الاثنين، 28 أكتوبر 2019

المستعربون في الأندلس ودورهم في حروب الاسترداد



أحمد الظرافي
كان فتح لأندلس، بين سنتي 92 و 95هـ، بقيادة كل من طارق بن زياد، وموسى بن نصير، القائدين العظيمين اللذين أعز الله بهما الإسلام، وذلك في آخر خلافة الوليد (86–96هـ)، وكان فتحا مبينا، غير مجرى التاريخ، في هذه الجزيرة.
أولا: النصارى في الأندلس بعد الفتح
وقد جسّد حكام المسلمين، في الأندلس، سماحة الإسلام وعدله، في معاملة غير المسلمين، فقد سمح الحكام المسلمون للنصارى واليهود في هذا البلد، بالاحتفاظ بحريتهم الدينية، وتركوا لهم أغلب كنائسهم، ومعابدهم، كما تركوا لهم حرية الاحتكام إلى شريعتهم، وقوانينهم، مقابل الالتزام بمايلي:
1. د فع الجزية، وكانت مبلغا يسيرا من المال، وكان يُعفى منها الشيخ، والمرأة، والطفل، والرهبان بأديرتهم.
2. مراعاة أحكام أهل الذمة، المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية..
3. عدم الوقوف في وجه أي نصراني أو يهودي، يريد الدخول في الإسلام.
ولذلك، فقد أطمأن السكان الأصليون لحكامهم الجدد، وبدئوا يدخلون في دين الله أفواجا، بشكل طوعي، ومن دون إكراه، وقد حدث ذلك، منذ وقت مبكر. وقد عرف المسلمون الجدد من أهل البلاد الأصليين، في بداية الأمر، باسم "الأسالمة"، وبعد تكاثرهم، عرفوا باسم "المولدين"، وأما الذين استمروا على ديانتهم المسيحية أو اليهودية، فقد عرفوا، باسم "أهل الذمة"، أو "المعَاهدين"، وفي فترة لاحقة، صار يطلق عليهم اسم "المستعربين"، لأنهم استعربوا لغة، وثقافة، وأسلوب حياة. وقد ظل هؤلاء المستعربون، يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع الإسلامي، في القواعد الأندلسية الكبرى، كقرطبة، وأشبيلية، وطليطلة، وغرناطة، وغيرها. ولذلك، فقد أنشأت الحكومة الأندلسية، منذ استقرار الفتح، منصب" القومس"، ليقوم هذا القومس، والذي يجلس على رأس هذه المؤسسة المدنية، بالأمور التالية:
1. يكون هو المرجع الرئيسي للنصارى في شئونهم الروحية والمعنوية.
2. يتولى مهمة الإشراف على الأمن، والنظام، في أحيائهم، وتجمعاتهم السكنية.
3. يكون هو المسئول عن جمع ما هو مقرر عليهم من جزية أو خراج، للدولة.
ثانيا: المستعربون وحروب الاسترداد
هكذا تعامل حكام المسلمين مع الجاليات النصرانية واليهودية، في الأندلس خلال قرون مجدهم وعزهم الطويلة، بالأندلس. فلما ضعف أمرهم، واشتدت حروب الاسترداد الصليبية (الريكونكيستا)، ضدهم، من قبل الدول النصرانية في الشمال، في القرن 11م، قلب النصارى المستعربون، ظهر المجن للمسلمين، وبخاصة بعد سقوط الخلافة الأموية، عام 422هـ، وقيام دول الطوائف، على أنقاضها. وكان النصارى المستعربون، حينذاك، وبسبب دخولهم في الإسلام، في القرون السابقة، قد صاروا أقليات، في قواعد الأندلس الباقية، بأيدي المسلمين في الجنوب، ولكنها تنكرت لعهودها، ولم تدخر وسعا في مناوأة الحكومة الإسلامية، وكانت عضد الثورات المختلفة في المدن والمقاطعات الثائرة، ولاسيما طليطلة، والمدن القريبة من حدود النصارى. وقد أشتد أمر هذه الجاليات النصرانية، فيما بعد، وبخاصة بعد سقوط مدينة طليطلة، إحدى حواضر الأندلس الكبرى، بيد ملك قشتالة المتغطرس الفونسو السادس سنة 478هـ، وبالتالي، اشتداد وطأة الحروب الاستردادية، ضد المسلمين، في الوقت الذي بلغت فيه الحركة الصليبية، التي انبعثت من وسط فرنسا في القرن العاشر الميلادي، ذروة تعصبها، وأخذ النفوذ الفرنسي يتغلغل في شمال اسبانيا، باعثا فيها روحا صليبية جديدة، ضد المسلمين، على أيدي أساقفة ورهبان طليطلة الفرنسيين أتباع نظام "دير كلوني" الشهير بوسط فرنسا، وقد ثبت تواطؤ المستعربين مع إخوانهم، نصارى الشمال، في حروبهم الصليبية، ضد المسلمين، وتحول العديد منهم إلى جواسيس، يعملون لحسابهم. وقد كان المستعربون، لا يكتمون ترحيبهم، وفرحهم، بالغزوات النصرانية المتكررة على الأراضي الإسلامية، وكانوا بسبب معرفتهم بالعربية، يقدّمون العون لجيوش ممالك الشمال النصرانية، كما كانوا يزودون النصارى بالأقوات والمؤمن، أثناء حصارهم للمدن الإسلامية.
ثالثا: استفحال مؤامرات المستعربين
وظهر خطر المستعربين، بصورة جلية، في بداية القرن السادس الهجري، إثر اشتداد الحروب الصليبية ضد المسلمين، في المشرق والمغرب، واحتلال الصليبيين لبيت المقدس، وأيضا استجابة لتحريضات نصارى الشمال، والبابا في روما، والذي أفتى بأن الحرب ضد مسلمي الأندلس مقدسة، وضمن الجنة لمن يقاتلهم. وبلغت خيانة المستعربين، ذروتها إبّان الغارة الصليبية الكبرى، التي شنها ألفونسو الأول، ملك أراغون، على غرناطة، سنة 519-520هـ/، فهذا الملك، الذي كان يضطرم بالروح الصليبية، ضد الإسلام، شن هذه الغارة، وقطع تلك المسافة الطويلة من سرقسطة، إلى غرناطة، استجابة لنداءات المستعربين النصارى الغرناطيين، ووعودهم له بمشاركته في القتال لانتزاع غرناطة من أيدي المسلمين. وقد أدت هذه الغارة الصليبية، إلى إثارة فزع مسلمي الأندلس، ودفعت الفقهاء لتحريض المرابطين على المستعربين، وإصدار الفتاوى، التي تقضي بتغريبهم، لوضع حد لخياناتهم، بل ودفعت، أبا الوليد بن رشد (جد الفيلسوف الشهير ابن رشد)، قاضي الجماعة بقرطبة، إلى عبور المجاز، سنة 520هـ ، والتوجه إلى مرّاكش، حاضرة المرابطين، ليشرح لأمير المسلمين، علي بن يوسف بن تاشفين، حاكم المغرب والأندلس، ما بات يمثله المستعربون بالأندلس، من خطر على المسلمين، وكيف أنهم قد نقضوا العهد، وخرجوا على أحكام أهل الذمة، باستدعائهم إخوانهم نصارى الشمال، ومساعدتهم لهم في غزو غرناطة. وقد أصدر القاضي ابن رشد، آنذاك، فتواه الشهيرة في هذه المسألة، وهي وجوب إجلاء المستعربين، عن مدن الأندلس، وكان هذا الحكم، هو أخف ما يؤخذ به من عقابهم، لأن أقصى عقوبة كانت هي القتل، وأخذ أمير المسلمين، بهذه الفتوى، وأمر بتغريب عناصر الشغب من المستعربين بالأندلس.
رابعا: تغريب المستعربين ودوافعه
وبادر ولاة المرابطين في الأندلس بتهجير جم غفير من المستعربين، إلى المغرب، كما قامت القوات الأرغونية الغازية، ذاتها بإجلاء عدة آلاف منهم من غرناطة، ممن كانوا قد انحازوا إليها، أثناء حصارها لغرناطة. ومع ذلك، فلم يكف من تبقى من المستعربين بالمدن الإسلامية، عن خياناتهم للمسلمين، وكان ذلك يتكرر منهم، عند كل غارة يشنها نصارى الشمال ضد المسلمين، بجنوب الأندلس، ولذلك، فقد تكرر إجلاء مماثل لبعض جموعهم، في فترتين متعاقبتين، الأولى سنة 531هـ، والثانية سنة 559هـ. وقد هاجر بعض المستعربين في فترات متباعدة، وخاصة في القرنين الخامس والسادس الهجريين، إلى مناطق شمال الأندلس، وانضموا إلى أهل الممالك المسيحية هناك، وظلوا يٌعرفون فيها بالمستعربين، وظلوا يحافظون على تقاليدهم الأندلسية، لعقود. وعملية إجلاء النصارى المستعربين من الأندلس، كانت، حقيقة، سابقة، لم يُعرف مثلها في تاريخ الإسلام، قبل ذلك، فعملية إجلاء أهل الذمة، من ديارهم، محدودة جدا، في تاريخ الإسلام، بل كانت قبل ذلك، مقتصرة على إجلاء يهود المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويهود خيبر وفدك ونصارى نجران، في عهد عمر. بيد أن إجلاء يهود ونصارى الجزيرة العربية، لا يمكن القياس عليها، لأن الجزيرة العربية، مهد العرب والإسلام، ومركز المقدسات الإسلامية. ومع ذلك، فلم يلجأ الحكام المسلمون بالأندلس، لهذه الوسيلة، إلا بعد أن تجاوزت خيانات المستعربين، كل حد، وذلك حماية لوجودهم، الذي بات مهددا بالزوال، من قبل ثلاث قوى نصرانية، كانت تهاجمهم في وقت واحد: قشتالة من الوسط، وأراغون من الشرق، والبرتغال من الغرب.
خامسا: نتائج خيانات المستعربين
وأيا كان الأمر، فإن خيانات هؤلاء المستعربين المستمرة للمسلمين، وعلى ذلك النحو الواضح، والفاضح، والعنيف، كانت من أهم العوامل في إضعاف الحكومة الإسلامية، في الأندلس. والأهم من ذلك، أنه كان لتلك الخيانات والمؤامرات، دور هام، في تعضيد جهود دول اسبانيا النصرانية، للسيطرة على أراضي واسعة من الأندلس، وإثارة أطماعها، للتوسع في البلاد، على حساب المسلمين، بل وفي استمرار حروب الاسترداد الصليبية، واستغلاب نصارى الشمال لقواعد الأندلس العظام، قاعدة بعد قاعدة، وعلى رأسها سرقسطة (512هـ)، فلشبونة وشنترين (542هـ)، فطرطوشة (543هـ)، فلاردة (567هـ)، فشلب (585هـ)، فقرطبة (633هـ)، فبلنسية (636هـ)، فماردة وبطليموس (638هـ) ، فدانية (641هـ)، فجيّان (643)، فشاطبة ومرسية (644هـ)، فاشبيلية (646هـ)، فجبل طارق (867هـ)، حتى سقوط غرناطة، آخر قواعد الأندلس، بأيدي الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، سنة 897هـ/1492. بل حتى اقتلاع شجرة الإسلام، من الأندلس من جذورها، سنة 1609، وهو العام الذي تم فيه تهجير بقية المسلمين من الأندلس، بعد أن استعصى على النصارى تنصيرهم، وانتزاع الإسلام، من صدورهم، بالحديد والنار.
وأخيرا، فإن ذلك الدور الخياني، الذي لعبه أولئك المستعربون في حروب الاسترداد الصليبية، ضد المسلمين في الأندلس، يحتفي به المؤرخون الأسبان المعاصرون، أيما احتفاء، ويعتبرونه دورا بطوليا. ولهذا فقد خصص العلماء الأسبان لتاريخ النصارى المستعربين، مصنفات وبحوثا كثيرة، أشهرها حتى الآن، حسب علمي المتواضع المحدود، كتاب (تاريخ المستعربين)، وهو كتاب ضخم ألفه فرانسيسكو خافيه سيمونيه (1823- 1897)، وهو أسباني كاثوليكي متعصب جدا لوطنه ودينه، ورأى في هؤلاء المستعربين، حماة التقاليد الدينية الوطنية، في وجه الفتح الإسلامي.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق