قيس سعيد.. من أين يأتي الخطر
لا خوف على قيس سعيد من الداخل، فالتونسيون أكّدوا نجاعتهم وجدارتهم بحماية ثورتهم من كل شيطان مارد، وأثبتوا، بدل المرة ثلاثًا، أن الديمقراطية تليق بهم، وأنهم غير مستعدّين للتفريط في مكتسبهم الأهم والأكبر، والذي جعل تونس صاحبة تجربةٍ فريدةٍ، تستحق أن تدرّس في العلوم السياسية والممارسة الديمقراطية.
لم يأت قيس سعيد من حزبٍ أو كتلةٍ سياسيةٍ أو تيارٍ أيديولوجي، بل أروع ما في حكايته أنها تلخيصٌ مدهشٌ وبسيطٌ لأحلام الشعب وتطلعاته ووجدانه الفطري السليم، في نقائه ووضوح إدراكه هويته الجامعة.
لم يجترح قيس سعيد معجزةً سياسيةً خارقة. فقط كان تونسيًا عربيًا ثوريًا ديمقراطيًا، بمنتهى الصدق، من دون تكلّف أو ادّعاء، فاستحقّ أن يكون مستودع أحلام شعبه التونسي وطموحاته، بل وشعبه العربي كله، إذ كان قيس، في جولة الإعادة، مرشّح الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، الذي وجد أنه يعبر عنه، ويتحدّث بلسانه، مستخدمًا لغةً شديدة الرقي، شعبيةً لا شعبوية، هادئةً لا ديماغوغية، بسيطةً لا مبتذلة. ومن هنا، تفجرت ينابيع الفرح بفوزه، وكأنه انتصار للعرب في زمنٍ غارقٍ في الهزائم.
في جملة واحدة، جاء قيس سعيد هديةً تسد رمق الجماهير إلى الحرية والكرامة الوطنية والإنسانية، فصارت كلماته البسيطة هتافًا للصامتين والموجوعين والحالمين "العصفور الذي انطلق نحو الحرية لن يعود أبدًا إلى القفص من أجل الفتات".
قيس سعيد هو مرشح فلسطين والقدس، ذلك كان طريقه إلى الرئاسة، حين أجاب، ببساطةٍ صادقة، عن أسئلة فلسطين والتطبيع والحرية والثورة، فجاءت ردوده من خارج نصوص البلادة والعجز المكدّسة في كتب النظام الرسمي العربي، وملاحقه المتناثرة هنا وهناك، تتسكّع بها نخب لا تعرف من الحريات سوى حرية التطاوس والاستعلاء الفج على اختيارات الشعوب وإراداتها، ولا تعرف من المقاومة سوى مقاومة ومناهضة كل صوت يتمرّد على طوق التبعية الثقافية، والانهزامية السياسية أمام أصحاب القوة الغاشمة.. نخب طابت لها الحياة تحت أقدام الاستبداد والتطبيع، فصارت ترى في تهجئة أبجدية الجرح الفلسطيني جنونًا وعنترية وشعبوية.
ذكر قيس سعيد اسم الله يحمده على الانتصار، فصار على الفور، في نظر بؤساء الحداثة الزائفة، رجعيًا وإخوانيًا متأسلمًا. وذكر مفردة التطبيع، بوصفها خيانة للتاريخ وللذات، فتحوّل، في عيون سفهاء التنوير الملوث بالتبعية والتطبيع، مجنونًا منفصلًا عن الواقع.
نعم، قيس سعيد يستحق اللعنة، لأنه قادم من واقعيةٍ أخرى لا تنتمون إليها، واقعية الإنسان العربي والتاريخ العربي والجغرافيا العربية، لا واقعية كامب ديفيد وأوسلو والحكام المناشير والخارجين من بين سطور تلمود الطغيان والاستبداد.
هنا، فقط، مكمن الخطر والقلق على قيس سعيد، كونه صوتًا مختلفًا وغريبًا على جوقة النظام الرسمي العربي الذي يزاحم بعضه بعضًا على أبواب التطبيع مع الصهيوني، ويحارب بعضه بعضًا بالاتكاء على دعم العدو، متنافسين فيما بينهم على من يغترف من بحر التطبيع أكثر.
يأتي الخطر على قيس من هذا النظام الرسمي العربي الذي لم يعد يستشعر الحرج، أو يعرف الخجل في هرولته نحو"إسرائيل"، فما كان عارًا مرفوضًا قبل عقود صار شرًا لا بد منه قبل سنوات قلائل، والآن أصبح هدفًا يتعاركون من أجله.
في ذلك، يمكن التوقف عند موقفين للحكومة السعودية، الأول في أكتوبر/ تشرين أول 2015، حين أجبرت قرعة تصفيات كأس العالم وأمم آسيا المنتخب السعودي على أداء مباراة ضد منتخب فلسطين في رام الله. وقد دوّنت ذلك في مقال بعنوان "جهاد الفيفا ضد السعوديين"، ثمّنت فيه قرار الرياض بالانسحاب من المباراة، أمام إصرار الاتحاد الدولي، وجبريل الرجوب، على قراره بإجبار المنتخب السعودي على خوض المباراة في رام الله، ورفض طلب نقلها إلى خارج فلسطين، كي لا تقف البعثة السعودية بين يدي السلطات الصهيونية، للحصول على أذون الدخول إلى فلسطين المحتلة وأختامه.
الآن، وبعد أربع سنوات، يتكرّر الموقف، فتهرول السعودية إلى تلطيخ بعثة وفدها الرياضي بالأختام الصهيونية، عبورًا إلى لعب المباراة، ثم التجوّل في القدس، زيارة سياحية مصحوبة بزفّة إعلامية تنطلق من الرياض، ترى فيما كانت تعتبره سقوطًا قبل أربع سنوات شيئًا يدعو إلى الفخر.
ولهذا كله وغيره، لست أخشى على قيس سعيد إلا من هذا النظام الرسمي العربي الذي لا يقبل وجود رئيس يحترم قيم شعبه، ولا يبيع تاريخه وجغرافيته، لقاء انحناءةٍ فاخرةٍ أمام ترامب، أو مصافحة حارّة مع نتنياهو، أو رقصة صاخبة في حفل حاخامات.
لكن ثقتنا بلا حدود، في قدرة الشعب التونسي على حماية اختياره.
لا خوف على قيس سعيد من الداخل، فالتونسيون أكّدوا نجاعتهم وجدارتهم بحماية ثورتهم من كل شيطان مارد، وأثبتوا، بدل المرة ثلاثًا، أن الديمقراطية تليق بهم، وأنهم غير مستعدّين للتفريط في مكتسبهم الأهم والأكبر، والذي جعل تونس صاحبة تجربةٍ فريدةٍ، تستحق أن تدرّس في العلوم السياسية والممارسة الديمقراطية.
لم يأت قيس سعيد من حزبٍ أو كتلةٍ سياسيةٍ أو تيارٍ أيديولوجي، بل أروع ما في حكايته أنها تلخيصٌ مدهشٌ وبسيطٌ لأحلام الشعب وتطلعاته ووجدانه الفطري السليم، في نقائه ووضوح إدراكه هويته الجامعة.
لم يجترح قيس سعيد معجزةً سياسيةً خارقة. فقط كان تونسيًا عربيًا ثوريًا ديمقراطيًا، بمنتهى الصدق، من دون تكلّف أو ادّعاء، فاستحقّ أن يكون مستودع أحلام شعبه التونسي وطموحاته، بل وشعبه العربي كله، إذ كان قيس، في جولة الإعادة، مرشّح الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، الذي وجد أنه يعبر عنه، ويتحدّث بلسانه، مستخدمًا لغةً شديدة الرقي، شعبيةً لا شعبوية، هادئةً لا ديماغوغية، بسيطةً لا مبتذلة. ومن هنا، تفجرت ينابيع الفرح بفوزه، وكأنه انتصار للعرب في زمنٍ غارقٍ في الهزائم.
في جملة واحدة، جاء قيس سعيد هديةً تسد رمق الجماهير إلى الحرية والكرامة الوطنية والإنسانية، فصارت كلماته البسيطة هتافًا للصامتين والموجوعين والحالمين "العصفور الذي انطلق نحو الحرية لن يعود أبدًا إلى القفص من أجل الفتات".
قيس سعيد هو مرشح فلسطين والقدس، ذلك كان طريقه إلى الرئاسة، حين أجاب، ببساطةٍ صادقة، عن أسئلة فلسطين والتطبيع والحرية والثورة، فجاءت ردوده من خارج نصوص البلادة والعجز المكدّسة في كتب النظام الرسمي العربي، وملاحقه المتناثرة هنا وهناك، تتسكّع بها نخب لا تعرف من الحريات سوى حرية التطاوس والاستعلاء الفج على اختيارات الشعوب وإراداتها، ولا تعرف من المقاومة سوى مقاومة ومناهضة كل صوت يتمرّد على طوق التبعية الثقافية، والانهزامية السياسية أمام أصحاب القوة الغاشمة.. نخب طابت لها الحياة تحت أقدام الاستبداد والتطبيع، فصارت ترى في تهجئة أبجدية الجرح الفلسطيني جنونًا وعنترية وشعبوية.
ذكر قيس سعيد اسم الله يحمده على الانتصار، فصار على الفور، في نظر بؤساء الحداثة الزائفة، رجعيًا وإخوانيًا متأسلمًا. وذكر مفردة التطبيع، بوصفها خيانة للتاريخ وللذات، فتحوّل، في عيون سفهاء التنوير الملوث بالتبعية والتطبيع، مجنونًا منفصلًا عن الواقع.
نعم، قيس سعيد يستحق اللعنة، لأنه قادم من واقعيةٍ أخرى لا تنتمون إليها، واقعية الإنسان العربي والتاريخ العربي والجغرافيا العربية، لا واقعية كامب ديفيد وأوسلو والحكام المناشير والخارجين من بين سطور تلمود الطغيان والاستبداد.
هنا، فقط، مكمن الخطر والقلق على قيس سعيد، كونه صوتًا مختلفًا وغريبًا على جوقة النظام الرسمي العربي الذي يزاحم بعضه بعضًا على أبواب التطبيع مع الصهيوني، ويحارب بعضه بعضًا بالاتكاء على دعم العدو، متنافسين فيما بينهم على من يغترف من بحر التطبيع أكثر.
يأتي الخطر على قيس من هذا النظام الرسمي العربي الذي لم يعد يستشعر الحرج، أو يعرف الخجل في هرولته نحو"إسرائيل"، فما كان عارًا مرفوضًا قبل عقود صار شرًا لا بد منه قبل سنوات قلائل، والآن أصبح هدفًا يتعاركون من أجله.
في ذلك، يمكن التوقف عند موقفين للحكومة السعودية، الأول في أكتوبر/ تشرين أول 2015، حين أجبرت قرعة تصفيات كأس العالم وأمم آسيا المنتخب السعودي على أداء مباراة ضد منتخب فلسطين في رام الله. وقد دوّنت ذلك في مقال بعنوان "جهاد الفيفا ضد السعوديين"، ثمّنت فيه قرار الرياض بالانسحاب من المباراة، أمام إصرار الاتحاد الدولي، وجبريل الرجوب، على قراره بإجبار المنتخب السعودي على خوض المباراة في رام الله، ورفض طلب نقلها إلى خارج فلسطين، كي لا تقف البعثة السعودية بين يدي السلطات الصهيونية، للحصول على أذون الدخول إلى فلسطين المحتلة وأختامه.
الآن، وبعد أربع سنوات، يتكرّر الموقف، فتهرول السعودية إلى تلطيخ بعثة وفدها الرياضي بالأختام الصهيونية، عبورًا إلى لعب المباراة، ثم التجوّل في القدس، زيارة سياحية مصحوبة بزفّة إعلامية تنطلق من الرياض، ترى فيما كانت تعتبره سقوطًا قبل أربع سنوات شيئًا يدعو إلى الفخر.
ولهذا كله وغيره، لست أخشى على قيس سعيد إلا من هذا النظام الرسمي العربي الذي لا يقبل وجود رئيس يحترم قيم شعبه، ولا يبيع تاريخه وجغرافيته، لقاء انحناءةٍ فاخرةٍ أمام ترامب، أو مصافحة حارّة مع نتنياهو، أو رقصة صاخبة في حفل حاخامات.
لكن ثقتنا بلا حدود، في قدرة الشعب التونسي على حماية اختياره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق