيل
حرمان مصر من مياه النيل كان هدفا للقوى الأوربية المعادية، التي فكرت في منع النهر من الوصول إلى مصر لتعطيش وتجويع المصريين، وهذه بعض الوقائع توضح كيف أن منع وصول النيل إلى مصر كان هدفا قديما للصليبية الغربية:
الواقعة الأولى في بداية القرن السادس عشر مع قدوم البرتغاليين إلى المنطقة حيث لم يكتف الاستعمار البرتغالي بخنق مصر اقتصاديا وضرب الملاحة في المحيط الهندي، والقضاء على الحركة التجارية للعرب والمماليك؛ ففكروا في تعطيش المصريين وحرمانهم من النيل!
ففي عام 1513 دخل القائد البرتغالي البوكيرك البحر الأحمر وقال في مذكراته إنه اتفق مع ملك الحبشة -الذي تحرق شوقا- لتحويل مجرى النهر ليحرم مصر من الماء، وانتظر في جزر كمران لحين وصول مجموعات كبيرة من العمال التي طلبها من جزر ماديرا لقطع صخور البحر الأحمر وتحويل مجرى النيل الأزرق.
لكن أحلام البوكيرك تحطمت عندما قرر التوجه إلى جدة لغزو المدينة المنورة ونبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمساومة المسلمين على مبادلة الجثمان الشريف بكنيسة القيامة بالقدس، حيث جاء العقاب الرباني وهاجت العواصف على الحملة ودمرت بعض السفن، وشاهد البرتغاليون شهابا لامعا يخرج من ناحية الحجاز، يشع منه وهج ولهب توقف فوق الأسطول ثم اتجه ناحية الحبشة، فسيطر الرعب على البوكيرك وجنوده، فقرر الرجوع الى الهند مذعورا، وكتب هذه الواقعة في مذكراته.
الواقعة الثانية هي اتفاق لويس الرابع عشر ملك فرنسا عام 1705 مع ياسو ملك الحبشة على تحويل مجرى النيل الأزرق، وأرسل المسيو لانوار دي رول محملا بالهدايا للقيام بالمهمة فأرسل المصريون إلى مملكة سنار فتم اعتراضه وقتله ومن معه، وكانت الواقعة سببا في حرب بين الحبشة وسنار انتهت بهزيمة الأحباش.
الواقعة الثالثة أثناء النزاع بين مصر وإثيوبيا في عهد الخديوي سعيد على الحدود الشرقية للسودان حيث كتب القنصل الفرنسي في مصر بنديتي في رسائله إلى حكومته في نوفمبر 1856 أن الامبراطور الإثيوبي تيودور يهدد بالإغارة على السودان المصري ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله صوب البحر الأحمر!
والواقعة الرابعة مع الاستعمار الحديث بعد سيطرة الإيطاليين على الحبشة عام 1936 حيث فكروا في تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر ومنعها من الوصول الى مصر، لكنهم اصطدموا بالتضاريس التي جعلت عملية التنفيذ ليست بالسهولة التي توقعوها، كما أن الإنجليز لم يمهلوهم وتدخلوا وأخرجوا إيطاليا من إثيوبيا عام 1941.
هذه النظرة السريعة إلى التاريخ القديم والحديث تكشف لنا أهمية النيل لمصر والمصريين، وكيف كان حكام مصر ينظرون إليه كمحور رئيس للأمن القومي وشنوا من أجله الحروب، كما توضح كيف استهدفت الدول المعادية النهر للقضاء على القوة المصرية.
ما يجري في الوقت الحاضر يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية التي تبني السد تقف خلفها دوائر تريد امتلاك النهر وتحويل الماء إلى سلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها إلى "إسرائيل" وأيضا تحويل السد الإثيوبي إلى أداه سياسية يتم توظيفها لتحقيق أهداف استراتيجية تصب كلها في تجفيف مصر وتجويع أهلها والقضاء على الدولة التي ارتبطت الحياة فيها بالنيل منذ ظهور الحضارة على الأرض.
ظل النيل عبر العصور هو محور الأمن القومي المصري، وسواء كان الحكم مصريًا أو احتلالا أجنبيا، قديما أوحديثا، لم يفرط في النهر الذي يعتبر شريان الحياة للشعب المصري، وبدونه تنهار الدولة كما حدث في المجاعات التي ضربت مصر بسبب عدم قدوم الفيضان.
ما رأيناه من تفريط في النيل وتوقيع عبد الفتاح السيسي للإثيوبيين بالموافقة على بناء سد النهضة الذي سيحجز مياه الفيضان يتناقض مع كل ثوابت الأمن القومي المتوارثة، ويشكل تهديدا خطيرا لبقاء الدولة المصرية.
لا يمكن لدولة أن تتناسى التاريخ والجغرافيا وهي تتعامل مع قضايا استراتيجية وفي مقدمتها الماء مصدر الحياة، ولا يمكن تمرير الانقلاب على أسس التفكير المنطقي في أهم شأن يهم المصريين ومستقبلهم، ولا تفاوض حول الحق في شربة الماء.
على جدران المعابد الفرعونية توجد صور الحروب التي خاضها الفراعنة، وتظهر الانتصارات التي حققتها الجيوش المصرية لتأمين منابع النيل، وتنتشر صور الأسرى من بلاد النوبة ومملكة كوش ومن القرن الأفريقي وكيف أخضع الملوك المصريين وادي النيل.
ما رأيناه من تفريط في النيل وتوقيع عبد الفتاح السيسي للإثيوبيين بالموافقة على بناء سد النهضة الذي سيحجز مياه الفيضان يتناقض مع كل ثوابت الأمن القومي المتوارثة، ويشكل تهديدا خطيرا لبقاء الدولة المصرية.
لا يمكن لدولة أن تتناسى التاريخ والجغرافيا وهي تتعامل مع قضايا استراتيجية وفي مقدمتها الماء مصدر الحياة، ولا يمكن تمرير الانقلاب على أسس التفكير المنطقي في أهم شأن يهم المصريين ومستقبلهم، ولا تفاوض حول الحق في شربة الماء.
على جدران المعابد الفرعونية توجد صور الحروب التي خاضها الفراعنة، وتظهر الانتصارات التي حققتها الجيوش المصرية لتأمين منابع النيل، وتنتشر صور الأسرى من بلاد النوبة ومملكة كوش ومن القرن الأفريقي وكيف أخضع الملوك المصريين وادي النيل.
الفراعنة ونهر النيل
كانت كوش هي نهاية الممالك الجنوبية حتى منابع النيل، وما بعدها قبائل بدائية متناثرة تخضع لنفوذ دولة النوبة، وكانت علاقة مصر بسكان وادي النيل ودية في فترات وعدائية في بعض الأحيان؛ لدرجة أن الكوشيين عبدوا الفرعون المصري سنوسرت الثالث أبرز ملوك الدولة الوسطى فاتح كوش حتى الشلال الثالث.
التاريخ الفرعوني يوضح أن أحمس أول ملوك الأسرة 18 تمكن من تحرير مصر من الهكسوس بمعاونة الكوشيين، إلا أن تحتمس الأول ثالث ملوك هذه الأسرة غزا بلاد كوش بسبب تمردها، وانتصر عليها وولى على البلاد التي فتحها أمراء نوبيين.
وفي عهد الأسرة 19 سجل الملك رمسيس الثاني انتصاراته على الحيثيين والكوشيين، وتجسد الصور المحفورة على الحجارة قوة الدولة المصرية وتغلبها على الأمم الآسيوية والأفريقية، ومنها صورة لأمير كوش وهو يقف ذليلا أمامه.
لقد دامت سلطة مصر على وادي النيل حتى الشلال الرابع حتى نهاية فرعون موسي وغرق الجيش المصري في البحر الأحمر، حيث انشغل المصريون في عهد الأسرة 20 بالفتن الداخلية والحروب مع آسيا، وبدأ نجم الكوشيين يعلو في مصر في نهاية الأسرة 22 ونجحوا في الاستيلاء على الصعيد في آخر الأسرة 23 ثم حكموا مصر كلها عندما بدأ الزحف النوبي الكبير بقيادة بعنخي الذي سيطر على كل الأراضي المصرية لتبدأ الأسرة 25 النوبية وكان من أشهر ملوكها طهراقة.
التاريخ الفرعوني يوضح أن أحمس أول ملوك الأسرة 18 تمكن من تحرير مصر من الهكسوس بمعاونة الكوشيين، إلا أن تحتمس الأول ثالث ملوك هذه الأسرة غزا بلاد كوش بسبب تمردها، وانتصر عليها وولى على البلاد التي فتحها أمراء نوبيين.
وفي عهد الأسرة 19 سجل الملك رمسيس الثاني انتصاراته على الحيثيين والكوشيين، وتجسد الصور المحفورة على الحجارة قوة الدولة المصرية وتغلبها على الأمم الآسيوية والأفريقية، ومنها صورة لأمير كوش وهو يقف ذليلا أمامه.
لقد دامت سلطة مصر على وادي النيل حتى الشلال الرابع حتى نهاية فرعون موسي وغرق الجيش المصري في البحر الأحمر، حيث انشغل المصريون في عهد الأسرة 20 بالفتن الداخلية والحروب مع آسيا، وبدأ نجم الكوشيين يعلو في مصر في نهاية الأسرة 22 ونجحوا في الاستيلاء على الصعيد في آخر الأسرة 23 ثم حكموا مصر كلها عندما بدأ الزحف النوبي الكبير بقيادة بعنخي الذي سيطر على كل الأراضي المصرية لتبدأ الأسرة 25 النوبية وكان من أشهر ملوكها طهراقة.
إثيوبيا ليس لها تاريخ حضاري
لم يكن لإثيوبيا أي حضارة في العصور القديمة، ولم يكن لهم ذكر في عصور مصر الفرعونية، ولم يكن بعد كوش حتى منابع النيل ممالك أخرى، وما ورد في كتب علماء المصريات الأجانب من وصف النوبة وبلاد كوش بأنهم إثيوبيين ليس صحيحا، وترجع هذه التسمية لكتب الإغريق القديمة التي كانت تصف السكان ذوي البشرة السوداء من أسوان وما بعدها جنوبا من ممالك السودان بالإثيوبيين.
كان الأحباش وهم خليط من قبائل وثنية يتحدثون لغات متنوعة يعيشون فوق الهضبة الإثيوبية متفرقين، وكان أول ظهور لمملكة أكسوم الحبشية في القرن الأول بعد ميلاد المسيح، واتسعت مساحتها في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك عيزانا الذي هزم مملكة مروي السودانية واعتنق المسيحية على يد الرومان، وامتد حكم الحبشة إلى اليمن على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
دخل الأحباش إلى اليمن عام 525 م، بعد واقعة قتل نصارى نجران على يد ملك حمير ذو نواس الذي اعتنق اليهودية، واستمروا في اليمن حتى قبيل ظهور الإسلام بسنوات وتم طردهم على يد الفرس، وقص لنا القرآن الكريم قصة إبرهة الأشرم في سورة الفيل، الذي بنى كنيسة أسماها القليس، وأراد أن يحج لها العرب؛ ولهذا قرر هدم الكعبة فسلط الله عليهم الطير الأبابيل وكانت القصة المشهورة.
وفي عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان ملك الحبشة النجاشي، الذي استقبل الصحابة في هجرتهم الأولى، واستمع منهم للقرآن، ووفر لهم الحماية، وتشير كتب السيرة إلى أنه أسلم بعد ذلك وصلى النبي عليه صلاة الغائب، وبسبب هذه العلاقة الودية لم يسع المسلمون الأوائل لفتح بلاد الحبشة.
كان الأحباش وهم خليط من قبائل وثنية يتحدثون لغات متنوعة يعيشون فوق الهضبة الإثيوبية متفرقين، وكان أول ظهور لمملكة أكسوم الحبشية في القرن الأول بعد ميلاد المسيح، واتسعت مساحتها في القرن الرابع الميلادي في عهد الملك عيزانا الذي هزم مملكة مروي السودانية واعتنق المسيحية على يد الرومان، وامتد حكم الحبشة إلى اليمن على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
دخل الأحباش إلى اليمن عام 525 م، بعد واقعة قتل نصارى نجران على يد ملك حمير ذو نواس الذي اعتنق اليهودية، واستمروا في اليمن حتى قبيل ظهور الإسلام بسنوات وتم طردهم على يد الفرس، وقص لنا القرآن الكريم قصة إبرهة الأشرم في سورة الفيل، الذي بنى كنيسة أسماها القليس، وأراد أن يحج لها العرب؛ ولهذا قرر هدم الكعبة فسلط الله عليهم الطير الأبابيل وكانت القصة المشهورة.
وفي عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان ملك الحبشة النجاشي، الذي استقبل الصحابة في هجرتهم الأولى، واستمع منهم للقرآن، ووفر لهم الحماية، وتشير كتب السيرة إلى أنه أسلم بعد ذلك وصلى النبي عليه صلاة الغائب، وبسبب هذه العلاقة الودية لم يسع المسلمون الأوائل لفتح بلاد الحبشة.
حملات الخديوي إسماعيل
أراد الخديوي إسماعيل أن يكمل ما بدأه جده محمد علي، الذي مد الحكم المصري إلى شرق السودان ووصل إلى حدود الحبشة، وقرر إسماعيل الوصول إلى منابع النيل، ولكنه اعتمد على الأجانب الذين ورطوه وتآمروا عليه وغدروا به في النهاية.
عين إسماعيل الإنجليزي صمويل بيكر رئيسا لحملة الكشف عن منابع النيل، وخلفه جوردون الذي حكم كل السودان المصري بعد ذلك، فدرس الإنجليز المنطقة جيدا واستغلوا السلطة المصرية في وضع أقدامهم في منابع النيل والقرن الأفريقي، ثم طرد مصر من هناك بعد احتلال القاهرة والقطر المصري.
تورط إسماعيل في حروب لم يستعد لها مع الحبشة، بسبب استجابته لمجموعة من المغامرين الأمريكيين والأوربيين الكاثوليك الذين أوهموه بأنهم يريدون مساعدته في فتح بلاد الإثيوبيين الأرثوذكس.
من الأسباب التي شجعت الإنجليز لاحتلال مصر هزيمة الجيش المصري في إثيوبيا وخسائر القوات المصرية، وضياع هيبة الجيش المصري الذي حقق انتصارات كبرى تحت قيادة إبراهيم باشا، وكما يقول الرافعي في كتابه "عصر اسماعيل" بأنها "الحرب العقيم والعقبة الكأداء التي أتت بالهزيمة والخسران".
عين إسماعيل الإنجليزي صمويل بيكر رئيسا لحملة الكشف عن منابع النيل، وخلفه جوردون الذي حكم كل السودان المصري بعد ذلك، فدرس الإنجليز المنطقة جيدا واستغلوا السلطة المصرية في وضع أقدامهم في منابع النيل والقرن الأفريقي، ثم طرد مصر من هناك بعد احتلال القاهرة والقطر المصري.
تورط إسماعيل في حروب لم يستعد لها مع الحبشة، بسبب استجابته لمجموعة من المغامرين الأمريكيين والأوربيين الكاثوليك الذين أوهموه بأنهم يريدون مساعدته في فتح بلاد الإثيوبيين الأرثوذكس.
من الأسباب التي شجعت الإنجليز لاحتلال مصر هزيمة الجيش المصري في إثيوبيا وخسائر القوات المصرية، وضياع هيبة الجيش المصري الذي حقق انتصارات كبرى تحت قيادة إبراهيم باشا، وكما يقول الرافعي في كتابه "عصر اسماعيل" بأنها "الحرب العقيم والعقبة الكأداء التي أتت بالهزيمة والخسران".
حروب مصر في الحبشة
وصلت القوات المصرية إلى الصومال وضمت السودان للحكم المصري، ووافقت مملكة أوغندا على التبعية لمصر، وكان الحلم الذي راود إسماعيل هو أن يجعل النيل كله مصريا بعد ان أحاط بالحبشة من كل الجهات، فأغراه المرتزقة الأجانب الذين كان يعتمد عليهم وعينهم قادة للجيوش المصرية، وأوهموه بأن فتح الحبشة سهل بقوات صغيرة فكانت الهزائم المتتالية.
في عام 1875 استطاع الكولونيل الدانمركي أندروب إقناع اسماعيل بفتح الحبشة فوافق له ومعه أراكيل بك الأرمني بتكوين حملة تتكون من 3200 مقاتل وبطاريتين من المدافع، فاستعد لها الملك الإثيوبي يوحنا في جونديت ومعه 30 ألف جندي، وانتصر على المصريين، وغنم أسلحتهم وذخائرهم.
الحملة الثانية متزامنة مع الأولى قادها المسيو متزنجر السويسري الذي عينه الخديوي محافظا لسواحل البحر الأحمر وشرق السودان، لتأديب الملك الإثيوبي، تتكون من 2000 عسكري، وحاول متزنجر استغلال الخلافات بين الزعماء الإثيوبيين فوقع في فخ نصب له، وتم القضاء على الحملة والاستيلاء على أسلحتهم في كمين محكم في عدوة.
فلما علم الخديوي بالخسارة أصر على الانتقام فجرد جيشا يتكون من 15 ألف مقاتل وأربعون مدفعا بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال الأمريكي وليم لورنج الذي شارك في الحرب الأهلية الأمريكية وتم تعيينه رئيسا لأركان الجيش المصري، فاستعد الأحباش بجيش يتكون من 300 ألف مقاتل بقيادة يوحنا الذي أعلنها حربا مسيحية ضد الإسلام، ففتكوا بالجيش المصري في قرع في مارس 1876 وقتلوا منهم 10 آلاف وأسروا 267 رجلا وغنموا بنادق القتلى والمدافع والذخائر.
وكان الزعيم احمد عرابي مشاركا في الحملة، مسؤلا عن المهام الإدارية إلا أنه تم استبعاده في بداية الحملة بسبب خلافات مع قائد شركسي، وقد حكي في مذكراته تفاصيل الخيانة التي قام بها القادة الأجانب للجيش المصري وتحالفهم مع الأحباش للقضاء على المصريين، وأشار عرابي إلى أن جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين ألقوا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم وريطوا في أعناقهم مناديل بيضاء دلالة على أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم عند اختلاط الجيشين حسب الاتفاق مع قس كاثوليكي كان حلقة الوصل مع الأحباش.
ومن العجيب أن الملك يوحنا الذي هزم المصريين تلقى هزيمة ساحقة بعد ذلك، في عام 1889 أمام السودانيين الذين قتلوه ومزقوا جيشه بسبب النزاع على الحدود، وعثر المهديون على جثة يوحنا وقطعوا رأسه وأرسلوها إلى أم درمان، حيث وضعوها على قصبة وطافوا بها في في الشوارع.
في عام 1875 استطاع الكولونيل الدانمركي أندروب إقناع اسماعيل بفتح الحبشة فوافق له ومعه أراكيل بك الأرمني بتكوين حملة تتكون من 3200 مقاتل وبطاريتين من المدافع، فاستعد لها الملك الإثيوبي يوحنا في جونديت ومعه 30 ألف جندي، وانتصر على المصريين، وغنم أسلحتهم وذخائرهم.
الحملة الثانية متزامنة مع الأولى قادها المسيو متزنجر السويسري الذي عينه الخديوي محافظا لسواحل البحر الأحمر وشرق السودان، لتأديب الملك الإثيوبي، تتكون من 2000 عسكري، وحاول متزنجر استغلال الخلافات بين الزعماء الإثيوبيين فوقع في فخ نصب له، وتم القضاء على الحملة والاستيلاء على أسلحتهم في كمين محكم في عدوة.
فلما علم الخديوي بالخسارة أصر على الانتقام فجرد جيشا يتكون من 15 ألف مقاتل وأربعون مدفعا بقيادة راتب باشا ومعه الجنرال الأمريكي وليم لورنج الذي شارك في الحرب الأهلية الأمريكية وتم تعيينه رئيسا لأركان الجيش المصري، فاستعد الأحباش بجيش يتكون من 300 ألف مقاتل بقيادة يوحنا الذي أعلنها حربا مسيحية ضد الإسلام، ففتكوا بالجيش المصري في قرع في مارس 1876 وقتلوا منهم 10 آلاف وأسروا 267 رجلا وغنموا بنادق القتلى والمدافع والذخائر.
وكان الزعيم احمد عرابي مشاركا في الحملة، مسؤلا عن المهام الإدارية إلا أنه تم استبعاده في بداية الحملة بسبب خلافات مع قائد شركسي، وقد حكي في مذكراته تفاصيل الخيانة التي قام بها القادة الأجانب للجيش المصري وتحالفهم مع الأحباش للقضاء على المصريين، وأشار عرابي إلى أن جميع أركان الحرب الأوربيين والأمريكيين ألقوا طرابيشهم الرسمية ولبسوا قبعاتهم وريطوا في أعناقهم مناديل بيضاء دلالة على أنهم مسيحيون ليأمنوا على أنفسهم عند اختلاط الجيشين حسب الاتفاق مع قس كاثوليكي كان حلقة الوصل مع الأحباش.
ومن العجيب أن الملك يوحنا الذي هزم المصريين تلقى هزيمة ساحقة بعد ذلك، في عام 1889 أمام السودانيين الذين قتلوه ومزقوا جيشه بسبب النزاع على الحدود، وعثر المهديون على جثة يوحنا وقطعوا رأسه وأرسلوها إلى أم درمان، حيث وضعوها على قصبة وطافوا بها في في الشوارع.
خطط تحويل مياه النيل
حرمان مصر من مياه النيل كان هدفا للقوى الأوربية المعادية، التي فكرت في منع النهر من الوصول إلى مصر لتعطيش وتجويع المصريين، وهذه بعض الوقائع توضح كيف أن منع وصول النيل إلى مصر كان هدفا قديما للصليبية الغربية:
الواقعة الأولى في بداية القرن السادس عشر مع قدوم البرتغاليين إلى المنطقة حيث لم يكتف الاستعمار البرتغالي بخنق مصر اقتصاديا وضرب الملاحة في المحيط الهندي، والقضاء على الحركة التجارية للعرب والمماليك؛ ففكروا في تعطيش المصريين وحرمانهم من النيل!
ففي عام 1513 دخل القائد البرتغالي البوكيرك البحر الأحمر وقال في مذكراته إنه اتفق مع ملك الحبشة -الذي تحرق شوقا- لتحويل مجرى النهر ليحرم مصر من الماء، وانتظر في جزر كمران لحين وصول مجموعات كبيرة من العمال التي طلبها من جزر ماديرا لقطع صخور البحر الأحمر وتحويل مجرى النيل الأزرق.
لكن أحلام البوكيرك تحطمت عندما قرر التوجه إلى جدة لغزو المدينة المنورة ونبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمساومة المسلمين على مبادلة الجثمان الشريف بكنيسة القيامة بالقدس، حيث جاء العقاب الرباني وهاجت العواصف على الحملة ودمرت بعض السفن، وشاهد البرتغاليون شهابا لامعا يخرج من ناحية الحجاز، يشع منه وهج ولهب توقف فوق الأسطول ثم اتجه ناحية الحبشة، فسيطر الرعب على البوكيرك وجنوده، فقرر الرجوع الى الهند مذعورا، وكتب هذه الواقعة في مذكراته.
الواقعة الثانية هي اتفاق لويس الرابع عشر ملك فرنسا عام 1705 مع ياسو ملك الحبشة على تحويل مجرى النيل الأزرق، وأرسل المسيو لانوار دي رول محملا بالهدايا للقيام بالمهمة فأرسل المصريون إلى مملكة سنار فتم اعتراضه وقتله ومن معه، وكانت الواقعة سببا في حرب بين الحبشة وسنار انتهت بهزيمة الأحباش.
الواقعة الثالثة أثناء النزاع بين مصر وإثيوبيا في عهد الخديوي سعيد على الحدود الشرقية للسودان حيث كتب القنصل الفرنسي في مصر بنديتي في رسائله إلى حكومته في نوفمبر 1856 أن الامبراطور الإثيوبي تيودور يهدد بالإغارة على السودان المصري ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله صوب البحر الأحمر!
والواقعة الرابعة مع الاستعمار الحديث بعد سيطرة الإيطاليين على الحبشة عام 1936 حيث فكروا في تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر ومنعها من الوصول الى مصر، لكنهم اصطدموا بالتضاريس التي جعلت عملية التنفيذ ليست بالسهولة التي توقعوها، كما أن الإنجليز لم يمهلوهم وتدخلوا وأخرجوا إيطاليا من إثيوبيا عام 1941.
هذه النظرة السريعة إلى التاريخ القديم والحديث تكشف لنا أهمية النيل لمصر والمصريين، وكيف كان حكام مصر ينظرون إليه كمحور رئيس للأمن القومي وشنوا من أجله الحروب، كما توضح كيف استهدفت الدول المعادية النهر للقضاء على القوة المصرية.
ما يجري في الوقت الحاضر يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية التي تبني السد تقف خلفها دوائر تريد امتلاك النهر وتحويل الماء إلى سلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها إلى "إسرائيل" وأيضا تحويل السد الإثيوبي إلى أداه سياسية يتم توظيفها لتحقيق أهداف استراتيجية تصب كلها في تجفيف مصر وتجويع أهلها والقضاء على الدولة التي ارتبطت الحياة فيها بالنيل منذ ظهور الحضارة على الأرض.
الواقعة الأولى في بداية القرن السادس عشر مع قدوم البرتغاليين إلى المنطقة حيث لم يكتف الاستعمار البرتغالي بخنق مصر اقتصاديا وضرب الملاحة في المحيط الهندي، والقضاء على الحركة التجارية للعرب والمماليك؛ ففكروا في تعطيش المصريين وحرمانهم من النيل!
ففي عام 1513 دخل القائد البرتغالي البوكيرك البحر الأحمر وقال في مذكراته إنه اتفق مع ملك الحبشة -الذي تحرق شوقا- لتحويل مجرى النهر ليحرم مصر من الماء، وانتظر في جزر كمران لحين وصول مجموعات كبيرة من العمال التي طلبها من جزر ماديرا لقطع صخور البحر الأحمر وتحويل مجرى النيل الأزرق.
لكن أحلام البوكيرك تحطمت عندما قرر التوجه إلى جدة لغزو المدينة المنورة ونبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمساومة المسلمين على مبادلة الجثمان الشريف بكنيسة القيامة بالقدس، حيث جاء العقاب الرباني وهاجت العواصف على الحملة ودمرت بعض السفن، وشاهد البرتغاليون شهابا لامعا يخرج من ناحية الحجاز، يشع منه وهج ولهب توقف فوق الأسطول ثم اتجه ناحية الحبشة، فسيطر الرعب على البوكيرك وجنوده، فقرر الرجوع الى الهند مذعورا، وكتب هذه الواقعة في مذكراته.
الواقعة الثانية هي اتفاق لويس الرابع عشر ملك فرنسا عام 1705 مع ياسو ملك الحبشة على تحويل مجرى النيل الأزرق، وأرسل المسيو لانوار دي رول محملا بالهدايا للقيام بالمهمة فأرسل المصريون إلى مملكة سنار فتم اعتراضه وقتله ومن معه، وكانت الواقعة سببا في حرب بين الحبشة وسنار انتهت بهزيمة الأحباش.
الواقعة الثالثة أثناء النزاع بين مصر وإثيوبيا في عهد الخديوي سعيد على الحدود الشرقية للسودان حيث كتب القنصل الفرنسي في مصر بنديتي في رسائله إلى حكومته في نوفمبر 1856 أن الامبراطور الإثيوبي تيودور يهدد بالإغارة على السودان المصري ويريد تحويل مجرى النيل حتى يجعله صوب البحر الأحمر!
والواقعة الرابعة مع الاستعمار الحديث بعد سيطرة الإيطاليين على الحبشة عام 1936 حيث فكروا في تحويل مياه النيل الأزرق إلى البحر الأحمر ومنعها من الوصول الى مصر، لكنهم اصطدموا بالتضاريس التي جعلت عملية التنفيذ ليست بالسهولة التي توقعوها، كما أن الإنجليز لم يمهلوهم وتدخلوا وأخرجوا إيطاليا من إثيوبيا عام 1941.
هذه النظرة السريعة إلى التاريخ القديم والحديث تكشف لنا أهمية النيل لمصر والمصريين، وكيف كان حكام مصر ينظرون إليه كمحور رئيس للأمن القومي وشنوا من أجله الحروب، كما توضح كيف استهدفت الدول المعادية النهر للقضاء على القوة المصرية.
ما يجري في الوقت الحاضر يكمل سيرة العداوة القديمة، فالشركات الغربية التي تبني السد تقف خلفها دوائر تريد امتلاك النهر وتحويل الماء إلى سلعة يبيعونها لنا، ويوصلوها إلى "إسرائيل" وأيضا تحويل السد الإثيوبي إلى أداه سياسية يتم توظيفها لتحقيق أهداف استراتيجية تصب كلها في تجفيف مصر وتجويع أهلها والقضاء على الدولة التي ارتبطت الحياة فيها بالنيل منذ ظهور الحضارة على الأرض.
الشرق الأوسط الجديد في التصور الأميركي الصهيوني
الشرق الأوسط الجديد في التصور الأميركي الصهيوني
د.عبد الوهاب المسيري
الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، مفكر عربي إسلامي
تردد في الآونة الأخيرة مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" وهو سليل مجموعة من المصطلحات الأخرى مثل "النظام العالمي الجديد، الشرق الأوسط الكبير". وقد ظننا أن مثل هذه المصطلحات قد دفنت بلا رجعة. ولكن بعد الهجوم الإسرائيلي على لبنان في الحرب الأخيرة، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية أن الشرق الأوسط الجديد سيولد من رحم هذه الحرب. فما هو هذا الشرق الأوسط الجديد؟ هل هو بالفعل جديد؟!
يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه.
وقد غُرست إسرائيل في قلب هذه المنطقة لتحقيق هذا الهدف. فعالم عربي يتسم بقدر من الترابط وبشكل من أشكال الوحدة يعني أنه سيشكل ثقلا إستراتيجيا واقتصاديا وعسكريا، ويشكل عائقا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية.
"قال شمعون بيريز: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن. وهذه هي الرؤية التي طرحها برنارد لويس منذ السبعينيات والتي تبناها المحافظون الجدد وتدور السياسة الأميركية في إطارها"
وفي إطار الوحدة والتماسك تشكل إسرائيل جسما غريبا تلفظه المنطقة مما يعوق قيامها بدورها الوظيفي، كقاعدة للمصالح الغربية. اما في إطار عالم عربي مقسم إلى دويلات إثنية ودينية بحيث تعود المنطقة إلى ما قبل الفتح الإسلامي، أي منطقة مقسمة إلى دويلة فرعونية في مصر وأخرى أشورية بابلية في العراق وثالثة آرامية في سوريا ورابعة فينيقية في لبنان، وعلى القمة تقف دولة عبرية متماسكة مدعومة عسكريا من الولايات المتحدة في فلسطين.
ففي إطار التقسيم تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل وقائدة. فالتقسيم هو في واقع الأمر عملية تطبيع للدولة الصهيونية التي تعاني من شذوذها البنيوي، باعتبارها جسداً غريباً غرس غرساً بالمنطقة العربية.
وكما قال شمعون بيريز: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل إذن. وهذه هي الرؤية التي طرحها برنارد لويس منذ السبعينيات وتبناها المحافظون الجدد، وتدور السياسة الأميركية في إطارها.
ويبدو أن الولايات المتحدة بعد أن ذاقت مرارة الفشل في العراق وأفغانستان قررت أن تعهد لإسرائيل بتنفيذ مخططها الاستعماري بحيث تقوم بتدمير لبنان وحكومتها فيتحول لبنان إلى بلد ديمقراطي على الطريقة العراقية، أي يدور في فلك المصالح الأميركية.
وتتساقط قطع الدومينو العربى، الواحدة تلو الأخرى، كما تنبأ برنارد لويس، وقد أكد وليام كريستول (من المحافظين الجدد) أن هذه فرصة للولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة مرة أخرى في المنطقة.
وفي مقال بعنوان "الولايات المتحدة متواطئة مع إسرائيل في تحطيم لبنان" يقول المعلق الأميركي بول كريغ روبرتس (الموقع الإلكتروني 25 يوليو/ تموز 2006) إن ما نشاهده في الشرق الأوسط هو تحقق خطة المحافظين الجدد في تحطيم أي أثر للاستقلال العربي الإسلامي، والقضاء على أي معارضة للأجندة الإسرائيلية.
وهذا التصور للشرق الأوسط ينطلق من تصور أن التاريخ متوقف تماما بهذه المنطقة، وأن الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعا أعمى للولايات المتحدة.
وأن هذا الشرق العربي مجرد مساحة أو منطقة بلا تاريخ ولا تراث مشترك تقطنها جماعات دينية وإثنية لا يربطها رابط وليس لها ذاكرة تاريخية ولا إحساس بالكرامة، فالعربي مخلوق مادي اقتصادي تحركه الدوافع المادية الاقتصادية.
"التصور للشرق الأوسط ينطلق من تصور أن التاريخ متوقف تماما بهذه المنطقة، وأن الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعا أعمى للولايات المتحدة"
هذا هو الإطار الذي يتحرك داخله رالف بيترز، وهو ضابط متقاعد يحمل رتبة مقدم، وضع مخططاً لإعادة تقسيم الشرق الأوسط (في مقال نشر بمجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد يونيو/ حزيران 2006، نقلا عن مقال لبيان الحوت "الشرق الأوسط الجديد مشروع أميركي محكوم بالفشل" 9/8/2006). ولا تعود أهمية المقال إلى عمقه أو إمكانية تحققه، وإنما إلى أنه يبين ما الذي يدور في خلد دعاة الشرق الأوسط الجديد، خاصة وأن الذي كتبه شخص مسؤول كان يعمل بالاستخبارات العسكرية الأميركية.
ينطلق بيترز مما يسميه الظلم الفادح الذي لحق بالأقليات حين تم تقسيم الشرق الأوسط أوائل القرن العشرين (يقصد اتفاقية سايكس بيكو) مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أو الشعوب التي خدعت حين تم التقسيم الأول" ويذكر أهمها: الأكراد، والشيعة العرب.
كما يشير إلى مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين. ويرى بيترز أن ثمة كراهية شديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه. (والنموذج الكامن هناك هو الدولة الصهيونية القائمة على الدين والقومية وامتزاجهما).
ثم يقدم بيترز خريطته للشرق الأوسط الجديد فيتحدث عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، دولة كردية بالشمال، ودولة شيعية بالجنوب، ودولة سُنية بالوسط ستختار الانضمام إلى سوريا مع مرور الزمن.
ويصف المقدم المتقاعد السعودية بأنها دولة غير طبيعية، ويقترح أن يقتطع منها كل من مكة والمدينة المنورة حتى تنشأ فيها "دولة إسلامية مقدسة" على رأسها مجلس يترأسه بالتناوب أحد ممثلي الحركات والمدارس الإسلامية الرئيسية، أي أن يكون المجلس نوعا من "فاتيكان إسلامي أعلى".
كما يقترح إضافة الأرض المقتطعة من شمالي السعودية إلى الأردن، وأن تقتطع أرض من جنوبي البلاد كي تضاف إلى اليمن، وأما شرقي البلاد فلن تسلم أيضا من المقص، إذ تقتطع منها حقول النفط لمصلحة دولة شيعية عربية.
أما المملكة الأردنية الهاشمية فستحتفظ بأراضيها وتضاف إليها أرض من شمالي السعودية، كما سيرتبط "مستقبل الضفة الغربية بها".
أما الإمارات فيطلق السيد بيترز عليها اسم "الدولة المدينية" (تشبها بالمدن اليونانية قديما) وقد يُدمج بعضها مع الدولة العربية الشيعية التي تلتف حول الخليج الفارسي، وستصبح قوة توازُن مقابل الدولة الفارسية لا حليفا لها.
"بيترز في مخططه للشرق الأوسط: سيستمر جنودنا، رجالا ونساء، في الحرب من أجل الأمن والسلام ضد الإرهاب، من أجل فرصة نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها"
أما دبي، فيتكرم عليها بالسماح كي تبقى مسرحا للأغنياء الفاسقين (كما ورد) وأما عُمان والكويت، فتحتفظ كل منهما بأراضيها. ويفترض أن إيران، وفقا لهذا المشروع الجهنمي، ستفقد الكثير من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة، والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها تكسب أراضي من أفغانستان حول هيرات. ويطرح رالف بيترز تصوره بأن إيران سوف تصبح في النهاية بلدا إثنيا فارسيا من جديد.
ينتهي السيد بيترز إلى أن تعديل الحدود بناء على رغبات الناس قد يكون مستحيلا، لكنه من الممكن أن تنشأ حدود جديدة مع الزمن. فتعديل حدود الشرق الأوسط الأكبر، بناء على روابط الدم الطبيعية والعقيدة الدينية، ضرورة ملحة لحقن الدماء!! ومن هنا مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها!
ويختتم الرجل مخططه بقوله "سيستمر جنودنا، رجالا ونساء، في الحرب من أجل الأمن والسلام ضد الإرهاب، من أجل فرصة نشر الديمقراطية، ومن أجل حرية الوصول إلى منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها".
وهذا التصور للشرق الأوسط الجديد لصيق للغاية بالرؤية الصهيونية منذ بدايتها، فقبل إنشاء الدولة الصهيونية بعدة أعوام قال بن جوريون "إن عقب أخيل (أي نقطة الضعف) في الائتلاف العربي هى سيادة المسلمين في لبنان فهى سيادة زائفة، يمكن بسهولة قهرها".
وبدلاً من ذلك ستقوم دولة مسيحية تكون حدودها الجنوبية على نهر الليطاني، وستكون الدولة الصهيونية على استعداد لتوقيع معاهدة مع هذه الدولة. "وبعد أن نكسر الفيلق العربي ونضرب عمان بالقنابل، سوف يكون بإمكاننا إزالة دولة الأردن، وبعد ذلك سوف تسقط سوريا، وإذا اجترأت مصر على محاربتنا فسوف نقصف بورسعيد والإسكندرية والقاهرة، وهكذا ننهي الحرب ونقضي قضاء مبرماً على مصر، وآشور بالنيابة عن أسلافنا".
وقد حاول شارون وضع الجزء الخاص بلبنان في هذا المخطط موضع التنفيذ عام 1982، ولكن المقاومة اللبنانية اضطرته للانسحاب إلى الجنوب ثم إلى الدولة الصهيونية! ولكن شارون نجح بالآونة الأخيرة في تحقيق التطابق الكامل بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الإمبراطورية الأميركية بإعلان حرب لا نهاية لها ضد الإرهاب، كما نجح في الجمع بين سياسة التوسع الاستيطاني وضم الأراضي ونهج الفصل العنصري ووافقته الولايات المتحدة على ذلك ودعمته.
وقد أعطى هذا دفعة للأوهام الإسرائيلية مرة أخرى. انظر علي سبيل المثال إلى موقف جيورا آيلاند رئيس شعبة العمليات بالجيش الإسرائيلي سابقاً، والرئيس السابق لمجلس الأمن الوطني المسؤول عن وضع الإستراتيجية الأمنية للدولة الصهيونية.
فقد طرح خطته لإعادة تنظيم الشرق الأوسط (في حديث له مع آري شفيط من صحيفة هآرتس) فاقترح ضم 12% من الضفة الغربية (600 كلم2) إلى الدولة الصهيونية و600 كلم2 أخري من مصر تُضم إلى قطاع غزة ويوطن فيها مليون نسمة (لإقامة ميناء بحري ومطار دولي) على أن تعطى مصر 150 كلم2 في النقب تعويضاً لها".
وقد قام عبقري آخر وهو جاي بخور (في يديعوت أحرونوت يوم 27/7/2006) بتقديم خطته لإعادة صياغة الشرق الأوسط. والخطة لا تعدو أن تكون شكلا من أشكال الأحلام المتورمة، ولكنها مع هذا تعطينا فكرة عما يدور في خلد الولايات المتحدة وإسرائيل.
"نجح شارون بالآونة الأخيرة في تحقيق التطابق الكامل بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الإمبراطورية الأميركية في إعلان حرب لا نهاية لها ضد الإرهاب، كما نجح في الجمع بين سياسة التوسع الاستيطاني والفصل العنصري, وقد أعطى هذا دفعة للأوهام الإسرائيلية في المنطقة "
فالمقال يزعم أن هذه الحرب تدافع عن "جوهر" الغرب، دون أن يذكر لنا ما هو هذا الجوهر؟ وهل الهدف من هذه الحرب هو إقامة العدل وتحقيق السلام أم فرض الهيمنة ونهب الشعوب؟
يبدأ المقال بالقول إنه يجب عدم العودة للشرق الأوسط القديم الذي يصفه الكاتب بأنه "توجد فيه دولة ذات نظام مجنون تتسلح بسلاح ذري وتسلح رفيقاتها (وهذا بطبيعة الحال لا يعني إسرائيل) والعراق غارق في حرب أهلية، ومنظمات راديكالية تسيطر علي حكومات ونظم حكم، وهذه بدورها تمنح جماعات مخربين مسلحة دعماً قوياً وعلاقة متسامحة.
ثم يستأنف العبقري الحديث قائلا: ثمة حاجة إلى تغيير جوهري، فلم تنجح هذه الدول في منح مواطنيها حياة ثقافية كاملة، ومعظم شعوبها فقيرة، وهي دول تتسم كلها بالطغيان ولا تُنطق كلمة الديمقراطية ولو في دولة واحدة، وإذا ما تمت محاولة ديمقراطية في بعضها، فإن النتيجة تكون تولي نظم إرهابية إسلامية أو فوضى". (ولنلاحظ التناقض الذي يقع فيه هذا العبقري، فهو يرفض الطغيان العربي، ولكنه يجد أن الديمقراطية تؤدي إلى الإرهاب الإسلامي).
ولعلاج هذا الوضع يقترح جاي بخور "أن يُقسم العراق إلى ثلاث دول، بحسب مقياس طائفي: سُنية في الوسط والغرب، وشيعية في الجنوب، وكردية في الشمال، كما يجب إنهاء نظام سوريا وإعادة الأكثرية السُنية إلى الحكم.
وعلي الأردن أن يتحمل المسؤولية عن الضفة الغربية، وبهذا ينشأ كيان فلسطيني واحد فينتشر الفلسطينيون إلى الشرق (بعيدا عن إسرائيل بطبيعة الحال) لا إلى الغرب في اتجاه الدولة الصهيونية والمطالبة بحق العودة.
أما مصر فستصبح مسؤولة عن قطاع غزة، وهو شيء –حسب تصوره- أصبح يحدث في الواقع أكثر فأكثر. ويجب إعاقة إيران بواسطة نظام عقوبات شامل، ويجب أن يقوم في لبنان نظام دولي جنوب الدولة وشرقها، لمنع عودة الأصولية الشيعية أو غيرها.
وماذا عن شعوب المنطقة؟ هل هي مستعدة لتقسيم جديد (سماه المفكر الإستراتيجي العربي منير شفيق سايكس بيكو الثاني: تقسيم ما هو مقسم وتجزئة ما هو مجزء)؟ يري هذا العبقري الجهبذ أن الشعوب سترحب أيما ترحيب بهذا، بينما سيعارضه الحكام وحدهم.
"فسكان العراق يشتاقون إلى الاستقرار، ومن المؤكد أن الأكثرية السُنية في سوريا تطمح إلى إنهاء سلطة القلة العلوية، وفي الأردن 80% في الأصل من السكان فلسطينيون، والملك متزوج بفلسطينية، وأبناؤه نصف فلسطينيين.
"مخطط بخور وكل المخططات الأخرى المماثلة نابعة من غطرسة القوة، حين يتصور إنسان أنه يمكنه أن يفعل ما يشاء طالما أن موازين القوى في صالحه، وطالما أن استعداداته العسكرية تفوق استعدادات الخصم، وطالما أن التاريخ قد توقف"
وسيفرح سكان الضفة الغربية أيضاً بإنشاء دولة فلسطينية كبيرة. وفيما يتعلق بمصر، من المعقول أنها تدرك اليوم أن غزة الفائرة تعني سيناء الخطرة، وتهديد السياحة والاستقرار السياسي والاجتماعي كله.
ثم يختم جاي بخور حديثه بالقول إنه إزاء تفشي الراديكالية الخطرة للتدين المتشدد الإسلامي، يجب على العالم الغربي أن يستيقظ وأن يفهم أن الحديث ليس عن الشرق الأوسط أو إسرائيل فقط، بل عن جوهر وجوده.
إن مخطط بخور وكل المخططات الأخرى المماثلة نابعة من غطرسة القوة، حين يتصور إنسان أنه يمكنه أن يفعل ما يشاء طالما أن موازين القوى في صالحه، وطالما أن استعداداته العسكرية تفوق استعدادات الخصم، وطالما أن التاريخ قد توقف.
ولكن كما يقول كريغ روبرتس فى مقاله الذى أشرنا له من قبل "هل يمكن لخمسة ملايين إسرائيلي، حتى مع دعم الولايات المتحدة لهم، أن ينجحوا إلى الأبد في إذلال ملايين المسلمين الذين يغلون غضبا بسبب هذا الإذلال الذي لحق بهم".
إن هذه وصفة للصراع المستمر ولدمار إسرائيل في نهاية الأمر.. إن حرب بوش ليست حربا ضد الإرهاب، وإنما هي عباءة يغطي بها خداع المحافظين الجدد، فهي ليست حربا ضد الإرهاب بل هي حرب ضد الدول الإسلامية التي لا تحكمها "دمى أميركية".
ومن حقنا أن نتساءل: هل لا تزال الولايات المتحدة الأميركية والدولة الصهيونية غارقين فى الأحلام المتورمة الخاصة بالشرق الأوسط الجديد، بعدما حدث فى لبنان؟.. والله أعلم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)