إنصافا للرئيس المرزوقي
لكنني أعتقد أن هذه اللحظة هي اللحظة الوحيدة التي تكتسب فيها الكتابة عن الرئيس القديم كل معناها لا فقط لأنها تقطع مع التوجه العام الذي يصطف دائما مع الملك الجديد بل لأن للرجل دينًا في رقابنا علينا تسديده.
لكن معضلة هذا النص أنه يتقاطع فيه الموضوعي بالذاتي مما يجعل الكتابة مجازفة قد لا تفي الرجل حقه أو قد تعفيه من مسؤولية السؤال عن أخطاء ارتُكبت وزلات كبيرة حصلت. ليس النص مدحية في رئيس سابق وليست قصيدة هجائية تتشفى في شخص غائب بل هي أقرب إلى شهادة قصيرة عن فترة دقيقة من تاريخ الحكم في مهد الربيع العربي زمن الانقلابات والعواصف.
لم يكن المرزوقي إسلاميا لكنّه دافع عن الإسلاميين كما لم يدافع عنهم أحد أيام كان الدفاع عنهم يساوي الانتحار
ترددت كثيرا في كتابة المقال لأنه مقال شخصي وقد عرفت الرجل لفترة وجيزة جدا لا تتجاوز شهرا من الزمان، لكنّ حجم ما تعرّض له من الخيانات ومن الحرب الإعلامية القذرة أوجب عليّ إنصافه رغم خلافي مع الفريق المحيط به واستقالتي السريعة من رئاسة الجمهورية بعد أقل من عشرين يوما من العمل الفعلي الحضوري. دفعني إلى إنصافه أيضا ما تعرضتُ له من الخيانة ومن الدسائس ومن الثلب من نفس الشخوص ومن نفس الجهة التي أحاطت به وأساءت إليه.
أزمة الحكم
أتفهم جيدا أن لا يحضر الرئيس المرزوقي حفل تنصيب الرئيس الجديد بعد كل ما تعرض له من شديد الأذى في تونس وهو أذى ناله من الأقارب المقرّبين والخلّص المختارين قبل الأعداء الأبعدين. موضوعيا لا أعلم الأسباب التي منعته عن الحضور لكن أتفهم جيدا موقفه من المشهد التونسي اليوم وقد تميز بعودة مظفرة للثورة المضادة منذ أن وضع الإخوان هناك يدهم في يد جلاد الأمس رغم كل ما يطفو على السطح من حمّى ثورية مزيفة لا تعكس نصرا حقيقيا على الفساد المتغلل في مفاصل الدولة فكرا ونخبا وأحزابا.
ليس هذا الكلام تثبيطا للعزائم ولا كسرا للأمل بل موقف موضوعي قائم على حصاد ما يقارب عشر سنوات من عمر الثورة التونسية. كانت الثورة مفاجأة للجميع وهو الأمر الذي يفسر في جزء كبير درجة الارتباك في الآداء السياسي لمجموع النخب الثورية التي وجدت نفسها في سدّة الحكم فجأة ودون سابق إنذار. وجد المرزوقي نفسه في قلب محرقة الحكم عندما كانت كل خناجر الثورة المضادة السياسية والمالية والإعلامية والدولية والإقليمية موجهة إلى خاصرة الثورة وممثليها.
يكفي شاهدا في هذا السياق تصفح عدد المقالات والبرامج المكتوبة والمسموعة والمرئية التي خُصّصت لشيطنة الرجل لأنه يمثل العدوّ الأساسي للدولة العميقة بما أنها لا تستطيع تصنيفه إسلاميا. لكن الخلل الأساسي لم تُسببه الثورة المضادة بل جاء نابعا من الصفّ الثوري نفسه عندما اختلف أصدقاء الأمس وتباينت مواقفهم بعد هروب الرئيس وظهور كعكة السلطة.
انقسمت الكيانات الثورية على بعضها البعض ونجح كثير من المتسلقين والجواسيس في التسلل إلى داخل الأحزاب الجديدة الناشئة بما فيها "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي تحول لاحقا إلى "حزب الحراك" وحمل معه نفس مجموعة الجواسيس في مراكز قيادية وهي المجموعة التي ستكتب له صك الوفاة قبل أن تقفز من السفينة وتلعن ربّانها وراكبيها.
لم تنجح الشخصيات المعارضة من غير الإسلاميين في أن تكوّن جسدا واحدا قادرا على ملء الفراغ الكبير الذي كانت تحتاجه المرحلة فبقى الفضاء شاغرا بشكل ساعد الدولة العميقة على العودة من جديد.
المرزوقي ومقارعة الاستبداد
قلْ ما شئت في وصف الرجل واختلفْ معه ما شاء لك الوقت أن تختلف فكرا وممارسةً فقد تكون على صواب لكنك لا تستطيع أن تنكر أنه كان من أشرس معارضي بن علي وبورقيبة عندما كانت المعارضة عملة نادرة وعندما كان المناضلون يعدون على أصابع اليد الواحدة. أما اليوم فتشهد تونس فائضا كبيرا في الانتاج النضالي وفي عدد المناضلين حتى صار أعوان الاستبداد أنفسهم ومخبرو النظام وجلادوه مناضلين ومجاهدين من الرعيل الأول.
لم يكن المرزوقي إسلاميا لكنّه دافع عن الإسلاميين كما لم يدافع عنهم أحد أيام كان الدفاع عنهم يساوي الانتحار زمن كان زبانية بن علي يجوبون أوروبا طولا وعرضا للتنكيل بالمعارضين والاعتداء عليهم. كلفه هذا الدفاع ما كلفه من إبعاد ومن شيطنة أذرع بن علي وبورقيبة له إلى حدّ اتهامه بالجنون وهي تقنية استبدادية قديمة في تونس.
لكن اندلاع الثورة التونسية قدّم للرجل فرصة تاريخية للمشاركة في بناء المرحلة الانتقالية التي ساهم بشكل كبير في تأمينها وهو الأمر الذي جعله يحضر بقوة في مرحلة الحكم الثلاثي منقذا البلاد من مآلات مأساوية مثل تلك التي سقطت فيها مصر أو ليبيا. هاته المهمة أُنجزت في قلب عاصفة الانقلابات والاغتيالات والتفجيرات والاعتصامات التي كانت كلّها تعمل على إجهاض المسار الثوري التونسي وإلحاقه ببقية المنوالات العربية.
السياق الجديد
اليوم وفي غمرة الموجة الاحتفالية بتنصيب الرئيس التونسي الجديد يكتسب الحديث عن تجربة الرئيس الثوري منصف المرزوقي كل المصداقية والموضوعية بعد إخفاقه في المرور إلى الدور الثاني من الرئاسيات وتبخّر حزبه الذي فشل في الفوز ولو بمقعد نيابي واحد في الانتخابات التشريعية. أقرّ الرجل بالهزيمة وبتحمل المسؤولية وعبّر كذلك عن احترامه لإرادة الشعب وخياراته لكنّ هذه الانتكاسة تأخذ معنى آخر حين نشاهد أحزاب الدولة العميقة تفوز بعدد من المقاعد البرلمانية وعندما نرى شخصيات جديدة في المشهد تفوز بمراتب متقدمة في الانتخابات الرئاسية.
لم ينجح الرجل في تحقيق ما حققه سابقا لأن السياق تغيّر كثيرا ولأنّ الضربات التي تعرض لها من قبل الأذرع الإعلامية للثورة المضادة قد آتت أكلها. لكنّ أعظم الأسباب التي تسببت في هذا التراجع إنما تمثلت في عدد الخيانات التي تعرّض لها داخل حزبه وداخل فريقه الرئاسي إضافة إلى فواعل سياقية موضوعية أخرى يطول الحديث عنها في هذا السياق.
لم تنجح الشخصيات المعارضة من غير الإسلاميين في أن تكوّن جسدا واحدا قادرا على ملء الفراغ الكبير الذي كانت تحتاجه المرحلة
كان الرجل منذ سنوات قليلة بوصلة كل النخب التونسية تقريبا وخاصة منها تلك المحسوبة على الخط الثوري وهي تطمح إلى الالتحاق بالقاطرة التي وضعها على الطريق رغم كل المصاعب والعوائق.
كان لقاء الرئيس والوصول إليه مطمح كثيرين ممّن يبحثون بحرقة عن موقع وعن نصيب من كعكة حرمهم بن علي مذاقها طوال أكثر من عقدين من الزمان. بل إن كثيرا من المتسلقين ممّن نجحوا في الوصول إليه ونيل ثقته صنعوا لهم صورة ووهجا من التصاقهم بصورته ورمزيته ثم تنكروا له وخوّنوه على الملأ في مشهد مكيافيلي تعيس بنيةً وشخوصاً وإطارا.
سيبقى منصف المرزوقي رغم كل ما حدث وجها مشرقا في مسيرة الثورة التونسية مهما خانه الخائنون وسيبقى كذلك رمزا من رموز الانتقال الديمقراطي عندما كانت البلاد مهددة بالسقوط في أتون حرب أهلية تؤجج نارها عصابات الدولة العميقة وشركاؤهم المندسون داخل الخندق الثوري.
إن الاعتراف بفضل الرجل في مقارعة الاستبداد وفي الدفاع عن الحريات وكذلك في تأمين المسار الانتقالي ليس فقط إنصافا له بل هو في جوهره إنصاف لتاريخ تونس وذاكرتها وإنصاف لثورة تونس ومُنجَزها وإنصافٌ لمن كانوا واقفين هناك عندما كان الجلاد في أوج جبروته وبطشه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق