مشروعات الجيش!
بما حدث، فقد وقفنا على نموذج الدولة العاجزة، حيث حاصرت المياه الناس أثناء عودتهم إلى بيوتهم، لفترة زمنية تقترب من الساعات الست، فكانت الدعوة بأن يهب الناس لمساعدة المحاصرين في حدود المستطاع، وبالطعام والماء، لا سيما أن من بين المحاصرين تلاميذ بالمدارس، تحولت الحافلات بالنسبة لهم إلى سجن، وهم بحاجة إلى ما يسد الرمق في هذا الجو المخيف!
ولم تكن غزارة المياه وحدها هي المشكلة، ولكن كان بالإضافة لهذا ما أنتجته من آثار؛ أخصها الماس الكهربائي المنبعث من أعمدة الإنار، فصعق البعض ومن بينهم أطفال. واستهان أحد المعلقين السياسيين بأعداد المصعوقين، وقال إن هذا العدد يمكن أن يموت في حادث تصادم!
غابت الدولة وغاب الجيش
في كل مرة تسقط فيها الأمطار يبدأ الحديث عن فساد المحليات وعجزها، وتكون التصريحات الصادرة منها بأن هذه المرة الأخيرة، وأنهم سيعملون حسابهم في المرات القادمة.
ومنذ تجربة محافظ القاهرة الأسبق الدكتور عبد الرحيم شحاتة، لم تقم أي جهة بتدارك هذه المخاطر، وكان المحافظ قد قام بوضع بلاعات بشكل عشوائي، أعلى من مستوى الطرق، فتحولت إلى مصيدة للسيارات، ولخدمة تجار "المساعدين" ومن يعملون في "صيانة العفشة"!
بيد أن الجديد في هذه المرة، أن مصر لم تكن مستعدة تماماً، لنزول الأمطار، وعندما هطلت، كشفت كتفها وعرت ظهرها، بحسب التصوير البلاغي لعبد السيسي!
وقد غابت الدولة تماما، وغاب الجيش أيضاً، فلم تتحرك الدولة أو الجيش بوجبات الطعام للمحاصرين، واختفت عربات "كسح المياه"، وسيارات الإنقاذ، كما اختفت سيارات الإسعاف. وظني أن الدول المتقدمة لديها طرقها في عملية الإنقاذ، غابت في مصر رغم تعريف السيسي بأن مصر دولة كبيرة، لكن يبدو أن حدود فهمه بملامح الدولة الكبيرة هو عند حد تشييد أكبر عدد من سلسلة القصور الرئاسية!
وإذا كان عجز أجهزة الدولة معلوم منها بالضرورة، فاللافت هنا أننا لم نجد الجيش في مهمة الإنقاذ، وتقديم المساعدات للمحاصرين. فقد غاب في وقت كان يجب أن يظهر، وفي ظل حكم يعاملنا على أننا "دولة الجيش الشقيقة"، التي تقدم للمصريين المساعدات والصدقات التي يتبعها أذى. لكن يبدو أن حدود الجهد لا ترقى لمستوى الكوارث، فغابت السلطة والجيش، وظهر الناس، في محاولة ما يمكن إنقاذه، وهم ينطبق عليهم قول الصوفي القديم: "أنا ما حيلتي والعجز غاية قوتي"!
فهل أثر إرهاق الجيش في الحياة المدنية، ومن أول السهر على مزارع الأسماك، وبيع الخضروات وما إلى ذلك، على الكفاءة المطلوبة في الوقوف بجانب الشعب الشقيق عند الحاجة إلى جهده، وفي كارثة الحد الأدنى؟!
الحق في الحكم:
في الواقع، أن يوم هطول الأمطار أثبت أن السيسي يضع بأدائه البائس نهاية لحكم العسكر على يديه، وقبله كان المصريون ينظرون إلى الجيش على أنه جهة الحماية في الملمات الكبرى، وهو الجانب الذي استغله الانقلاب العسكري في التأسيس لفكرة الحق في الحكم!
وليس هذا فحسب، فقد كان التصور العام أن الجيش هو من البنائين الكبار في مجال المقاولات والتشييد، وأنه في عمله يتميز بالجدية والإنجاز. ورغم أن هذا الجانب خاص بجهة واحدة هي هيئة المشروعات، ومن يقوم عليها لم يتخرج في الكلية الحربية، إلا أنها أسست لحق العسكر في حكم البلاد، ولحقهم في الانقلاب العسكري على الحكم المدني، على أن يكون قائد الانقلاب هو وزير الدفاع الذي تقول التقاليد إنه لا بد أن يكون قد تخرج في الكلية الحربية!
وقد مكن السيسي هيئة المشروعات من عموم أعمال المقاولات، وكان المعلن لأنها عنوان الإنجاز والجدية، وقد كان نقد هذا لا ينكر العناوين المرفوعة بل يسلم بها، لكن باعتبار أنه إسناد يقوم على القضاء على مبدأ المنافسة مع من يستخدم جنودا خلال مدة تجنيدهم، مع الإعفاء من الضرائب والجمارك والرسوم، ليتبين بعد فيديوهات محمد علي أن الأمر ليس كذلك، فالمجندون ليسوا من يعملون، ولكنها شركات المقاولات التي تعمل مقاولاً من الباطن، نظير نسبة تصل إلى 30 في المئة من قيمة المشروع للمقاول المعلن الذي يستحوذ على مشروعات الوطن بالإسناد المباشر. ومن المؤكد أن هذا يتم بأضعاف القيمة مقارنة بما إذا تم الأمر بالمنافسة الحرة!
ومن الواضح من خلال هذه الفيديوهات، أن شركات للمقاولات تؤسس خصيصاً بهدف الحصول على هذه المشروعات من الهيئة الهندسية، في بلد فيه شركة "المقاولون العرب" التي ساهمت في حالة العمران بدول الخليج وغيرها، وهي مضرب الأمثال في البناء والتعمير.
وقبل هذا كان الانكشاف الكبير، من خلال اختيار رئيس الهيئة الهندسية بالجيش الجنرال كامل الوزير وزيراً للنقل، وتم دعمه بالمطلوب مالياً، وبما لم يتم دعم السابقين له به، وكان الهدف هو تأكيد أن الجيش هو المنقذ الوحيد من الأوضاع المتردية في كل المجالات، لكن هذا الدعم لم يمنع من تعطل المترو، ومن تأخر القطارات، واستمرار فشل هيئة السكك الحديدية!
وفي يوم الأمطار، كان انكشاف آخر في نفس الاتجاه، فطرق شيدتها الهيئة الهندسية انهارت، وعلى سبيل المثال الطريق الدائري الإقليمي، وكانت ثالثة الأثافي في قول كامل الوزير، الرجل المسؤول عن هذا الإهمال، إن السبب في ما جرى راجع إلى أن الأمطار جاءت على غير المتوقع من اتجاه الوادي، ولكن نزلت المياه موازية للطريق فأخذت الرملة والأتربة وقفلت جزءا من "البريخ"، نتيجة الأمطار الشديدة ومن اتجاه غير متوقع، وعندما انطلقت المياه قطعت قطعة من الأسفلت. لقد تجاوزت الأمطار حدود الأدب بما فعلته في حقه! ليكشف هذا التصريح ليس فقط عن الإهمال والفشل، ولكن أيضاً عن "الخيبة الثقيلة"، وعن النظرة القاصرة، فالقائم على هذا الطريق الكبير كان يتوقع أن تأتيه الأمطار من هذا الجانب فسقطت من الاتجاه الآخر فكانت الكارثة؟.. فهل هذه عقول مؤهلة للتفكير والتخطيط والبناء؟!
في الأحوال العادية، فإن من قام على أمر هذا الطريق ينبغي أن يقدم للمحاكمة، وقد تأكد الإهمال، فمن قام باستلام هذه المقاولة؟ لنجد أنفسنا أمام أزمة جديدة، ذلك بأن الأعمال التي يقوم بها الجيش ومن ينوب عنه، عندما تتم بالمخالفة للمواصفات، لا توجد أي جهة تستطيع أن تعلن هذا أو ترفض الاستلام، لنكون بالتالي أمام أمر يجعل من الواجب إبعاد الجيش عن الحياة المدنية بكل تفاصيلها.
وقبل هذا لا بد من أن يلغى في القانون "الإسناد المباشر"، على أن يتم تجريم التعامل به، وقبل هذا وبعده فإن هذا الفشل إنما يسقط نظرية أن الأصل في الإنجاز والجدية أنهما عناوين خاصة بالأداء العسكري، وعندما تكثر هذه الحوادث، حتى تصل أخبارها إلى أذهان الناس، سيكون من الواجب أن نشكر السيسي لحسن تعاونه معنا.
إن السيسي يرد الاعتبار للدولة المدنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق