دولة الكلام المبطلة الظالمة
محمد رشيد رضا
نشر عام 1337هـ الموافق 1919م
إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق ، ومزية الكلام التي ميَّز بها الإنسان وفضَّله من سائر أنواع جنسه الحيواني ، هو أنها التعبير عما في النفس من العلم ؛ ليتعاون الناس بإفضاء كلٍّ بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم ، وتحسين أعمالهم , ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة ، حتى قال بعض الأذكياء : إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس ، وصرف الأذهان عن الحقائق .
وقد أجمع الناس على ما هَدَت إليه الأديان ، وقرَّره الحكماء من مدح الصدق والصادقين ، وذمِّ الكذب والكاذبين ، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في مسألة معينة ، ومفسدة أخرى أكبر منها ، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه ، أو غير ذلك ، والإسلام يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصِّي من الكذب بالتعريض ، ففي حديث عمران بن حصين في البخاري : (إن في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب ) ولكن كثيرًا من الناس ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه ، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به ، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية .
اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون ، وشهداء الزور ، وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم ، كلُّ أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل مطامعهم الشخصية ، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء ، ومَن دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتَّابهم وجواسيسهم ، كلُّ أولئك يكذبون لأجل مطامع دولتهم ومنافع أممهم ، والفريقان يذمَّان الكذب مع الذَّامِّين ، ويمدحان الصدق مع المادحين ، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو قومه ، أو لجلب النفع لهم ، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا الإثم لبعض ، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم .
من عجيب أمر الإنسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق وتشييد صروح الباطل ، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية والمطامع المالية والسياسة ، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان، ورجال المذاهب من أهل الدين الواحد ، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق ، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل ، وسيلة للمال والجاه ، فصاروا كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما ، وطلاب المنافع السياسية بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب . وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا يتعمدون الكذب على خصومهم ، واستباحة أفحش ما حرَّمه دينهم في سبيل عداوتهم ، لا يبتغون بذلك مالاً ولا جاهًا ، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم ، معتقدين أنه يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه ، وإن كان من الباطل والشرِّ الذي حرَّمه على أبنائه وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض ، ومن كان يظن في ربه وإلهه حبَّ الباطل والشرِّ والرضا بهما ، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حقٍّ أو عمل خير ؟! أولئك الذين يقولون : إن المقاصد والغايات الحسنة ، تبيح الوسائل المحرمة والمبادئ السيئة ، وإن الباطل قد يوصل إلى الحقِّ ، والشرَّ قد يؤدي إلى الخير ، أي إنهم يختارون أن يكونوا مبطلين أشرارًا ، مجرمين في الحال ؛ ليصيروا أخيارًا في المآل .
إذا كان علماء الأديان وأولياؤها ، وشِيَع المذاهب وأنصارها ، يؤلفون الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات ؛ ليؤيد كل فريق منهم ما يوصف به وينتمي إليه منها ، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة والجاه ومنهومي اللذات والشهوات ، ومفتوني السلطة والسيادة ، أن يقلبوا جميع الحقائق ، ويستحلُّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات ، والعلو في تلك الدرجات ، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي ، وغير ذلك من التصرف والتشريع الذي هو شأن الربِّ عزَّ وجلَّ ؟
إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك ، والافتراء والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة ، وتتدلى بتدليها ، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف ، وتضيق بضيقها ، فهي مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها .
الكذب شرُّ الرذائل على الإطلاق ، فهو مفسد الأديان والتواريخ ، ومزيل الثقة بين الأفراد والجماعات ، ومولد الفتن والحروب بين الأمم ، وقلما تستغني رذيلة من الرذائل ، أو فتنة من الفتن عن شدِّ أزرها بالكذب ، أو أحد جنوده وحملة بنوده ، وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه ، وفحش ضرره ، والإجماع على ذمِّه إلا عدم التناصف بينهم ، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم ، وتتنازع منازعهم ، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه أو لا يواتيه ، والقوة والضعف أنواع شتى ، فكم من قوي في شيء ، ضعيف في غيره ، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده ، والمخدوم على خادمه ، والأمير على السوقة ، فلا تظنَّ أن هذا جاء على خلاف الأصل ، فإن في هؤلاء السادة المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق ، وقبائح الأعمال ، فيتحرون كتمانها عن خدمهم وأتباعهم ، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه ، فيلجؤون إليه صاغرين .
الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع الكذب والرياء حتى يصير ملكةً له، يفسد عليه أمور دينه ودنياه ، وقلَّما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى الكذب على شعبهم المسكين ؛ لأنه خاضع لكل ظلم ، قابل لكل ضيم ، وإنما يكذب الضعيف على القويِّ الجائر الذي لا يرضَى بالحقِّ ، ورُبَّ قويٍّ في شيء ، ضعيف في غيره ، فيكذب فيما هو ضعيف فيه ، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم والنظام والأحزاب السياسية ، فكلُّ حكومة من هذه الحكومات تكذب على نُوَّاب أُمَّتها ورؤساء أحزابها في كلِّ ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية وسياستها الخارجية وغير ذلك ، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات ، وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور. والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن يروج له إلا بلبس الحقِّ الذي تُخشَى مغبَّة ظهوره ، وكذلك كذب الحكومات القوية بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض ؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدقِّ الفنون، وركنًا من أركان السياسة.
وليعتبر القارئ في ذلك بـــ..أقوال أقطاب ساسة الحلفاء وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب وأساسها حرية الشعوب واستقلالها.
المصدر: (مجلة المنار)، المجلد الحادي عشر – ذي القعدة 1337هـ - وكتاب (مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية) - دار ابن العربي - ط الأولى - 1994م - 3/1147. بتصرف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق