خرافة مذبحة الأرمن
خرافة مذبحة الأرمن
محمد يوسف عدس
"مذبحة الأرمن" واحدة من أكبر الخرافات التاريخية التي يقتات عليها مئات الألوف من البشر حول العالم..
ترفعها اليوم جهات مشبوهة في وجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لتشويه صورته، والانتقام منه على مواقفه المبدئية الشجاعية؛ فقد رفض بإصرار الاعتراف بالانقلاب العسكري في مصر الذي سطا على الحكومة الشرعية المنتخبة..
وهناك أسباب أخرى؛ منها الحقد على النجاح الاقتصادي الساحق الذي حققته تركيا بينما دول في الاتحاد الأوربي - مثل اليونان- تنهار اقتصاديا ولا يجدون لها علاجًا..
يظنّون أن الضغوط العالمية ستدفع تركيا للاعتراف بأكذوبة مذبحة الأرمن، التي يرجع تاريخها حسب زعمهم إلى مائة عام مضت.. وفي حالة اعتراف تركيا أو اعتذارها عن المذبحة المختلقة ستبدأ أرمينيا - مدعومةً بكل القوى الصليبية والصهيونية- في طلب تعويضات تعجز تركيا عن الوفاء بها..
نحن إذن أمام أسطورة مقدسة اسمها "مذبحة الأرمن" تنبعث أمامنا حية من مقبرة التاريخ.. لم ترتفع بهذه القوة لإدانة تركيا عبر قرن من الزمن لأن تركيا كانت خاضعة لعميلهم الشهير كمال أتاتورك، ثم الذين ورثوه وساروا على نهجه في قمع الإسلام وطمس معالمه في تركيا، فحصلت على قبول الغرب وأصبحت عضوًا في حلف الناتو؛ ولم يفكروا في معاقبتها على "مذبحة الأرمن" المزعومة.
ولكنهم تذكروا المذبحة - فقط - عندما بدأت تركيا المسلمة تصلح نظامها السياسي، وتقضي على هيمنة العسكرتاريا الفاسدة، وتنطلق في آفاق التقدم الاقتصادي.. لذلك وجب القضاء عليها، لتعود مرة أخرى إلى التسوّل في حظيرة التبعية الغربية كما فعلوا مع مصر..
ظهرت بوادرالحملة ضد تركيا في قرار مشبوه صدر من البرلمان الفرنسي لأسباب حزبية مفهومة، كما ظهرت في حديث لبابا الفاتيكان، لولا أن قام الرئيس التركي متحدِّيًا الجميع أن يُظهروا وثيقة واحدة تثبت مزاعمهم الكاذبة.. وقد لوّح بما لديه من وثائق دامغة.. فلما فوجئ البابا بالرد الحاسم تراجع واعتذر كما فعل سلفه عندما قال: "لقد كان مجرد اقتباس"!
لا شك أن خرافة "مذبحة الأرمن" قد اكتسبت عقول الملايين حول العالم، نتيجة عملية غسيل مخّ واسعة النطاق، استمرت مائة عام نُشر فيها ٢٦ألف كتاب أو تزيد، من تأليف الأرمن، وأنصارهم من أعداء الإسلام في أوربا وأمريكا ..
لن استعراض أسماء المروجين لهذه الفرية في مصر كما فعلت على صفحتي الخاصة بالفيس بوك.. رغم علمي أن هذا الاستعراض في حد ذاته يكشف عن تهاتف هذه الحملة الفاجرة ضد أردوغان وضد الدولة العثمانية في الظاهر، والمقصود بها في الحقيقة هو الإسلام نفسه .. !!!
ولكني أود أن أشير هنا إلى حقيقة اكتشفتها من متابعتي لتعليق أحدهم على ما كتبته بهذا الصدد في الفيس بوك.. بحثت عن صاحبه على الإنترنت لأتأكد إذا كان باحثا جادّا.. فلم أجد له أثرًا يُذكر في الكتابة أو البحث، ثم تصادف أن وقع نظري على تقرير مماثل في صحيفة "المصريون" فكان طبق الأصل؛ كلمة كلمة، حتى الأخطاء اللغوية والفكرية هي هي.. فلما أمعنت في البحث، اتضح لي أن النص بذاته منتشر في مواقع أخرى تحت أسماء مختلفة، مما يدل على أنه مجرد إعلان مدفوع الأجر.. ليس لهؤلاء أتوجّه بحديثي، وإنما إلى الذين يبحثون عن الحقائق رغم طوفان الأكاذيب والمفتريات التي أغرقت الساحة الفكرية من حولنا ..
لقد استغرقتُ شطرًا من حياتي في دراسات موثّقة لقضايا أرّقتني كما أرّقت جماهير عريضة في العالم الإ سلامي الذي هزته من الأعماق مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وكلها قضايا متصلة أوثق اتصال بالدولة العثمانية، أودعتها ثلاثة كتب، وفي عشرات المقالات، والمحاضرات والندوات، خلال ما يقرب من ربع قرن من الزمن، تفرّغت فيها للبحث والكتابة .
ولقد أكدتُ في كتاباتي حقيقة أن التاريخ العثماني قد تعرّض للتزييف المتعمّد مرتين: المرة الأولى أواخر القرن التاسع عشر (مع ظهور النزعات القومية في شرق أوربا) حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك بتشجيع من خصوم العثمانيين في روسيا ودول أوربية أخرى، تمهيدا للانقضاض على الإمبراطورية العثمانية وتقسيم أراضيها فيما بينهم، وكان الأرمن والصرب هم فرسان التزييف في تلك المرحلة ..
والمرة الثانية من جانب الشيوعيين الذين زحفوا على أوربا الشرقية والبلقان بعد الحرب العالمية الثانية، في هذه المرة كان الهدف هو محو كل أثر للإسلام، واستئصال ما تبقّى من المسلمين في هذه البلاد.. وقد استمرت هذه الموجة في مدٍّ وجزرٍ لتكتسح البوسنة والهرسك وكوسوفا في تسعينات القرن العشرين.. وكان فرسان التزييف في هذه المرحلة هم روسيا الشيوعية والصرب الموالون لها ..
من سوء حظ الأرمن أنهم وُجِدُوا في منطقة أبعد ما تكون عن الاستقرار؛ حيث تقع في طريق الصدام العسكري الطويل المشهور في التاريخ بين الإمبراطوريتين الكُبْرييْن آنذاك: الفارسية والرومانية (البيزنطية) وكانوا موضع اضطهاد من القوة الغالبة، باعتبارهم كاثوليك؛ لذلك حاول الفرس قهرهم على اعتناق المجوسية، وحاول البيزنطيون، تغيير عقيدتهم إلى الأرثوذكسية.. ولم يكسر هذه الحلقة المفرغة من الاضطهاد إلا انتصار الدولة الإسلامية على الفرس والرومان معًا.. فلما امتدّت الفتوحات الإسلامية نحو الأناضول، أصبح الأرمن في أمان خلال فترة الحكم الأموي. فقد تركهم المسلمون يتمتعون بحكم ذاتي مع ضمان حرية عقيدتهم الدينية.. كدأب المسلمين في احترام عقائد الآخرين على مدار التاريخ ..
كما عاش الأرمن في سلام في ظل الحكم العثماني قرونا عديدة، يتمتعون بحرية العقيدة.. وباعتبارهم ذمّيين، كانوا معفيين من الخدمة العسكرية؛ لذلك انصرفوا إلى العمل في التجارة والزراعة وصناعة المجوهرات.. وعلى مر القرون حتى أواخر القرن التاسع عشر- لم يبدُر منهم أي حركة عصيان مسلحة، حتى أن الأتراك أطلقوا عليهم لقب "الأمة المخلصة".. ومن ثَــمَّ كانت أعلى الوظائف الحكومية في الدولة العثمانية مفتوحة أمامهم، فكان منهم الوزراء والأعيان والنواب والمدراء والمستشارون..
ومن الجدير بالذكر أن إحصائيةً قد تم إجراؤها سنة 1912م.. ظهرت فيها هذه الأرقام: عدد التجار المسجلين في الغرفة التجارية بإسطنبول ثلاثين ألف تاجر: 25% منهم أرمن، و15% فقط من الأتراك.. والباقي من قوميات أخرى.
هذه الحقائق تدل على أن الأرمن كانوا يمارسون حياة مستقرة بل مزدهرة في تركيا عبر التاريخ- فلماذا إذن.. ومتى ظهرت الأزمة الأرمنية ..؟!
لابد أن أضيف هنا حقيقة الاهتمام الذي توليه الحكومة التركية - برئاسة رجب طيب أردوغان- بإبراز الحقائق من واقع الوثائق التاريخية.. وليست كما يصفها الإعلام الكاذب بأنها تماطل أو تلجأ إلى الإنكار والمكابرة. فقد أسندت إلى لجنة من المؤرخين لتقوم بفحص الوثائق المتصلة بقضية الأرمن في الأرشيف العثماني، ووثائق الدول الأخرى ذات العلاقة بالقضية.. ثم أصدرت نداء إلى الحكومة الأرمنية والحكومات الأوربية والأمريكية طالبة منها نقل الموضوع من الجدل السياسي العقيم إلى البحث التاريخي النزيه؛ حيث اقترحت للقيام بهذا البحث لجنة عالمية من المؤرخين المحايدين تقوم بدراسة الوثائق في هذا الموضوع.. وأبدت استعدادها لتقديم جميع الوثائق التي لديها لهذه اللجنة.. لماذا تفعل تركيا هذا إلا أن تكون متأكدة أن تهمة المذبحة الأرمنية تهمة باطلة..؟!
ولذلك لم يردّ أحد بشكل إيجابي على هذا المقترح المعقول؛ وفي هذا دليل على ضعف موقف خصوم تركيا الذين يروّجون لخرافة المذبحة؛ فالمنطق الإنساني البسيط يقول: لو كان هؤلاء واثقون من صحة مزاعمهم لقبلوا المقترح التركي ولتمَّ نشر ما تتوصل إليه اللجنة الدولية المحايدة من حقائق تاريخية، على العالم حتى لا تستمر هذه الفرية الكبرى معلّقة فوق الرؤوس والأعناق!
في خضم آلاف الكتب، والأحاديث التي تروّج للمذبحة، وتمتلئ بقصص وحكايات ملفّقة، على غرار قصص المحرقة النازية لليهود، تظهر شخصية فكرية عملاقة لتقف كالطود الراسخ أمام طوفان الأكاذيب. إنه بروفيسور جَسْتين ماكرثى (Prof. Justin McCarthy) الذي درس القضية دراسة موضوعية مستندة إلى الوثائق التاريخية، وإلى تحليل الإحصاءات السكانية في منطقة شرق الإمبراطورية العثمانية؛ حيثُ عاش الأرمن وانتشروا..
وأودع نتائج دراسته فى كتاب بعنوان: "الطرد والإبادة.. مصير المسلمين العثمانيين" أكّد فيه زيف المزاعم المُثارة حول المذبحة الأرمنية..
هو لم ينكر أن عشرات بل مئات الألوف من الأرمن كانوا ضحايا الحرب العالمية الأولى: قُتل منهم من قتل، ومات أكثرهم من الجوع والأمراض أثناء عملية التهجير الذي اضطرت إليها الدولة العثمانية، عندما هاجمت القوات الروسية حدودها الشرقية، وعجزت الدولة عن حماية مواطنيها الأرمن والمسلمين معًا، فهجّرتهم جميعًا بعيدًا عن مناطق القتال.. ولم تكن الدولة تمتلك وسائل المواصلات المناسبة لهذه الأعداد الكبيرة من الناس ولا الطعام الكافي لهم فمات الآلاف من مشقة الرحلة ومن الجوع والبرد والأمراض (أرمن ومسلمون على السواء)
بعيدًا عن هذا الكتاب الذى يحتاج لعرضه مقالة مستقلّة، كانت المفاجأة بالنسبة لي في أكتوبر ٢٠١٣م ، وكنت مقيما في أستراليا، عندما دعا البرلمان الفيدرالي بكانبرا بروفسور جَسْتين ماكرثي لمناقشته في موضوع مذبحة الأرمن .
بدأ الرجل بتعريف معنى المذبحة Genocide في القانون الدولي، ثم أكّد أن مذبحة بهذا التعريف لم تحدث في الدولة العثمانية، فهي لم تقصد إليه، ولم يصدر منها أمرا ولا قرارا رسميا بقتل الأرمن، ولكنها واجهت زحف قوات الغزو الروسية، يتقدمها عشرات الألوف من الأرمن الذين انحازوا إلى الغزاة، وتم إعدادهم وتدريبهم وتسليحهم في روسيا.. وكانوا يقتلون المسلمين المدنيين، كما قتلوا الأرمن الذين رفضوا الانضمام إلى مليشياتهم ضد وطنهم العثماني ..
ثم فاجأ المحاضر المشاهدين بحديثه عن مذبحة المسلمين على يد الأرمن والروس وغيرهم من الدول الأوربية، والتي بلغ ضحاياها عشرة ملايين مسلم: خمسة ملايين قتلى وخمسة ملايين آخرين تمَّ تهجيرهم من ديارهم تهجيرًا قسريًّا.
ثم أذهلهم الرجل بحقيقة أخرى أشد وقعًا عندما قال: لم أعثرعلى وثيقة واحدة في تركيا أو في بريطانيا وروسيا وأمريكا تثبت شيئًا عن تورط الدولة العثمانية في مذبحة للأرمن.. وتهكّم على الذين يروّجون لفرية مذبحة الأرمن.. قال لقد بحثوا مئة عام عن وثيقة واحدة تثبت مزاعمهم ولكنهم أخفقوا..
أذكر من الحقائق الأخرى التي أثارها مكارثي في محاضرته:
١- أن الجيش العثماني لم يقتل – أبدًا- مدنيا أرمنيا بينما الروس مع مليشياتهم الأرمنية قتلوا ٤٠٠ألف من المسلمين المدنيين فى مجازر حقيقية ..
٢- فى المنطقة التي طالب الأرمن بانفصالها عن الدولة العثمانية لإقامة دولتهم، كان ثلاثة أرباع سكانها من المسلمين العثمانيين.. لذلك اعتبر العثمانيون أن الاستجابة لذلك المطلب، بمثابة عملية انتحار.
٣- أن ثمانين بالمئة من الأرمن المهجرين عاشوا.. وأن الباقين ماتوا بسبب الجوع والبرد والأمراض.. في مقابل هذا أثبت أن ثلثي المسلمين قتلوا في هذه الحرب ..
٤- أن أكثر المهجّرين من الأرمن كانوا تحت إشراف قوات من الجيش العثماني، وكان الجنود يقتطعون من طعامهم الشحيح جزءا لإطعام المهجّرين.. ولو كانت الدولة تريد التخلص منهم لقتلهم الجيش العثماني واستراح..
٥- يعترف المحاضر بأن العثمانيين أخفقوا في حماية شعبهم من الأرمن والمسلمين.. نعم ..؟ كانوا يريدون حمايتهم ولكنهم عجزوا لقلة حيلتهم وضعف قوتهم العسكرية والاقتصادية.
٦- أن روسيا سلّمت للميليشيات الأرمنية ١٥ مليون دولار لشراء أسلحة.
٧- بحثت الدولة العثمانية فى بداية الحرب عن مواطنيها الأرمن في سن التجنيد لتجنيدهم فوجدت غالبيتهم العظمى قد انضموا إلى المليشيات المحاربة في صفوف العدو الروسي.. تحت إغراء مساعدتهم على إقامة دولة مستقلة.
٨- عاش الأرمن المسيحيين وسط إخوانهم المسلمين في الدولة العثمانية ثمانية قرون في أمن وسلام.. ولو كانت الدولة تريد التخلص منهم لفعلت ..
٩- إنك لا تستطيع أن تتحدث عن احتلال الغرب للأمريكتين دون أن تتطرّق للكلام عن الإبادة البشرية لملايين السكان الأصليين في هذه البلاد، ولكن لن تجد شيئا من هذا في الإمبراطورية العثمانية، التي احتضنت ملايين الرعايا على اختلاف أديانهم وثقافاتهم وألوانهم وقومياتهم.. وعاملت جميع رعاياها بالمساواة الكاملة، دون تمييز أو تحيّز.. واعتبرت الأرمن ملّة من الملل ذات حقوق مستقلة في تصريف شئونهم الدينية، والبتِّ في منازعاتهم المتعلقة بالأحوال الشخصية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق