تركيا: جذور الصراعات الداخلية
محمد إلهامي
مقدمة:
ليس ثمة دولة في العالم المعاصر تحمل من عبء التاريخ والجغرافيا مثلما تحمل تركيا المعاصرة؛ فمن جهة التاريخ تجرُّ تركيا خلفها تاريخا مديدا لإمبراطورية عثمانية كانت أقوى الإمبراطوريات في عصرها الذهبي، ثم طرأ عليها تحول قاسٍ عنيف حملها إلى الاتجاه المناقض وهو العلمنة والتغريب ومحاولة زرع نمط حضاري مناقض لهويتها وثقافتها. ومن جهة الجغرافيا فإن موقعها في قلب العالم عند التقاء الطرق والمضايق البحرية، ومن ثم: خطوط الإمدادات ونقل الطاقة، يجعلها مسرح المطامع والمطامح، وبقدر ما خدمتها الجغرافيا في لحظة القوة بقدر ما صارت عبئا عليها في لحظة الضعف. ثم إن حدودها الحالية التي بُنيَت على غير اتفاق مع الطبيعة أو الثقافة أنشأ فيها أزمة إنسانية لما فيها من التنوع البشري العرقي والديني والمذهبي.تحاول هذه الورقة البحثية تقديم صورة عامة موجزة عن جذور الأزمات في تركيا، والبحث في الجذور يعني محاولة النظر المتعمق إلى الواقع بالفهم المتعمق للتاريخ والجغرافيا، وهو فهم يتجاوز التفاصيل والمتغيرات اليومية ليسلك إلى فهم ورصد القدر الثابت والعميق في الأزمة التركية.
وبهذا يتحدد المجال المكاني موضع الدراسة، وهو تركيا المعاصرة بحدودها المعروفة والمستقرة في خريطة السياسة الحالية، مع مدَّ النظر نحو الجغرافيا المحيطة طالما يؤثر هذا في شكل وتصور الأزمة التركية.
كذلك فإن الفترة التاريخية المدروسة في هذه الورقة تمتد منذ تأسيس الجمهورية التركية الكمالية 1923، وحتى اللحظة التي تسلم فيها حزب العدالة والتنمية السلطة في 2002م، إذ لا تزال تجربة الحزب ماضية متفاعلة لم تنته بعد، ومن ثم لم تدخل أوراقها باب التاريخ كتجربة مكتملة، والهدف في هذه الورقة هو رصد جذور الأزمات. بمعنى أنه يمكن وصفها بموجز للأوراق التي كانت موضوعة أمام حزب العدالة والتنمية لحظة تسلمه للسلطة.
ونحن ننظر في بحث جذور الأزمة إلى محورين رئيسييْن، هما: التاريخ والجغرافيا (طبيعية وبشرية)، فنحن في هذه الورقة ننظر في العوامل التاريخية التي شكَّلت الواقع المعاصر، والعوامل الجغرافية التي يتحرك فيها السياسي المعاصر ولا يملك منها فكاكا إذ الجغرافيا حقائق حتمية لا يمكن تغييرها.
المحور الأول: أزمة التاريخ في تركيا
دار الزمان على الدولة العلية، وصارت جيوشها المهيبة تتعرض للهزائم، وبدأت أطرافها تضعف ويقضمها الكفار من كل جانب، ومن بعد ما كان جيش الإنكشارية مفخرة الدولة العثمانية العلية صار عبئا عليها، واتجهت الأنظار والآمال إلى فحص ذلك السر الذي قلب الحال، وكان أول ما انتهى الرأي إليه أنه ينبغي التخلص من الإنكشارية وبناء جيش حديث على النمط الأوروبي الذي أثبت كفايته في الحروب، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة تخلص السلطان محمود الثاني من الإنكشارية، وافتتحت المدارس العسكرية واستقدمت لها الخبرات الأوروبية من علوم ومدربين، وكان من بين الآثار العديدة لهذا التوجه ظهور طبقة عسكرية متغربة نبتت فيها بعدئذ التنظيمات السرية التي نفذت في النهاية انقلاباً علمانياً على السلطان عبد الحميد الثاني ثم على الخلافة كلها وأسست الدولة العلمانية في تركيا[1].أولاً: عصر أتاتورك ـ التغريب و”صناعة” تركيا
اعتنق أتاتورك “القومية” كفكرة غربية رغم أنه لا وجود لها في الواقع التركي، فليس ثمة “هوية تركية” منفصلة ومحددة حينذاك، ولا كان هذا مطلباً شعبياً، لكنه عمل على خلقها وإيجادها[2] وذلك بقهر البشر الموجودين داخل الحدود الجغرافية لـ “تركيا الحديثة” على قومية ولغة واحدة، فهي في الواقع عملية “خلق السلالات القومية”، فعُرِّف المواطن التركي بأنه (LAHSÜMÜT) وهي الحروف الأولى من: (علماني، حنفي، سني، مسلم، تركي)، واعْتُبِر من لم يخضع لهذا التعريف عدوا، وترتب على هذا في الداخل أن سحقت كل معارضة –لا سيما إن صدرت عمن هم خارج “الهوية التركية” كالأكراد أو العلويين- بعنف وصل إلى المذابح والتهجير. وترتب عليه في الخارج أن نفضت تركيا يدها من كل ميراث وعلاقات الدولة العثمانية مع البلقان أو بلاد العرب[3].عند لحظة إعلان الجمهورية كان أتاتورك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس حزب الشعب الجمهوري والقائد العام للجيش، وهكذا قامت “الكمالية على سياسات التحديث الملغومة التي لا تعرف الهوادة”[4] ولا تفكر في تفاوض أو مشورة مع الشعب[5]، والتي فاقت سطوة بطرس الأكبر بل كانت النموذج الأقسى لمقولات ماركس وفيبر عن هدم وإزالة القديم[6]؛ فأغلقت المدارس الدينية ليحل محلها تعليم رسمي علماني موحد (1924)، ثم أغلقت تكايا وإخوانيات الصوفية ومُنِع ارتداء الطربوش (1925)، وتغيرت العطلة الأسبوعية من الجمعة إلى الأحد، وأُدْخِل التوقيت الأوروبي بدلاً من التوقيت التركي المبني على الصلوات والتقويم الميلادي بدلا من الهجري، وفي أقوى ضربة ثقافية حضارية حُظِر استخدام الحروف العربية واستبدل بها الحروف اللاتينية (1928) مما أنشأ جيلا منقطع الصلة بماضيه وتراثه، واستبدلت القوانين العثمانية بالقانون الإيطالي، وأُلْغِيَ تعدد الزوجات والطلاق، وقُرِّر رُفع الأذان بالتركية بدلا من العربية في سابقة تاريخية (1932م)[7].
لم تكن العلمانية التركية تعني فصل الدين عن الدولة بل إنتاج الدولة لدين يخدمها[8]. ولذات الهدف أراد أتاتورك صناعة تاريخ جديد فعهد بالمهمة لابنته بالتبني “عفت عنان” التي كانت تلميذة في جنيف للمؤرخ الأنثروبولوجي “يوجين بيتارد” صاحب نظرية “أن التاريخ هو صراع الأجناس العليا مع الأجناس الدنيا”، فصدر عنها تاريخ عنصري يرى الترك جنسا أعلى من سائر الأجناس، وموجود من قديم الزمان في الأناضول، وله لغة عليا قديمة أَخَذَتْ منها سائر اللغات، وصارت المهمة تنقية اللغة مما دخلها من العربية والفارسية[9].
أسفر عصر أتاتورك عن تحويل تركيا من أرض عاصمة الخلافة الإسلامية التي تحرك الجيوش شرقا وغربا دفاعا عن الدين إلى “دولة قومية علمانية يتصادف فيها أن يكون الإسلام دين الأغلبية”[10]، وصارت الدولة “الإسلامية” الوحيدة، التي يحمي دستورها العلمانية ويستبعد الإسلام تماما[11]، وانقسمت تركيا بين “نخبة مدنية متغربة وجماهير قروية ريفية متمسكة بالإسلام”[12]، فالجماهير تحلم بثورة إسلامية، ولكنها بالنسبة للنخبة “كقيام الساعة”[13].
على أن كل ما حدث لم يؤد إلى إصلاح حقيقي، بل خلق “طبقة من الحداثة والأعراف والمعمار الأوروبي، والتي عملت على طمس ما تحتها من فقر وتخلف والكثير من التوترات العرقية والدينية”[14].
ثانياً: المقاومة الإسلامية
ظل الإسلام –بالرغم من كل قهر الدولة ومطارداتها- الهوية العميقة للأتراك، وقد جاهد الأتراك للدفاع عن هويتهم بقدر ما استطاعوا، فبالجهاد حينا، وبالسياسة أحيانا، وبالدعوة والتعليم في كل حين.
خلال العشرينات والثلاثينات اندلعت سلسلة ثورات لأتباع الطريقة النقشبندية وُوجهت جميعها بعنف لا رحمة فيه[15]، وكان أبرزها حركة الشيخ سعيد بيران الكردي (فبراير 1925م) في شرق تركيا بجيش “قوامه 15 ألف مقاتل استولى على جزء كبير من ديار بكر والمحافظات المتاخمة لها… واستطاع الجيش احتواءها في مارس من ذات العام بالاستعانة بقصف جوي مكثف. وشُنِق الشيخ سعيد وأتباعه، وتم ترحيل الكثير من القبائل التي اشتركت في التمرد إلى غرب الأناضول”[16]، وكان أتباع الطريقة التيجانية يحطمون أو يلطخون تماثيل أتاتورك ويؤذنون بالعربية وبلغوا من الجرأة أنهم تظاهروا أمام المجلس الوطني[17]!
وبرزت كثير من حركات المقاومة الدعوية والعلمية التي تقتصر على الوعظ والدعوة والتربية، وبرزت أسماء كبيرة كالشيخ عاطف الإسكليبي الذي أُعْدِم بسبب كتاب ينكر ارتداء القبعة تشبهاً بالغرب وقد صدر قبل قوانين الزي الأتاتوركية، والشيخ سليمان حلمي الذي تصدى سرًّا لتعليم اللغة والحرف العربي بعد قانون كتابة التركية بالحرف اللاتيني[18]، وأشهر هؤلاء قاطبة كان الشيخ سعيد النورسي صاحب الرسائل الذائعة “رسائل النور” والذي تحول أتباعه إلى تيار كبير معروف[19].
ثالثاً: عصر الانقلابات: التعددية السياسية
مات أتاتورك (10 نوفمبر 1938م) وخلفه رفيقه عصمت إينونو، إلا أنه اضطر إلى تغييرات مؤثرة في طبيعة النظام وخطابه، من أهمها فتح باب التعددية الحزبية (1946م) وهو ما يقتضيه موقع تركيا السياسي ضمن المعسكر الغربي “الليبرالي” في مواجهة المعسكر الشرقي “الشيوعي”[20]، فدخلت تركيا ضمن خطة مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب (1948م) وانضمت للمجلس الأوروبي (1949م) وحلف الناتو (1952م) وحلف بغداد (1956م) الذي قُصِد به محاصرة الاتحاد السوفيتي جنوبا، واتفاقية الشراكة (1963م) التي تمهد لدخول السوق الأوروبية[21].
أُجْرِيَتْ في عام (1946م) أول انتخابات تركية، ثم أجريت انتخابات (1950م) وكانت أول انتخابات نزيهة، وفاز فيها حزب العدالة المحافظ بزعامة عدنان مندريس، وهو برلماني سابق بحزب الشعب الجمهوري، سوَّق نفسه إلى الأتراك من طريقيْن: رفع سلطة الدولة عن الاقتصاد فكسب بهذا الطبقة الصناعية التي بدأت في البروز والتشكل، ورفع سلطتها عن الدين وإعادة رفع الآذان باللغة العربية. لم يكن التغيير كبيرا لكنه كان بداية توجه جديد، فأثيرت اضطرابات تزعمها اليسار وأججتها الدولة العميقة ثم ختمتها بانقلاب عسكري (27 مايو 1960م) أَعْدَمَ أوَّلَ رئيس وزراء منتخب في تاريخ البلاد (16 سبتمبر 1961م)[22]!
رابعاً: الحرب الباردة
افتتح عقد الستينيات بعسكر قننوا وضعهم وسلطتهم على مساحة السياسة[23] التي شهدت ظهور شخصية سليمان ديميريل –زعيم حزب العدالة- كنسخة مخففة من مندريس، إذ فاز في انتخابات (1965م) التي جرت في وقت يشهد تصاعد قوة اليسار كجزء من نمو صوت اليسار عالمياً، لا سيما بعد الهزيمة الأمريكية في فيتنام، وفي تلك الأثناء ظهر أول حزب يساري في تركيا هو حزب العمال، وتنامت قوة الطلاب اليساريين، ونشبت صدامات بين اليسار وبين الإسلاميين والمؤيدين لحكومة ديميريل، وبرغم الوضع المضطرب استطاع حزب العدالة بزعامة ديميريل الفوز بانتخابات (1969م)، لكن الاضطرابات استمرت واتخذها العسكر –المتهمون بإثارتها وتدبيرها من الخلف- ذريعة لتنفيذ انقلاب عسكري جديد (مارس 1971م)[24].وضع الانقلاب دستورا معاديا للحقوق والحريات، وشهد عقد السبعينيات مزيدا من التدهور والاضطراب السياسي، وذلك أن زعماء المشهد السياسي الأربعة كانوا من الاختلاف والتنافر بحيث استحال استقرار الأمر لأحدهم منفردا أو لبعضهم متحالفاً مع آخر، ظهر إلى جوار “سليمان ديميريل” “بولنت أجاويد” على رأس حزب الشعب الجمهوري، و”ألب أرسلان توركيش” على رأس حزب الحركة القومية، و”نجم الدين أربكان” على رأس حزب السلامة الإسلامي، وتشكلت في هذا العقد إحدى عشرة حكومة منها ما قضى شهرا واحدا، وكان أطولها عمرا من قضى ثلاث سنوات فحسب. ومن ثَمَّ كانت البيئة التركية أرضا خصبة لإثارة وإدارة اضطرابات جديدة تتصنع في محاضن الدولة العسكرية العميقة، لينتهي المشهد بانقلاب عسكري جديد في (1980م)[25].
تولى العسكر زمام الحكم لثلاث سنوات، وكعادتهم وضعوا دستوراً جديداً يُقيد المزيد من الحريات ويقضي على المزيد من الحقوق، وابتكر الدستور عتبة 10% من الأصوات لدخول البرلمان منعا للأحزاب الكردية والإسلامية[26]، إلا أن هذا الانقلاب انفرد عن سابقيه بأمرين:
أولهما: أنه كان أكثر الانقلابات دموية، فقد بلغ ضحاياه أكثر من نصف مليون مسجون ومُعَذَّب، ووضع نحو مليونيْن تحت الاشتباه الأمني، وأُعْدم خمسون من بين خمسمائة صدرت عليهم أحكام الإعدام، ومُنِع نحو أربعمائة ألف من السفر، ونُفِي ثلاثون ألف ناشط سياسي، وأُسْقِطت الجنسية عن أربعة عشر ألف تركي، وحُظِرت النقابات وكاد أن يُقْضَى تماما على الروابط والجمعيات[27].
ثانيهما: أن خطاب الانقلاب بدا متسامحا ومُوَقِّرا للإسلام، وفُسِّر هذا بأنه من لوازم مواجهة الشيوعية التي يقتضيها الموقع التركي ضمن المعسكر الغربي، ومن لوازم احتواء المدّ الإسلامي بأسلمة “تقودها الدولة من فوق”[28] وتُعيد تكييف الإسلام لصالح الدولة[29].
رتب العسكر لانتخابات جديدة (ديسمبر 1983م) خاضها ثلاثة أحزاب منها اثنان تابعان للدولة العميقة والثالث لا يؤبه له فتُرك ليكون زخرفا ديمقراطيا، إلا أن المفاجأة تحققت، وفاز الحزب الثالث “الوطن الأم” –الديمقراطي المحافظ- بزعامة “تورجت أوزال”[30]، وكان أوزال متديناً وعضوا في طريقة نقشبندية ووصف بأنه “أول رئيس تركي يخفي إيمانه ويختلس الصلاة في القصر الجمهوري بعيدا عن العسكر”، كما حرص على صيام رمضان وحج البيت[31].
كان زمن الانقلاب انعكاسا للأجواء والأوضاع الدولية من جهة ولسياسات وانحيازات الدولة العميقة من جهة أخرى، فنستطيع أن نرى ثلاثة اتجاهات متناقضة اجتمعت في نفس الوقت؛ ففي السياسة يسود خطاب قومي عسكري تركي عنصري وتنتشر بكثافة تماثيل أتاتورك، وفي الاجتماع يُسمح بوجود أوسع للإسلام بعيدا عن السياسة فتنتشر المساجد ومدارس الأئمة والخطباء، وفي الاقتصاد يسود اتجاه ليبرالي صريح. وفوق كل هذا رئيس وزراء كردي هو أوزال وفوقه كنعان إيفرين قائد الانقلاب العسكري في موقع رئيس الجمهورية، واستطاع أوزال أن يكون نقطة التقاء المحافظين والقوميين وممثلهم أمام سطوة “الدولة العميقة”، ولا زال مؤيدوه في الواقع التركي كثر، وهم يحتفون بمرونته وقدرته على الموازنة بين سائر الضغوط والاتجاهات المتناقضة[32]. كان الزمن يسير في ركاب أوزال على حساب العسكر الأتاتوركي في الجملة، حتى أنه يقال –بحق- أن بذور سياسات حزب العدالة والتنمية غُرِسَت في ذلك العهد[33].
لقد ساعده ضعف الشيوعية ثم انهيارها مع زيادة القوة الغربية الأمريكية في عدة أمور كتوسيع الحريات بتعزيز عمل الجمعيات وإنهاء احتكار الدولة للمجال العام واحتواء المدّ الإسلامي[34]، وإرساء الليبرالية الاقتصادية التي ستؤدي إلى نمو طبقات اجتماعية جديدة ذات ثقافة جديدة ستذهب لاحقا إلى تحدي الدولة[35]، وتدشين سياسة الانفتاح على العلاقات القديمة الموروثة عن العثمانيين بين تركيا ودول البلقان وبينها وبين جمهوريات الاتحاد السوفيتي بل والتعبير عن تركيا خارجيا بأنها إسلامية وأوروبية معا[36]، ومع هذا فقد شهد هذا العهد تجديد الهوية الكمالية والقومية التركية التي كان الأكراد أبرز ضحاياها، وشهد أيضاً تحسين العلاقات مع إسرائيل. وكلما تقدم الزمن كلما قويت مكانة أوزال على حساب العسكر، حتى انتخب رئيسا للجمهورية (1989م) وتسلم السلطة من قائد الانقلاب كنعان إيفرين.
وعند مطلع التسعينيات كان انهيار الاتحاد السوفيتي يلقي بظلاله على الواقع التركي؛ إلا أن أهم هذه الآثار يتمثل في ثلاثة اتجاهات؛ الأول: تمدد تركيا خارجياً في الفراغ الذي خلَّفه السوفييت في البلقان وآسيا الوسطى، والثاني: اكتشاف تركيا نوايا أوروبا التي تعاملت معها بإهمال كأن حاجتها إليها قد انتهت بزوال الشيوعية، وكلا الأمرين دشَّن توجه تركيا نحو الشرق[37]، والثالث: هو تأييد أوزال للحملة الأمريكية على العراق (1990م) بالمخالفة لتوجه العسكر مما جعلهم لا يتمتعون بالغطاء السياسي الخارجي اللازم لتنفيذ انقلاب عسكري، بل انعكس الحال وأُجْبِر رئيس الأركان التركي على الاستقالة بعد مواجهة علنية مع أوزال.
خسر حزب الوطن الأم في انتخابات (1991م) ومات أوزال فجأة (1993م) فيما يحسب البعض أنه اغتيال[38]، ولم يملأ أحد فراغ الزعيم التركي الراحل، وتوزع المشهد السياسي بين شركاء متشاكسين تنشأ بينهم ائتلافات حكومية هشة ما تلبث أن تنهار، فقد ورث مسعود يلماظ أوزال في زعامة حزب الوطن الأم، وورثت تانسو تشيلار سليمان ديميريل في زعامة حزب الطريق القويم، وظل بولنت أجاويد على رأس حزب اليسار الديمقراطي، ونجم الدين أربكان على رأس حزب الرفاه الإسلامي، وألب أرسلان توركيش على رأس حزب الحركة القومية.
وفي مثل هذه البيئة المناسبة عاد من جديد شبح الدولة العميقة ونفوذها، عاد العسكر يلهبون معركة “محاربة الإرهاب الكردي” ليتسع نفوذهم ويجرون الجميع إلى معركتهم، وانتشرت عمليات القتل والاغتيالات المجهولة، وتراجعت مكاسب تركيا التي حصَّلها أوزال من انفتاح ونفوذ مدني، إلا الليبرالية فقد زادت، والعلاقات مع إسرائيل فقد قويت لا سيما في التسليح والأمن والتجارة وإلى حد ما الثقافة والتعليم.
ثم جاء الانقلاب العسكري على الحكومة الوحيدة التي شكلها نجم الدين أربكان –زعيم حزب الرفاه الإسلامي- بعد ثمانية أشهر من ولايتها، في (فبراير 1997م)، وهو ما يُعرف بالانقلاب الناعم، ذلك أن العسكر سلكوا طريق الضغط على الساسة لا انتزاع السلطة قهرا، وانتعشت حرب العلمانية العسكرية على الإسلاميين ومؤسساتهم وأنشطتهم وأموالهم وإعلامهم وحتى الحجاب، وبرغم كل ما تمتع به أربكان من صلابة إلا أنه اضطر للاستقالة (يونيو 1997م) بعد سنة من توليه الحكومة[39].
منذ 1997 وحتى 2001 عاشت تركيا واحدة من أكبر الأزمات في تاريخها، وصلت السياسة إلى إفلاس شامل، وأزمات طاحنة، وانهار الاقتصاد وتسارع التضخم واتسع حجم الفساد، واتضح ذلك جليا عند فشل الحكومة في التعامل مع الزلزال الهائل الذي ضرب مرمرة (أغسطس 1999م) فقُتِل فيه 18 ألفا (وقيل 40 ألفا) مع دمار هائل. كان كل هذا بمثابة التمهيد للتغير الكبير الذي ستشهده تركيا بقدوم حزب العدالة والتنمية.
وفي إطار عرض هذه التطورات، يمكن إجمال الصورة العامة لتركيا العلمانية على أنه طوال تاريخ تركيا الحديث، حتى من بعد التحول نحو الديمقراطية والتعددية الحزبية (1946م)، لم تكن الحكومة المنتخبة هي الحاكم على الحقيقة، بل إنها تقع تحت هيمنة أطراف غير منتخبة مثل الجيش والبيروقراطية والقضاء[40]. ويمكن في مرحلة لاحقة أن نضيف إليهم “الإعلام”؛ إذ هو –خصوصا في المجتمعات الرأسمالية- بوق لمالكيه من ذوي الأموال وهم غير منتخبين، وهم به قادرون على التأثير وتوجيه الشعوب والضغط على الساسة[41].
ولئن كانت لحظة تأسيس الجمهورية تُمثل ولادة الدولة التركية العلمانية فإن لحظة التحول إلى التعددية هي لحظة إنشاء قشرة مدنية ديمقراطية شكلية تخفي تحتها ما اصطلح على تسميته فيما بعد: الدولة العميقة، الدولة الحارسة، الدولة الموازية .. إلخ. تلك التي تتكون من تحالف يضم حزب الشعب الجمهوري “والقيادة العليا للجيش والقضاء الأعلى والبيروقراطية، والذين استمروا في النظر لأنفسهم باعتبارهم الملاك المستحقين للدولة”، فكانت لهم هيئات سرية وعلنية لتنفيذ الأعمال القذرة، إذ كل شيء كان مسموحا به بمبرر “إنقاذ الدولة”، ولو كان قتل الآلاف وتأجيج الصراع بين المكونات المختلفة في تركيا لتوفير المبرر للانقلابات العسكرية، ولم تجد هذه الانقلابات أي معارضة حقيقية من الغرب الليبرالي الذي ضغط لإنشاء تعددية من قبل بل كان هذا هو النظام المفضَّل لديهم[42].
وقد ظل التوجه نحو الغرب سياسة مستقرة لتركيا الحديثة في عهد جميع حكوماتها، وحتى محاولات أوزال وأربكان لم تكن جذرية ولا ثورية، وهذا طبيعي ومُتَفَهَّم، إذ لم يكن بالإمكان غير هذا، ومثلما يُقال بأنها محاولات إسلامية أرادت النفاذ إلى النظام العلماني المغلق من خلال منظومة الحريات الغربية، يقال أيضا بأن المنظومة الغربية احتوت واستوعبت الإسلاميين الأتراك وأنشأتهم خلقا جديدا.
سادساً: كفاح المقهورين
ما إن جاءت سياسة التعددية حتى ظهرت أحزاب إسلامية، لكنها أغلقت بعد أيام أو شهور، مما اضطر الإسلاميين للدخول إلى السياسة عبر الأحزاب العلمانية المحافظة واليمينية التي لا تعادي الدين[43]. ومنذ الدخول في التعددية كانت السلطة الكمالية لا تشعر بالتهديد الوجودي من جهة الإسلاميين كما كان الحال في عصر أتاتورك، فارتخت قبضة الكمالية وصارت علاقتها ضد الإسلاميين كسلطة تضطهد وتطارد منافسيها لا كحركة تريد إبادة أعدائها، ثم إن أجواء الحرب الباردة ووجود تركيا في المعسكر الغربي كان يسمح بمساحة للإسلام كحائط صد ضد الشيوعية.أسفرت هذه المعادلة بعد قليل عن عهد عدنان مندريس الذي استمر بعقد الخمسينيات، وشهد ما يشبه انقلابا في صيغة الدولة العلمانية الكمالية إذ افْتُتِحَتْ في عهده مدارس الأئمة والخطباء وسُمح للأئمة بدروس تطوعية في المدارس وأقر رفع الآذان باللغة العربية وتخصيص دروس دينية في الإذاعة. وحتى لما انقلب عليه العسكر (1960م) وأعدموه كانت سلطة الانقلاب بحاجة إلى الوقوف ضد الشيوعية، فكان دستور (1961م) موصوفا بالليبرالية ويحفظ الحريات وحقوق التجمع مما أتاح فرصة واسعة أمام النمو الإسلامي[44]، وصارت الأحزاب تغازل الشعور الإسلامي طلبا للجماهير وحرصت على إثبات أنها لا تعادي الدين[45]، وهكذا لم تضع كل مكتسبات عهد مندريس بل كان عهد سليمان ديميريل نسخة مخففة من عهد مندريس فيما يخص المساحة الإسلامية[46].
وما إن انتهى عقد الستينيات إلا وكان المزاج الإسلامي سائدا على الساحة التركية[47]، وظهرت أحزاب إسلامية كحزب “الوحدة التركي” الذي أسسه الجنرال صدقي أولاي عميد الكلية الحربية (1967م) وحزب “تحرير تركيا”[48]، إلا أن هذه الأسماء انطفأت سريعا ولم يبق في الأفق سوى اسم أول محاولة للزعيم الإسلامي القادم: نجم الدين أربكان، ذلك هو حزب النظام الوطني (يناير 1970م)، وهو الحزب الذي صار يصارع النظام العلماني العسكري فيغلقونه فيعود باسم جديد، فكانت سلسلة أحزاب بدأت بـ “السلامة الوطني” ثم “الرفاه” ثم “الفضيلة” ثم “السعادة”.
ازدهر النمو الإسلامي في السبعينيات، وشهدا هذا العقد نموا كبيرا في الإقبال على كتب الحركة الإسلامية المترجمة من العالم العربي، وكانت كتب حسن البنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم الأكثر رواجاً، وانتشرت المكتبات الإسلامية، وكثرت المجلات الإسلامية في تلك الفترة والتي كانت تتخذ من الأدب غطاءً لمضامينها الإسلامية[49]، ثم كان عهد أوزال فرصة ممتازة لنمو وتمدد الحركات الإسلامية بشتى أطيافها، خصوصا مع ازدهار قطاع الاقتصاد الذي كان ثمرة لظهور طبقة رجال أعمال في تلك الفئة التي يهيمن عليها التدين ممن قدموا قديماً من القرى والأنحاء إلى المدن والعواصم جراء سياسات الدولة الأتاتوركية فسكنوا أطراف المدن الكبرى أو كانوا قوة عاملة في مصانع الدولة، ثم صاروا فيما بعد ينافسون في القطاع المالي، وهم الذين سيُعرفون فيما بعد باسم “الموسياد” كما ستُعرف مناطقهم الصناعية باسم “نمور الأناضول”، فصار هؤلاء مددا للأحزاب الإسلامية كما صارت الأحزاب الإسلامية تدافع عنهم ضد حيتان المال الأتراك أو الأجانب باعتبارهم طليعة الاقتصاد المحلي ضد الإغراق الأجنبي[50].
ومثلما ظهرت أحزاب إسلامية تنافس النظام العلماني وتشتبك معه، ظهرت في أطياف هذا التيار الإسلامي جماعةٌ بدت أقرب إلى الإسلام الذي تريده الدولة العلمانية، وهي جماعة فتح الله كولن التي هي طيف من التيار النورسي إلا أنها لم تكتف بالاستقامة الشخصية بل سعت لصناعة بيئة إسلامية بالعمل الدعوي والتعليمي والاقتصادي وابتعدت عن العمل السياسي[51]، وقد فضلت هذه الجماعة ألا تواجه النظام بل أن تهادنه فَسَعَتْ إلى اختراق مؤسسات الدولة وألزمت أفرادها الذين أهلتهم لهذا بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يصفهم بالإسلامية فصار لها نفوذ كبير داخل جهاز الدولة، وهي في طريقها هذا تلقت دعما حكومياً صريحاً أحيانا كما تعرضت للمضايقات والضغوط أحيانا أخرى باعتبار مؤسساتها التعليمية والمالية رافدا داعما ومساندا للأحزاب الإسلامية، رغم أنها ملتزمة دائما بمعارضة هذه الأحزاب وكانت الحركة الإسلامية الوحيدة التي تعارض أربكان وتوالي الجيش والحكومة الرسمية ولم تعترض على انقلاب (1997م)[52]، ولهذا يُختلف في شأنها كثيرا وما إذا كان منهجها وسيلة ذكية اعتمدها الإسلاميون في تركيا أم أن النظام العلماني صنع بذكاء جماعة إسلامية وظيفية على صبغته ومثاله؟! وسيزداد هذا الاختلاف وتشتد إثارته حين تحقق هذه الجماعة أعلى تأثير ونفوذ في نفس اللحظة التي ينجح فيها حزب العدالة والتنمية – تلاميذ أربكان – في أن يكون على رأس السلطة، إذ سيشن كل منهما على الآخر حربا ضروسا.
والحصيلة النهائية أن تركيا منذ السبعينيات شهدت فشل الكمالية في أن تكون بديلا للإسلام[53]، وعند مطلع التسعينيات انتهى البعض إلى أن الكمالية تتشقق وأن الإسلام بات أقوى شيء في تركيا وأن الكمالية لم تفهم موقع الإسلام من هوية الأتراك[54].
إلا أن اللافت للنظر أن الديمقراطية والتعددية التركية –وإن كانت قشرة للدولة العميقة- استطاعت استيعاب المجهود الإسلامي داخلها، وبقدر ما ظلت الدولة العميقة تخشى من اختراق أو اختطاف الإسلاميين للدولة عبر هذه الآلية، بقدر ما أمنت من تحول المجهود الإسلامي نحو الحركات السرية والقتال المسلح[55].
ويُعَدّ أربكان أول سياسي إسلامي في تركيا منذ دخولها الحقبة العلمانية، فلقد كان السياسيون قبله علمانيون، ومن نُسِب منهم إلى العاطفة الإسلامية كمندريس أو أوزال أو ديميريل إنما كانوا يعلنون اعتناق العلمانية وإذا أوسعوا مساحة لبعض المظاهر الإسلامية فإنما هو من منطلق الليبرالية والحريات، الحريات التي يستلزمها موقع تركيا كعضو في المعسكر الغربي ضد المعسكر الشيوعي، وفي حين انتهى مندريس نهاية درامية بإعدامه انتهى أوزال نهاية نصف درامية بموت مشكوك فيه وانتهى ديميريل نهاية عادية بذوبانه في النظام وأفول نجمه، ثم كانت الإثارة كلها متكثفة في الحياة الحافلة لنجم الدين أربكان! على أنه ينبغي أن نقول بأنه لولا راديكالية نجم الدين ما سطع نجم أوزال ولا أفل نجم ديميريل ولا ظل نجم مندريس ذكرى تثير الشجون الإسلامية.
سابعاً: أربكان وتاريخ تركيا العلمانية
ينحدر أربكان من نسل أمراء السلاجقة، وتربى في أحضان الطريقة النقشبندية، ثم تخرج في كلية الهندسة كمهندس متفوق، فكان الأول على دفعته، وكان أصغر أستاذ مساعد في جامعة اسطنبول، وله إضافات في صناعة المحركات، وأسس مصنعا لإنتاج محرك الديزل وهو في الثلاثين، ثم تولى مناصب اقتصادية مهمة فكان الأمين العام لاتحاد غرف التجارة والصناعة والبورصة التركية (1967م) ثم رئيسه (1986م)، وكانت له سياسة وطنية تصادمت مع العلمانيين وكبار الرأسماليين فاستقال تحت الضغوط الإعلامية العلمانية، فعزم على دخول عالم السياسة فاصطدم مع الرئيس ديميريل الذي رفض أن يضعه على قوائم انتخابات حزب العدالة (1969م) لتوجهه الإسلامي، فترشح مستقلا في قونية وفاز، ثم أسس أول أحزابه: حزب النظام الوطني (26 يناير 1970م)[56].كان هذا أول حزب إسلامي صريح منذ تأسيس الجمهورية، وقد أغلق بعد عام وأربعة أشهر من تأسيسه (20 مايو 1971م) ضمن سياق الانقلاب العسكري (مارس 1971م)، وحُظِر أعضاؤه من ممارسة السياسة لخمس سنوات، وفي (1972) ودفع أربكان بعض من لم يصبهم الحكم القضائي لتأسيس حزب السلامة الوطني (11 أكتوبر 1972م)، وخفَّف من لهجته وشعاراته الإسلامية، وفاز بالمركز الثالث في انتخابات (1973م)، ودخل في تحالفات حكومية مع حزبي الشعب الجمهوري بزعامة أجاويد والعدالة بزعامة ديميريل ما لبثت أن انهارت، لكن الحزب كسب منها خبرة سياسية إذ كانت له ست أو سبع وزارات، وكان أربكان في موقع نائب رئيس الوزراء[57].
وعند نهاية السبعينات نجحت الثورة الإيرانية وصار لها زخم كبير، وتبادل الخميني وأربكان التهاني، وفي سبتمبر (1980م) حشد حزب السلامة لمظاهرة ضخمة في مدينة قونية أوصلتها بعض التقديرات إلى ربع المليون احتجاجا على القرار الإسرائيلي بضم القدس، ومع ما تمر به البلاد من أزمات واضطرابات، كانت المظاهرة مناخا جامعا اختلطت فيه الروح الإسلامية بالروح الاحتجاجية ورُفِعَت فيها شعارات تعلن الإسلام وترفض العلمانية، وبدا المشهد كأنما سيكرر أربكان تجربة الخميني في إيران، فكان الردُّ الانقلاب العسكري بقيادة كنعان إيفرن (1980م)، وسُجن أربكان ثم أفرج عنه مع حظر ممارسة السياسة لأربع سنوات[58].
ولما سُمح بتأسيس الأحزاب (1983م) أسس أربكان حزب الرفاه (19 يوليو 1983م) بنفس نمط القيادة من الخلف، ولم يُسمح للحزب بخوض انتخابات (1983م)، ثم فاز في انتخابات (مارس 1984م) بنسبة 4.4%، ثم عاد إلى قيادة الحزب علنا بعد رفع الحظر السياسي (1987م)، وحصل على 7.2% في انتخابات (نوفمبر 1987م)، ثم 9,8% في انتخابات البلدية (مارس 1989م)، ثم 16.9% في انتخابات (أكتوبر 1991م)، ثم 19% في انتخابات البلدية (1994م) منها مقعدي رئيس البلدية لأنقرة واسطنبول[59].
ولما انهار التحالف بين حزبي “الطريق القويم” و”الشعب الجمهوري”، أجريت انتخابات مبكرة (ديسمبر 1995م) فاز فيها الحزب بنسبة 21.38% (158 مقعدا)، وفي ظل عجز الأحزاب الأكبر عن التفاهم صار أربكان نائبا لرئيس الوزراء ثم رئيسا للوزراء على رأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلار[60]، وأرسل هذا الفوز رسالة قوية للعلمانيين، وفي قلبهم العسكر حيث صارت تركيا لأول مرة تحت إدارة إسلامية[61]، وبعد فاصل قصير أطلق هؤلاء حملة سياسية لقلب النتائج، فعاشت تركيا صراعا على الهيمنة السياسية[62].
أراد العسكر جرَّ الدولة كلها لمحاربة “الإرهاب الكردي”، وكانت “الدولة العميقة” تدير هذه الحرب بمستوياتها السرية التي تشيع الاغتيالات والتعذيب وكافة ما هو غير قانوني، وهو ما يُحرج الحكومة التي تعجز عن فعل شيء حيال العسكر مهما ظهرت دلائل جريمتهم[63].
وفي سياق آخر ذهب أربكان في طريق تغيير تركيا، فاتخذ خطوات جريئة من أهمها: تأسيس مجموعة الدول الصناعية الإسلامية الثمانية تمهيدا لإنشاء سوق إسلامية مشتركة، واعتماد سياسة اقتصادية وطنية تغلق تركيا في وجه الاستثمارات الغربية وتمنع الاقتراض من الخارج[64]، وحاول إنهاء السير في طريق الانضمام للاتحاد الأوروبي كما حاول الترويج لاستعمال العملة الذهبية (الدينار الإسلامي)، إلا أن حزب الطريق القويم –شريكه في الائتلاف- أبلغه أن قضيتيْن غير قابلتين للمناقشة في تركيا: عضوية للناتو وصك الدينار[65]. ولم تفلح محاولاته التماهي مع السياسات المستقرة كمواصلته الدعم اللوجيستي للقواعد العسكرية الأمريكية في تركيا أو موقفه من مسألة قبرص أو ما يجري في المسألة الكردية أو إبقاء العلاقات مع إسرائيل أو ابتلاع الحظر المفروض على الحجاب[66].
لم يُجْدِ كل هذا وحدث ما هو متوقع، انقلاب عسكري جديد، لكنه ناعم هذه المرة (في 28 فبراير 1997م) انتهى إلى استقالة أربكان، وهكذا امتدت رئاسته للحكومة رسميا ما بين (28 يونيو 1996 – 30 يونيو 1997م).
أسس أربكان حزب “الفضيلة” برئاسة صديقه محمد رجائي طوقان، واعتمد خطابا أهدأ من خطاب الرفاه[67]، لكن لم يحصل في انتخابات (إبريل 1999م) سوى على 15.4% فصار في المعارضة ثم صدر قرار حله (يونيو 2001م)[68]، فأسس حزب السعادة (22 يوليو 2001م)، وهو آخر أحزابه، وما يزال يطرح نفسه كحزب إسلامي أصيل يُعْلي من شأن الأخلاق والقيم ويعادي التغريب ويرفض الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي[69]، إلا أنه أفل نجمه وصار في عداد الأحزاب الهامشية.
من بين كثير من الإنجازات للحركة الإسلامية بزعامة أربكان، يعد الإنجاز الرئيسي لها هو نقل الكتلة الإسلامية من ساحة المقهور المغلوب الذي يؤيد الأقل سوءا بين الساسة إلى ساحة الفاعل الذي يطرح نفسه كبديل[70]، وهو ما فتح طريقا أمام سائر طاقات المتدينين –والشباب خصوصا- للبحث في مسائل الإسلام والسلطة والدولة، وتجارب الجماعات الإسلامية في العالم، وترجمة أدبياتهم، مما جعل فترة السبعينات فترة ازدهارٍ فكريٍّ إسلاميٍّ[71]، وتأسيسٍ لحالة إسلامية تعيد اكتشاف ذاتها وتسعى لإعادة المجد القديم وتنظر للحقبة العلمانية في تاريخ تركيا على أنها حقبة انحدار وانهيار لا حقبة بعث جديد، وأن هذا الوضع يحتاج إلى تصحيح[72].
حفلت حياة نجم الدين بأنواع المعاناة، وأولها معاناته من داخل الوسط الإسلامي، أول الأمر، إذ طُرِحَتْ ذات الإشكاليات المتعلقة بشرعية تأسيس حزب والدخول في ظل نظام غير إسلامي وانتهاج وسيلة الديمقراطية سبيلا[73]، كما انقسمت قاعدة حزبه من النقشبنديين والنورسيين بعد تحالفه مع اليسار واليمين فاعتبروا التحالف مع الكماليين خيانة لمبادئ الإسلام[74]، مرورا بما تعرض له في مسيرته الطويلة من حصار وتضييق وإغلاق أحزابه ومحكاماته التي قضت عليه بالسجن أو بالإقامة الجبرية، وفي آخر حياته التي قضاها بين سجن وإقامة جبرية لم يستطع تلاميذه وإن كانوا في موقع السلطة أن يرفعوا عنه شيئا، إلا عفوا صحيا (2008م) وما كاد يتحرر من الحظر والسجن حتى عاد بجلد عجيب وصبر دؤوب لرئاسة حزبه “السعادة” مرة أخرى (2010م) وهو في الرابعة والثمانين من عمره، لكنه لم يقض سوى ستة أشهر حتى وافاه الأجل.
ثامناً: العثمانيون الجدد
ولد رجب طيب أردوغان (26 فبراير 1954م) في أسرة فقيرة متدينة تسكن حي قاسم باشا وهو من أفقر أحياء اسطنبول، وأتم دراسة الثانوية في مدارس الأئمة والخطباء، وكان حي قاسم باشا من الأحياء التقليدية التي تسود فيها قيم وتقاليد المجتمعات الشرقية القديمة كقوة العلائق بين الناس وشيوع الحمية والمروءة والحسبة الاجتماعية، وعمل منذ صغره في بيع الخبز (السميط) والماء للمساعدة في توفير المال وشراء الكتب، ثم تخرج (1981م) في معهد علوم الاقتصاد والتجارة (كلية الاقتصاد والتجارة بجامعة مرمرة فيما بعد)، وعمل موظفا في البلدية[75]، وتشير بعض المصادر إلى انضمامه لطريقة إسماعيل أغا النقشبندية الصوفية إلا أن بعض المقربين منه ينفون هذا وربما يكون النفي لكون الطرق الصوفية ممنوعة قانونا[76].
إن نشأة أردوغان وبيئته تدل على أنه نقيض للنظام التركي السائد، فهو ابن الطبقة التي طحنتها توجهات السياسة التركية العلمانية المدينية النخبوية، كما تفتحت مواهبة القيادية عبر مراحل حياته، وكان كثير القراءة محبا للشِّعر، لا سيما محمد عاكف أرصوي صاحب المجهود الدعوي المشهور والملقب بـ “شاعر الإسلام” في تركيا، ونجيب فاضل قيصاكورك الملقب بعميد الأدب الإسلامي في تركيا.
بدأ نشاط أردوغان العام منذ الخامسة عشرة من عمره، حين كان عضوا باتحاد الطلبة الأتراك بمدارس الأئمة والخطباء، وحين تفتح وعيه السياسي كان نجم الدين أربكان بطل الساحة الإسلامية التركية، فالتحق بحزب السلامة، ولم تمض أربع سنوات حتى كان أردوغان رئيس جناح الشباب لحزب السلامة في اسطنبول (1976م) بفوزه في الانتخابات الداخلية لشُعَب حزب الشباب، وهو فوز انتزعه وحيدا على غير رغبة قيادة الحزب في اسطنبول، ثم تولى رئاسة شعبة اسطنبول في حزب الرفاه (1985)، وترشح لانتخابات البرلمان (1987) عن منطقة باي أوغلو وزيتن بورنو، ثم لانتخابات المحليات (1989) عن ذات المنطقة متحديا قيادة الحزب أنه إن أُطلقت يده في تجديد الأساليب فسيفوز في هذه المنطقة التي لم تعط الحزب في الانتخابات الأخيرة سوى 3%، ثم أسفرت النتائج عن خسارته بفارق بسيط عزاه بعض أنصاره إلى تلاعب في الأرقام، إلا أن هذه النتيجة أثبتت عمليا نجاعة أفكاره وأساليبه وعزز من مكانته داخل الحزب، بل تذكر بعض التقديرات[77] أن استعمال أردوغان للطاقة النسائية في الانتخابات جلب للرفاه مليون امرأة على مدى ستة أعوام. وصار عضوا في الهيئة العليا لحزب الرفاه (أكتوبر 1993م)[78].
وفي (1994م) كان أردوغان رئيس شعبة حزب الرفاه في اسطنبول وأقوى شخصية في الحزب بعد أربكان، ولما حان موعد انتخابات بلدية اسطنبول الكبرى أيَّد ترشحه لها من داخل الحزب 3308 عضوا من بين 3993 كذلك أيده 70% من جمهور حزب الرفاة[79]، ولما فاز بمنصب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى كان فوزه أقوى انتصار للحزب على مستوى البلديات، وحقق في منصبه هذا أقوى نجاحات اقتصادية وإدارية شهدتها تركيا في تاريخها الحديث وتغير بها وجه اسطنبول[80]، وبرغم كل محاولات العرقلة من الحكومة أو من وسائل الإعلام العلمانية إلا أن نجاحه استمر حتى جاء الانقلاب العسكري (1997م) فكان من تداعياته محاكمة أردوغان بتهمة إلقاء أبيات شعر دينية تحريضية في ديار بكر (12 ديسمبر 1997م) وإغلاق حزب الرفاه، ثم عزل أردوغان بقرار محكمة من رئاسة بلدية اسطنبول (5 نوفمبر 1998م)، ثم مُنِع من العمل بالسياسة، ليُسدل الستار على تجربة دامت أربع سنوات وشهورا[81].
سُجِن أردوغان ثلاث مرات؛ الأولى بُعيْد انقلاب 1980 لمدة أيام لتهمة التظاهر في ظل الأحكام العرفية، والثانية حين دخل في اشتباك لفظي مع رئيس المجلس الانتخابي لمحليات باي أوغلو إذ اتهمه أردوغان بالسُّكْر الذي أدى إلى التلاعب في النتائج فاتهمه بالتعدي عليه فحوكم وسُجِن لمدة أسبوع (1989)، والثالثة بعد واقعة أبيات الشعر الشهيرة التي ألقاها ضمن خطاب شعبي في ديار بكر -(12 ديسمبر 1997م) قبيل أيام من إغلاق حزب الرفاه- والتي اعتبرها خصومه دينية تحريضية، فحكم عليه بالسجن لعشرة أشهر وغرامة مالية، ثم خفف فسُجِن لأربعة أشهر، وكان وداع الناس له يوم سجنه دليل واضح على أن تركيا صار لها زعيم شعبي جديد[82].
بدأت بعد السجن مرحلة جديدة في حياة أردوغان، ففي ذلك الوقت تفاقمت الخلافات بين الرجليْن القوييْن: الزعيم أربكان، والسياسي الصاعد أردوغان، وانقسم بينهما أعضاء الحزب، ولم تفلح محاولات الاحتواء مع اتساع هوة الخلاف الذي لم يعد إداريا أو خلافا على الزعامة، بل صار خلافا فكريا يوصف فيه أربكان بالمحافظة أو التشدد ويوصف فيه أردوغان بالانفتاح أو التنازل. وبدأ بين الرجلين صراع القيادة من الخلف، فكلاهما محظور من ممارسة السياسة، وقد سعى أربكان لإنشاء حزب “الفضيلة” بزعامة صديقه رجائي قوطان، بينما رفض أردوغان وفريقه هذا الاختيار ودفعوا بعبد الله غل لينافسه على رئاسة الحزب، وكان فوز أحد الفريقين يعني انفصال الآخر عنه وتأسيس حزب جديد، وكانت هذه المنافسة العلنية “سابقة في تاريخ الأحزاب الإسلامية التركية”[83]، ولما جرت الانتخابات، خسر التجديديون بفارق خمسين صوتا (570 مقابل 620)، وشككوا في هذه النتيجة التي بُنيَت على تشويههم وعرقلتهم، وساروا في المسار المتوقع: تأسيس حزب جديد لهم[84].
وبلغ عدد الموقعين على عريضة تأسيس الحزب 71 عضوا، ثم انضم إليهم في اليوم نفسه 53 نائبا بالبرلمان ليصير عددهم 124 عضوا[85]، لكن أبرز المؤسسين هم: رفيق دربه ووزير الدولة للشؤون الخارجية في فترة أربكان: عبد الله غل، والمحامي والبرلماني: بولنت أرينتش، ورجل الأعمال الشاب الصاعد في مجال الاقتصاد والإدارة: علي باباجان. وفي الخلفية شخصية أكاديمية لم تكن ضمن المؤسسين لكنها كانت بمثابة العقل الفلسفي السياسي للحزب وهو أحمد داود أوغلو[86].
تاسعاً: على رأس السلطة
تدهورت الأمور في تركيا بشدة، ففي صيف 1999 خطب مسعود يلماز –نائب رئيس الوزراء ورئيس حزب الوطن الأم- في حزبه بمناسبة تشكيل الحكومة الائتلافية فذكر بأن “تركيا تعيش الآن مشكلة نظام بكل ما تحمله الكلمة من معنى… فالمشكلة ليست في هذا العنصر من النظام أو ذاك، إنما هي النظام نفسه”، وبلغت الأزمة بين أطراف النظام حدَّ أن ألقى أحمد نجدت سيزار –رئيس الجمهورية- الدستور فوق رؤوس أعضاء مجلس الأمن القومي (19 فبراير 2001)[87]، ثم دخلت تركيا في “أكبر أزمة اقتصادية ومالية في تاريخ البلاد”[88]، إذ وصل حجم التضخم إلى 50% انهارت على إثره الكثير من الأعمال، وسُحِبت الكثير من الأموال المودعة في البنوك حتى سُحب مبلغ 7.5 مليار دولار في يوم واحد، ثم لم تجد الحكومة حلا إلا أن ترفع الضرائب على الناس، وتزامن هذا مع إطلاق 60 ألف مسجون في جرائم سرقة ونصب واغتصاب بقانون “إخلاء السبيل المشروط” فارتفعت نسبة الجريمة وزادت حالة الانفلات الأمني في البلاد. وفشلت الحكومة الائتلافية التي شكلها الحزب القومي. ثم زاد الأمر سوءا بأزمة صحية حلت برئيس الحكومة بولنت أجاويد فتوقفت أعمال الحكومة، ولم يعد من مفرٍّ إلا الذهاب لانتخابات مبكرة حُدِّد موعدها (3 نوفمبر 2002م)[89].وفي مفاجأة لجميع الأطراف حصد حزب العدالة والتنمية “نحو 70% من المقاعد، بينما عند تأسيسه لم يكن الحزب أكثر من 7% من الشارع التركي. ولكن فوز الحزب في ذلك الوقت ارتبط بالثقة في رئيس الحزب رجب طيب أردوغان”[90]، و”في ضربة واحدة فقد 90% من أعضاء البرلمان مواقعهم، كما فشلت كل أحزاب البرلمان السابق (الطريق القويم، الحركة القومية، الوطن الأم، اليسار الديمقراطي، الشعب الديمقراطي الموالي للأكراد) في تخطي عتبة الـ 10% اللازمة للتمثيل”[91]، ولم ينجح سوى حزب الشعب الجمهوري بقيادة دينيس بايكال في الحصول على ثلث مقاعد البرلمان بنسبة 20% تقريبا من الأصوات. وكان الفوز الكبير من نصيب المولود الجديد: حزب العدالة والتنمية الذي حظي ببقية مقاعد البرلمان بنسبة 35% (من الأصوات)، وهنا تبدو مفارقة التاريخ، فالعتبة التي وضعها العسكر لمنع الأحزاب الإسلامية من دخول البرلمان قد أثمرت سيطرة الإسلاميين الجدد على البرلمان والاستحواذ على حوالي ثلثي المقاعد.
يبدو أن هذا النجاح الكبير وغير المتوقع يدعم لمرة أخرى مقولة فيكتور هوجو “ليس شيء أقوى من فكرة حان وقتها”!
سعى الحزب منذ اللحظة الأولى لرفع الحظر السياسي عن أردوغان[92]، واستطاع باتفاق مع حزب الشعب الجمهوري تعديل الدستور بوضع عبارة “الأفعال الإرهابية” بدلا من “الأفعال الأيديولوجية والتحريضية” من المادة 76، ليرفع الحظر عن أردوغان الذي كانت قضيته قضية “تحريض”، ثم إن اللجنة العليا ألغت انتخابات محافظة سيرت لما شابها من مخالفات قانونية، فكانت إعادة الانتخابات فرصة لأن يترشح فيها أردوغان، فيفوز ويصير عضوا بالبرلمان، ومن ثَمَّ يتنازل له عبد الله غل عن موقع رئيس الوزراء فتتشكل حكومة جديدة برئاسته ويأخذ فيها عبد الله غل منصب وزير الخارجية[93]، ويبدأ في تركيا من هذا اليوم (14 مارس 2003م) عصر جديد.
وتكشف القراءة العامة لسياسة الحزب في الفترة المبكرة من تأسيسه وتصدره أنه عمل على تحويل كل تهديد إلى فرصة؛ فمن ذلك:
أنه استثمر حالة ما بعد 11 سبتمبر ليقدَّم نفسه بوصفه الإسلام المعتدل الذي ينافي التطرف والإرهاب والذي يمكن التلاقي معه بشأن قيم الديمقراطية والحريات وعلمانية الدولة والليبرالية الاقتصادية ومن ثمَّ يجب دعمه وإسناده للتقليل من حالة التطرف ولإثبات أن الغرب لا يعادي الإسلام كدين أو المسلمين كأمة[94].
أنه استثمر الرغبة القديمة للسياسة التركية في الانضمام للاتحاد الأوروبي للقيام بإصلاحات هيكلية في مجال الحقوق والحريات التي تتيح فرصة أوسع لرفع المظالم عن الأكراد والأقليات من ناحية[95]، ومن ناحية أخرى تدعم تقليم أظافر “الدولة العميقة” وفي القلب منها: العسكر التركي[96]، ونقد روايتهم ورؤيتهم للهوية والتاريخ التركي.
أنه استثمر الرفض الغربي في الانضمام للاتحاد الأوروبي في فتح آفاق نفوذ وتأثير واسعة مع دول الشرق الآسيوي والشرق الأوسط، مما يساهم في الابتعاد التدريجي التركي عن “الهوية الغربية”[97]، كما يساهم في إنشاء خرائط سياسية جديدة تنكمش فيها القوة الأوروبية والأمريكية[98].
المحو ر الثاني: أزمة الجغرافيا في تركيا
أولاً: الجغرافيا الطبيعية:
موقع تركيا الجغرافي من حيث المضايق والسواحل والجبال والخلجان والجزر يرسم بنفسه طرق التقاء وانتقال ووسائل تحكم وحماية في سائر المنطقة المحيطة، ثم جاءت الاتفاقيات السياسية في سيفر ثم لوزان فرسمت خطوطا حدودية تفصل المساحات البرية واتفاقيات تحكم عمل المضايق البحرية، فصُنِعت كثير من النقاط المتوترة برا وبحرا والتي يُتوقع أن تتحول إلى نقاط ساخنة في أي وقت.تبلغ مساحة تركيا 783.5 كم2، 98% منها يابسة، ويبلغ طول سواحلها 7200 كم، بينما تمتد حدودها البرية بطول 2648 كم، منها 252 كم مع جورجيا، 268 كم مع أرمينيا، 9 كم مع أذربيجان، 499 كم مع إيران، 352 كم مع العراق، 822 كم مع سوريا، 206 كم مع اليونان، 240 كم مع بلغاريا.
ثانياً: إشكالية الموقع المتميز
تعرف تركيا جغرافياً بأنها “مركز العالم”، فموقعها هو النقطة الأقرب التي تلتقي عندها القارات الثلاث التي تمثل العالم القديم جميعا إلى ما قبل اكتشاف الأمريكتين. فمن حيث الجغرافيا، تقع تركيا عند التقاء البحار الثلاثة الأهم في العالم: البحر المتوسط وبحر إيجه والبحر الأسود، وعاصمتها تسيطر على المضيق الوحيد للبحر الأسود الذي ينفذ به إلى المياه الدافئة. ولطالما كان البحر المتوسط ساحة الصراع الحضاري الأهم في العالم، كذلك فإن الذي يسيطر على بحر إيجه الحافل بالجزر والأرخبيلات يتحكم في الطريق بين الشمال والجنوب.
ثم إن خرائط السياسة والاقتصاد أضافت إلى تركيا أهمية مضاعفة، فتركيا في التاريخ الحديث والمعاصر تمثل نقطة التقاء المشاريع الحضارية المتصارعة، كما أنها تمثل المعبر الرئيسي لخطوط وإمدادات الطاقة والمواد الخام التي تُتَبادل بين الشرق والغرب. ولا يمكن لدولة في هذا المكان إلا أن تكون إمبراطورية، فتزداد بموقعها قوة إلى قوتها، أو أن تكون مسرحا لمطامع ومعارك الأقوياء من حولها.
1. عند التقاء البحار الثلاثة
باختصار وتركيز يصف “روبرت كابلان” موقع تركيا الجغرافي بقوله: “لكونها تتشارك حدودها مع اليونان في الغرب، وإيران في الشرق، وبلغاريا في الشمال الغربي، والعراق في الجنوب الشرقي، وأذربيجان في الشمال الشرقي، وسورية في الجنوب، إضافة إلى أن أكثر من نصف الأناضول يقع على سواحل البحر الأسود أو البحر المتوسط، فإن تركيا تقع حقا على مسافة واحدة من أوروبا وروسيا والشرق الأوسط”[99].وأما موقع تركيا الجيوسياسي فيصفه أحمد داود أوغلو بهذه العبارة: “تقع تركيا في موقع مركزي من مناطق العبور، ولساحات صراع النفوذ للقوى البرية والبحرية بين خطي شرق – غرب، وشمال – جنوب. وتتقاطع في تركيا النقاط التي تربط الكتلة البرية الأوروآسيوية المركزية مع البحار الساخنة وإفريقيا على خط شمال – جنوب من خلال منطقتي عبور بريتين هامتين هما: البلقان والقوقاز، ونقاط عبور بحرية تتمثل في المضايق. بالإضافة إلى المناطق التي تربط أوراسيا مع منطقتي الشرق الأوسط وقزوين اللتين تعتبران مركزا للمصادر الجيواقتصادية.
أما في اتجاه شرق – غرب، فتعتبر شبه جزيرة الأناضول هي أهم حلقة في سلسلة حزام شبه الجزر الاستراتيجي الذي يطوِّق القارة الأورآسيوية”[100]. ويضيف، في معرض حديثه عن الدول التي تمثل ثقلا إقليميا، أن السمة الأهم التي تميز تركيا عن ألمانيا، روسيا، مصر، إيران “تتمثل في كونها الدولة الأقرب إلى القارات الثلاث التي تشكل القارة الأم أفروأوراسيا. فتركيا حاضرة بأراضيها في قارتي آسيا وأوروبا، وذات ساحة جوار مع إفريقيا عبر البحر المتوسط. وبتعبير موجز فإن تركيا دولة أوراسية وجار مباشر لإفريقيا، ولا يوجد في قارة أوراسيا دولة أخرى بخلاف تركيا تتمتع بهذه الوضعية المركزية المتميزة”[101].
وبالإضافة إلى الموقع التركي المتميز، فإن موقع عاصمتها أشد تميزا، فاسطنبول “مرفأ آمن يتيح الوصول إلى منطقة البلقان والبحر المتوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى كونها محطة لطرق القوافل الآتية من بلاد فارس والقوقاز وما وراءها”[102]، وهي بهذا الوضع “مدينة شرق أوسطية، ومدينة أوروبية شرقية، ومدينة للبحر الأسود، ومدينة للبحر المتوسط”[103]، ولقد “كانت القسطنطينية بطبيعتها مطمعا للجميع، كأن الجغرافيا والتاريخ قد أعداها لتكون عاصمة لإمبراطورية عظيمة.
فالمدينة الواقعة على طرف شبه جزيرة مثلثة، تحيطها المياه من ثلاث جهات. فإلى الشمال منها يمتد مرفأ بعرض كيلومتر واحد وطول ستة كيلومترات يسمى القرن الذهبي… وإلى الشرق منها يوجد البسفور، ذلك الممر المائي الضيق الذي يفصل أوروبا عن آسيا، وإلى الجنوب منها يوجد بحر مرمرة، ذلك البحر الداخلي الصغير الذي يربط بين بجر إيجة والبحر الأسود. لذلك كانت المدينة حصنا طبيعيا وميناء عميقا منقطع النظير، تمتع بالوصول السهل بحرا إلى إفريقيا والبحر المتوسط والبحر الأسود، كما أنها كانت تقع أيضا على تقاطع الطرق البرية الرئيسة بين أوروبا وآسيا، وحوضي الدانوب والفرات. كأن موقعها خُلق لكي يكون مصب الثروة من أربعة أركان الكرة الأرضية”[104]، بل لم تتعرض مدينة لعدد الهجمات ونوبات الحصار التي تعرضت لها القسطنطينية: من القوط والهون والسلاف والأفار والفرس والعرب والبلغار والروس والبجناك وحملة صليبية نظمتها البندقية[105].
2ـ تركيا ومضيق البوسفور
نظرة عابرة إلى الخريطة تكشف أن البحر الأسود ذي المساحة الكبيرة مخنوق تماما بمضيقين صغيرين مفتاحهما في تركيا هما البسفور والدردنيل، وهكذا ألقت الأقدار في يد تركيا قدرة على التحكم في بحر واسع، وبقدر ما كانت هذه الهدية الجغرافية ثمينة ولا تقدر بثمن في لحظات القوة بقدر ما كانت أزمة كبرى وموقفاً عصيبا في لحظات الضعف. إن البحر الأسود ليس له منفذ سوى مضيق البسفور، وهو ما يعني أن كافة الدول المطلة على ساحلة مضطرة تماماً وبلا بديل آخر إلى تأمين الملاحة في البسفور لنشاطها الاقتصادي.
عندما كانت الدولة العثمانية قوية كان تحكمها في البسفور يعطيها قوة نفوذ عسكري وسياسي هائلة، وحينئذ كانت ضفاف البحر الأسود – إلا قليلاً – تابعة للدولة العثمانية إما مباشرة أو بالولاء الإسلامي.
لكن الموقف تغير تماما ضمن عوامل تاريخية متعددة:
(أ) لقد ظهر في مسرح السياسة الاتحاد الروسي الذي بدأ من موسكو، والذي ظل يتقدم ويقوى في زمن ضعف وتراجع الدولة العثمانية حتى صار مسيطراً على سائر الساحل الشمالي من البحر الأسود، وصار تحكم تركيا في البسفور إمساكا بخناق العملاق الضخم وتحكما في نشاطه البحري الاقتصادي والعسكري معا.
(ب) ظهر في ذات الحقبة تفاعلات الثورة الصناعية التي استلزمت جمع الكميات الهائلة من الموارد وطرحت إلى السوق كميات هائلة من البضائع التي تحتاج تسويقاً وتوزيعاً، ونشط وتضاعف حجم التجارة العالمية، فعندئذ صار استغلال موانئ البحر الأسود ليس مصلحة روسية فحسب بل هي مصلحة عالمية تتداخل فيها العديد من الدول التي تحتاج إلى الموارد الروسية والسوق الروسية كذلك.
(ج) بالرغم من اعتماد بطرس الأكبر للتغريب وفرضه بكل شراسة على الشعب الروسي إلا أن العلاقات الروسية الغربية لم تكن في أحسن أحوالها سوى حلفاً اضطرارياً، فقد بُنِيَت سياسات الطرفين على العداء للآخر، وهذا ما ساهم كثيرا في إطالة عمر الدولة العثمانية حيث لم يتفق أعداؤها على وراثة تركتها فبقي الحال على كونها “الرجل المريض” الذي يحافظ الجميع على مرضه لانتزاع ما أمكن من تركته كما يحافظ الجميع على بقائه لأن موته قد يُشعل حروبا هائلة.
هذه التفاعلات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تجري بين الأطراف الثلاثة: العثمانيون والروس والغربيون إنما كانت تتركز على هذا المضيق الذي تحول من نقطة قوة ونفوذ إلى نقطة ضعف كبيرة، وكان بند سلامة الملاحة في البسفور على الدوام حاضراً في مختلف أنواع الاتفاقيات: الاقتصادية واتفاقيات التحالف واتفاقيات الهزيمة وإنهاء الحروب أيضا.
ولما وقعت الحرب العالمية الأولى وانهارت الدولة العثمانية، شحذ الأعداء سكاكينهم للتمزيق، فقد “اتفق الوفد الأمريكي إلى مؤتمر السلام في باريس مع لويد جورج (رئيس الوزراء البريطاني) على أن القسطنطينية والمضايق التي تقع عليها أبلت العالم بالكثير من المتاعب، وكبَّدت البشرية خلال السنوات الخمسمائة الأخيرة دماء ومعاناة أكثر من أي بقعة أخرى على وجه الأرض (!!!)”[106]، ثم نشأت فيما بعد الجمهورية التركية سُوِّي وضع مضيق البسفور في اتفاقية لوزان (1923) ثم منترو (1936) التي لا تزال سارية رغم انتهاء مدتها.
ثالثاً: تركيا وحافة المشاريع الإمبراطورية
كانت تركيا، منذ زمن ضعف الدولة العثمانية وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي، حاجزا بين المشروعيْن الغربي والروسي، ومنذ حوالي القرن من الزمان كتب الشيخ رشيد رضا الفقيه والسياسي المعاصر لتلك الفترة يقول: “ولقد اشتهر لدى الخاص والعام أن الدولة البريطانية كانت ظهيرة للخلافة العثمانية التركية، وما ذلك إلا لعلمها أنه صورية وأنها هي التي تنتفع بإظهار صداقتها لها، وكان رجال هذه الدولة الداهية أعلم الناس بأن هذه الدولة قد دَبَّ في جسمها الانحلال، وأنها سائرة في طريق الفناء والزوال، وإنما كانوا يحاولون أن تبقى حصنًا بين القيصرية الروسية المخيفة بسرعة تكونها ونموها، وبين البحر الأبيض المتوسط على شرط أن تكون قوة هذا الحصن بما وراءه من المساعدة البريطانية لا بنفسه، وقد بيَّنا هذا في المنار من قبل، وأن الغازي أحمد مختار باشا افقنا على أن قاعدة الدولة البريطانية في السياسة العثمانية: أن لا تموت الدولة ولا تحيا”[107].وكان الموقع الجيوسياسي الحرج للقسطنطينية (اسطنبول) من بين أهم الدوافع للتفكير البريطاني في “صناعة مشروع خلافة” في الجزيرة العربية لنقل الخليفة والخلافة ونفوذها على المسلمين من اسطنبول التي يصعب السيطرة عليها والتي يشتهيها الجميع إلى الحجاز الواقع عمليا تحت سيطرتها، وبينما تجتهد بريطانيا في إيجاد طريقة لئلا تقع اسطنبول في يد الروس أو الألمان عند نهاية الحرب اقترح كيتشنر أن تدعم بريطانيا الرأي القائل بأن الخليفة يجب أن يكون من الجزيرة العربية مهد النبي محمد –صلى الله عليه وسلم- إذ موقعها البعيد عن ساحة الصراع الإمبراطوري مع السيطرة البريطانية على سواحلها سيُمَكِّن بريطانيا من التحكم بالإسلام وعزل الخليفة عن منافسيها الأوروبيين[108].
كذلك فإن إنشاء إسرائيل نفسها إنما هو تعبير عن ولادة كيان وظيفي في نقطة من نقاط الاحتكاك الحضاري، فعند منتصف القرن التاسع عشر فكرت أوروبا –وعلى رأسها بريطانيا- في حل “توطين اليهود في فلسطين” الذي يخلصها من مشاكلها الثلاثة الكبرى دفعة واحدة: المشكلة اليهودية الداخلية، والدولة العثمانية “المسألة الشرقية” بتقسيمها وزرع كيان معاد في قلبها، وقطع الطريق على التمدد الروسي في الشرق. وخرجت فكرة “إسرائيل” في ذلك الوقت من ساحات الأدباء والمتدينين والدراويش اليهود لتكون موضوعة على جدول أعمال السياسة والصحافة[109].
وحين هُزِمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ثم تأسست الجمهورية العلمانية متخلية عن ميراثها الإمبراطوري لم يكن هذا ليمثل حلًّا في حقيقة الأمر، فمهما كانت قدرة المستبد ووحشيته فإنه أعجز من أن يحذف التاريخ والجغرافيا، فصارت تركيا من نقاط المعاناة التي يفرضها الخلاف بين مفهوم “القومية” المعاصر ومفهوم “النفوذ” التاريخي.
ويشرح ذلك أحمد داود أوغلو، فيذكر أن العالم المعاصر يتشكل بناء على مفهوم “القومية” وهو الذي يظهر في هذه الحدود القانونية التي رُسِمت بين الدول والتي ينتهي عندها حكم السلطة، إلا أن الواقع الطبيعي يكشف عن أن كثيرا من هذه الحدود لا تعبر بصدق عن مفهوم القومية كما تشكلت عبر التاريخ والثقافة واللغة والاقتصاد، وهكذا فإن “عناصر الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا الاقتصادية، التي تتكامل مع بعضها لتشكيل الحزام الجيوسياسي، والتي تختلف بدورها عن مفهوم الحدود الفاصلة بين الدول، أنشأت معها على طول هذا الحزام الجيوسياسي احتمالات لصراعات سيادة يمكن أن تظهر في أي وقت.
وقد تسبب عدم الانسجام بين الحزام الجيوسياسي والحدود القانونية في حصول أغلب الصراعات الحدودية بين الدول القومية التي ظهرت بعد تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية. وتلعب الخطوط الجيوسياسية الأمامية، المدعمة بالعناصر الثقافية والتاريخية المتراكمة لأي مجتمع، دورا مهما في تشكيل وضع هذا المجتمع في الساحة الدولية. على سبيل المثال، إن الاختلاف بين الخطوط الأمامية الجيوسياسية المعبرة عن الذهنبية الاستراتيجية الألمانية، المرتبطة بالهوية الألمانية وتاريخ الإمبراطورية الرومانية – الجرمانية المقدسة، وبين واقع الحدود الألمانية القانونية الفعلية، قد تسبب في حدوث حربين عالميتين في الماضي”[110].
ومن هذا المنظور ربما تكون تركيا نقطة من أعقد النقاط الجغرافية على مستوى العالم، فهي وريثة الإمبراطورية العثمانية الواسعة التي تحمل تاريخا طويلا وقويا من العلاقات والصلات الثقافية مع الشعوب الإسلامية، ولكن لحظة ضعفها، خلال مرحلة الحرب الباردة، جعلتها تقع هي ذاتها عند حافة التنافس بين مشروعين إمبراطوريين جديدين هما: المعسكر الغربي الذي يتمدد ويعيش واحدة من أزهى لحظات قوته بعد انتصاره في الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية، والمعسكر الشرقي الذي يحقق تمددا واسعا في الجزء الشرقي من العالم ويحمل لواء الشيوعية من الصين حتى منتصف أوروبا ويتمدد جنوبا في وسط آسيا وفي إفريقيا.
وهكذا تقع تركيا في نقطة تمثل بالنسبة للجميع اختلافا بين الحدود القومية القانونية وبين مساحات النفوذ والتمدد. ومما زاد المشكلة تعقيدا أن تركيا كانت ضمن المعسكر الغربي بينما هي بحكم الجغرافيا واقعة في قلب محيط من نفوذ المعسكر الشرقي، فهي محاطة من سائر جهاتها بدول تابعة –بدرجات متفاوتة- للاتحاد السوفيتي!
إن وجود تركيا عند حافة المشاريع الإمبراطورية يتسبب بطبيعة الحال في تهديدات أمنية عسكرية لكونها –لا سيما في حال ضعفها الذي عانت منه منذ تأسيس الجمهورية وما قبلها- مسرحا تدور عليه معارك المشاريع المتنافسة بداية من أعمال المخابرات وانتهاء بالقواعد العسكرية، وهو ما يطرح بدوره تهديدات أخرى فكرية واجتماعية إذ تنشأ في هذا المسرح معارك أخرى في مجال الفكر والسياسة والتوجه، وتستقطب المشاريع الكبرى ما أمكنها من شرائح مجتمعية أو قطاعات نخبوية ووسائل إعلام وغيرها. ولذلك كثرت مصادر التهديد من وجهة نظر السياسي التركي، بداية من التهديدات العسكرية والأمنية من جهة الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه على الحدود، ومرورا بتيارات اليسار التي تنتشر في الجامعات والشرائح الاجتماعية فضلا عن النخب الثقافية، وانتهاء بالمشكلة الكردية التي تداخل فيها المدّ اليساري مع الهوية القومية والنزعة الانفصالية.
رابعاً: المحيط المعادي لتركيا
مجرد النظر إلى خريطة اتفاقية سيفر التي تقسمت فيها الأناضول بين “الجيران” يشير إلى حقيقة وضع المحيط الجغرافي المعادي لتركيا. ومما زاد من وضوح هذه الحقيقة لدى العقل الجمعي للأتراك هو أن الجمهورية الحديثة بُنِيَت أساسا على شرعية أنها استردت هذه الأراضي من “الجيران الأعداء”، أي أن كل لحظة فخر عاشت عليه الجمهورية كانت في وجهها الآخر لحظة ترسيخ لعداوة الجيران وتذكيرا بأطماعهم “المهزومة” على يد مؤسسي الجمهورية!لقد كان هذا المحيط المجاور لتركيا من أهم أسباب هزيمة الدولة العثمانية، كان بيئة خصبة للتدخل الأجنبي بما له معها من صلات دينية أو عرقية أو حتى صلة الرغبة المشتركة في إضعاف الدولة العثمانية، ولذلك كانت دول الغرب –بما فيها روسيا- حاضرة دائما في التمردات العرقية والقومية والدينية التي تنشب في الشرق أو الغرب، وحين وقعت الهزيمة بالدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى قامت اتفاقية سيفر على قاعدة من هذه الأوضاع لتزيد في تقسيم الدولة العثمانية فلا يُترك لبقيتها إلا جزءا محصورا في وسط الأناضول. إلا أن الترتيبات التالية أفضت إلى توسيع هذه الرقعة حتى حدود تركيا الحديثة، لكنها لم تُفْضِ إلى تغير في شأن العداوات القائمة المحيطة بالجغرافيا التركية.
وقد وجد حزب العدالة والتنمية نفسه في مطلع الألفية الثالثة أنه ورث عددا من العداوات التاريخية، منها عداوات موروثة منذ زمن الدولة العثمانية، كما في حالة روسيا وأرمينيا وجورجيا وبلغاريا واليونان وإيران، ومنها عداوات مورثة من زمن الجمهورية الأتاتوركية كما في حالتي العراق وسوريا مع استمرار العداء مع روسيا وإيران وإن غابت الدولة العثمانية لأسباب أخرى.
لقد ثار سؤال العداوة منذ ما قبل غروب الدولة العثمانية: لماذا لم تستطع الدولة العثمانية أن ترسخ وجودها في المناطق التي فتحتها في شرق أوروبا؟ والجواب في هذا يطول، ونحن نميل فيه إلى من قالوا بأن السبب الرئيس في ذلك كان تخلِّي الدولة العثمانية عن اللسان العربي وبقائها على اللسان التركي مما كانت له آثار بعيدة على رسوخ الإسلام والحضارة في تلك المناطق التي فتحها الأتراك، فامتنع على القوة التركية أن تستفيد بالمدد والمخزون البشري والحضاري الهائل الذي كان سيتوفر لها إن تعربت[111].
وقد ترتب على هذا أن بقيت الأرض التركية في موقع “الطرف” لا “القلب” حضاريا، ليست كدمشق أو بغداد أو القاهرة مثلا، حيث كل مدينة من تلك العواصم الحضارية كان بينها وبين أعدائها مسافات بعيدة من الأرض الإسلامية ذات الحضور البشري الإسلامي الكثيف، بخلاف القسطنطينية التي اضطرت وحدها أن تحمل عبء الجهاد بصورة مركزية عن الثغور الإسلامية، وهو أمر يستحيل أن يستمر قرونا طويلة بنفس الكفاءة، فكان لا بد من الانهيار في النهاية، إلا أنه انهيار يجعل عاصمة الخلافة نفسها في قبضة الأعداء التاريخيين، فمدن الثغور لا تصلح أن تكون عواصم، وهذا ما دفع بعض رجال الإصلاح إلى القول بأن الخطأ العثماني كان في اتخاذ عاصمة قريبة من أرض العدو وهي بمثابة المستعمرة القابلة للاسترداد[112].
وهكذا كان مفهوما لماذا تشكل حول الدولة العثمانية محيطٌ معادٍ، سَهُل أن يكون في لحظات ضعفها وانهيارها من أسباب حصارها وتراجعها وتمكين عدوها. إلا أن هذا المحيط كان يرجع إلى مركزين أساسين هما: العداء المسيحي الإسلامي الذي تحمله الدول الغربية وروسيا وتثير به الحدود الشمالية والغربية والشمالية الشرقية والجنوبية الغربية والتي تشمل (روسيا، وأرمينيا، جورجيا، بلغاريا، اليونان). والعداء الشيعي السني الذي مثلته الدولة الصفوية في إيران.
1ـ العداء المسيحي الإسلامي
لقد رأت روسيا نفسها وريثة الأرثوذكسية التي تلقت ضربة قاصمة بفتح العثمانيين القسطنطينية (عاصمة الأرثوذكسية العالمية)، وصارت الكنيسة الروسية هي التي تضطلع بهذا الدور، وبدأت روسيا تتحول إلى إمبراطورية منذ بطرس الأكبر الذي حكمها ثلاثا وأربعين سنة انتهت بموته عند نهاية الربع الأول من القرن الثامن عشر، في ذلك الوقت كانت الدولة العثمانية قد غادرت عصر القوة وبدأت عصور الضعف، لذا فسرعان ما أخذت روسيا في التمدد على حساب الوجود الإسلامي في المناطق الممتدة شمال البحر الأسود، وهو الوجود القديم منذ الحملات المغولية واستقرار القبيلة الذهبية التي أسلمت ونشرت الإسلام في تلك الأنحاء، فهو وجود إسلامي من حيث الدين وتركي من حيث العرق الأصلي.ثم صار التمدد الروسي ينزاح على جانبي البحر الأسود من الشمال إلى الجنوب في القوقاز شرقا والبلقان غربا، وكان يندفع إلى تلك الأنحاء حاملا سلاح القومية السلافية والمسيحية الأرثوذكسية. وفي كل هذا التمدد كانت تندلع الحروب برا وبحرا، واضطرت الدولة العثمانية أن تدخل في تحالفات مع القوى الأوروبية التي التقت معها في هدف منع روسيا من التمدد نحو الشرق، للخلاف العرقي مع السلاف والديني مع الأرثوذكسية الروسية[113].
وعلى الجبهة الأخرى، فأوروبا تؤرخ لنهاية العصور الوسطى بتاريخ فتح القسطنطينية، أي أن النهضة الأوروبية بدأت منذ تلك اللحظة، ولقد كان خط المواجهة الرئيسية العالمية في ذلك الوقت هو خط الحروب العثمانية الأوروبية، فمنذ البزوغ الإسباني والبرتغالي في أقصى غرب أوروبا –أوائل عصر النهضة- كان هذا بزوغا للمواجهات مع العثمانية، إذ اندفع الإسبان والبرتغال فطردوا المسلمين من الأندلس ثم هاجموا سواحل المغرب والشمال الإفريقي ثم التفوا حول قارة إفريقيا لتهديد الساحل الجنوبي للجزيرة العربية مع أهداف معلنة بالدخول إلى البحر الأحمر وتهديد الحرمين.
ومع أن الدولة العثمانية في ذلك الوقت كانت في أوج قوتها إلا أنها لم تستطع إنقاذ الأندلس ولا الدفاع عن سواحل المغرب لبعد المسافة، إلا أنها دعمت الجهاد البحري في الأجزاء الغربية من البحر المتوسط، ثم أزالت سلطنة المماليك وتولت حماية الجزيرة العربية وخاض الأسطول العثماني معارك ضارية في خليج عدن والخليج العربي. وتزامنت هذه المعارك مع الصحوة التي شهدتها الجمهوريات والمدن الإيطالية وتمويلها للحروب المتكررة مع العثمانيين في شرق البحر المتوسط وفي شرق أوروبا، ثم انتهت هذه الموجة الغربية وانهارت إسبانيا والبرتغال ليبدأ عصر الثورة الصناعية وتبزغ قوتا بريطانيا وفرنسا، وتبدأ الموجة الثانية من محاولات الاحتلال التي لم يواكبها العثمانيون بالتقدم العلمي والحضاري كما لم تنشأ قوة جديدة في العالم الإسلامي تحمل العبء مع العثمانيين أو تحل مكانهم، فها هنا بدأ عصر الهزائم للدولة العثمانية.
وما إن وصل التاريخ إلى منتصف القرن التاسع عشر حتى صارت الدولة العثمانية هي “الرجل المريض” الذي يتنازع حوله الأقوياء، ويثيرون القلاقل في أنحائه بدعم حركات التمرد القومية والمسيحية في شرق أوروبا عسكريا وماليا وسياسيا، وهو الدعم الذي يصل أحيانا إلى إعلان الحرب العسكرية، حتى حكمت بين أولئك الأقوياء الحربُ العالميةُ الأولى لتخرج الدولة العثمانية منها مُقَطَّعَة الأوصال محتلة الأنحاء، مُجبرة على توقيع اتفاقية سيفر، وهي الاتفاقية التي تعلن انسحاق الإمبراطورية العثمانية العظيمة وموتها، وكل ميراث أتاتورك “البطولي” إنما يتمثل في قدرته على تجاوز سيفر والحصول على ما هو أحسن منها في لوزان.
وطوال هذه القرون كانت الصورة التركية المرسومة في الآداب الأوروبية شديدة السلبية، تداولت على رسمها الصحافة السياسية والروايات الأدبية وكتابات الرحالة والمسرحيات، وفيما بعد محطات الإذاعة والتلفزة وأفلام السينما[114]، وهي “صورة كانت تهدف إلى تذكية حماسة شعوب الغرب لمواجهتها ولتبرير سلوكه الإجرامي ضدها، بل تجاهره في تفتيتها وتمزيقها”[115]. حتى إن بعض الأوروبيين ممن قدِّر لهم البقاء في تركيا استنكر هذه الصورة ونقدها بعنف[116].
2ـ العداء الشيعي السني
العداء مع إيران تبدأ فصوله الكبرى بالحملة العنيفة التي شنها تيمور لنك على أراضي العثمانيين والموقعة الكبرى في أنقرة التي هزم فيها العثمانيين وأَسَر سلطانهم بايزيد “الصاعقة”، ما سبَّب فوضى عارمة في أنحاء الدولة استطاع السلطان محمد الأول أن يسيطر عليها فيعيد ضبط أمورها. وأما خلفاء تيمور ففشلوا في متابعة أمجاد أبيهم فتأسست في إيران الدولة الصفوية على أنقاض التيمورين، وبدأت في التوسع الكبير في عهد الشاب الطموح الشاه إسماعيل حتى هيمن على فارس والعراق وديار بكر وتمدد نفوذه إلى ثورات شيعية في كوتاهية وبورصة، فاندفع العثمانيون لحرب الشاه فوقعت المعركة الشهيرة تشالديران التي انتصر فيها سليم الأول على الشاه وواصل تقدمه حتى استولى على عاصمته تبريز، ثم أعاد ابنه سليمان الاستيلاء على تبريز ومنها استولى على بغداد، ثم حقق مراد الثالث (حفيد سليمان) انتصارات حاسمه اضطر معها الشاه عباس إلى توقيع معاهدة سلام تنازل بها عن أنحاء واسعة للعثمانيين وبألا يجهروا بسب الخلفاء الراشدين الثلاثة.ثم أعاد الصفويون شن الحرب في عهد الشاه عباس فاستعادوا ما كان لهم زمن إسماعيل على مراحل متعاقبة وفشل العثمانيون في تعديل الموقف إلا لما مات عباس واضطربت الأحوال على الصفويين في جهة الشرق فاستعادوا بغداد في آخر مواجهة كبرى زمن السلطان مراد الرابع، ثم حلَّ الضعف بالدولتين وصارت بينهما مدة من السلم لاضطراب الأمور عليهما في الشرق بالنسبة للصفويين وفي الغرب بالنسبة للعثمانيين، فانتهت المواجهات الكبرى لحساب مواجهات أقل عنفاً تبادل فيها الطرفان الاستيلاء على المدن، ويمكن القول بأنها انتهت بالاعتراف الذي أقر به نادر شاه –القائد العسكري الكبير في أواخر الدولة الصفوية، ووراثها، ومؤسس الدولة الأفجارية- بالسلطان العثماني كخليفة، ولكن هذا الاعتراف لم يكن يعني إلا نهاية المواجهات العسكرية بعد قرنين ونصف القرن[117].
لم تكن الحروب العثمانية الصفوية كأي نزاع عسكري، بل إن خطورتها كامنة في أنها لبست دروع المذهبية، فلقد حرص الصفويون منذ إسماعيل على التدرع بالتشيع حتى كان دخولهم إلى بغداد يعني هدم قبر أبي حنيفة، وهو الفقيه الذي تسير الدولة العثمانية على مذهبه، وإنشاء ضرائح على قبور أئمة آل البيت، وقتل علماء السنة، وإظهار شعائر الشيعة. فتمددت آثار الحروب لتكون حاجزا دينيا قائما وعاليا بين المذهبين، ولم تكن إيران نفسها قبل عهد إسماعيل ذات أغلبية شيعية، فالتشيع لم يغلب على إيران إلا مع الدولة الصفوية، فكان اتخاذ الصفويين للتشيع وفرضه وحمل الناس عليه مما جعل الصراع العثماني الصفوي صراعا مذهبيا دينيا، ونقله من مستوى العداء السياسي الذي تجرفه الأيام إلى مستوى العداء التاريخي الذي تتوارثه الأجيال.
3ـ عداوات الكماليين
لم تتوقف العداوات المحيطة بتركيا مع انهيار الدولة العثمانية، بل على العكس أضيفت إليها عداوات جديدة. ونستطيع أن نرى رافديْن يُغَذِّيان هذه العداوات التي ورثها الأتراك من فترة الجمهورية، هما: هيمنة القومية على تلك الحقبة، وموقع تركيا في الحرب الباردة:(أ) عصر القومية
منذ ظهرت القومية في المنطقة الإسلامية فُتِح بابٌ لم يكن معروفا في الحقبة العثمانية من العداء، فقد سيطرت فكرة القومية، ضمن سياقات عديدة غذتها سياسات الاحتلال، على العرب والأتراك والإيرانيين، وقد استقرت الهيمنة القومية على السياسات التركية والإيرانية والعربية واضحة صريحة عدائية حتى نهاية القرن العشرين على الأقل.ففي تركيا لم يزل ميراث أتاتورك في إعلاء القومية التركية سائدا لا يجرؤ أحد على المساس به حتى إن سياسة أردوغان، التي يراها البعض تمثل انقلابا على الأتاتوركية لا تحاول هدم القومية التركية بقدر ما تحاول توسيعها وتبديل ثوبها ليكون أكثر اتساعا ورحابة فيشمل العنصر التركي الممتد من شرق آسيا ووسطها، وهو الثوب الذي احتوى في زمن العثمانيين شعوبا آخرين كالبلقان والعرب، فهي بذلك سياسة امتداد وتوسيع لا سياسة نقض وانقلاب.
وفي إيران أُحْيِيَت القومية الفارسية وميراثها وفخرها في عصر الشاه، وأقيمت الاحتفالات الباذخة التي تجدد سيرة الحضارة الفارسية وأخبار الأكاسرة، ثم لما وقعت ثورة الخميني عند مطلع الخمس الأخير من القرن العشرين لم تتزحزح سياسة الفخر الفارسي بل تعمقت وتجذرت بالرغم من الشعار الديني المرفوع، ولا تزال اليد العليا حتى في شأن المرجعيات الدينية للقومية الفارسية.
ولا يختلف الحال في العالم العربي فما إن رحل الاحتلال حتى استلم الحكم منه مجموعات العسكريين الذين رفعوا لواء القومية العربية، وكانت أعنف وأصلب هذه القوميات تلك التي جاورت تركيا في العراق وسوريا فلقد بقيت القومية مسيطرة على النظام السياسي فيهما حتى بعد غروبها في بلاد أخرى كمصر والجزائر.
وبالإضافة إلى هذا فإن قومية أخرى واقعة على الحدود العربية التركية الإيرانية، وهي القومية الكردية، وهي تلك القومية التي انتعشت في عصر القوميات نفسه وصارت لها أحلام في دولة كبرى مستقلة، ثم وجدت نفسها بلا دولة، وإنما مشتتة بين الدول الأربع، ولها في كل دولة قضية اضطهاد قومي ثم صار لها تاريخ من التجارب المأساوية في تلك البلدان فهي لا ترى لمشكلتها حلاً إلا أن تقيم دولتها المستقلة، وهو الحلُّ الذي تتفق القوميات الثلاث على رفضه وإجهاضه بكافة الوسائل بداية بالعنف العسكري وحتى التهميش والإهمال الاقتصادي والاجتماعي، وسائر ما بين هذين من وسائل التنكيل والإضعاف.
لذلك فقد صارت الحدود التركية مع إيران والعراق وسوريا حدود حرب باردة مصغرة بين القوميات الثلاثة التي يرث كل منها نحو الآخر تاريخا من العداء الذي بُنِيَتْ عليه شرعية النظم السياسية الحاكمة وتغذيه وسائل الإعلام ومناهج التعليم. ثم إن وجود قومية رابعة في هذه المنطقة جعلها بيئة قابلة للاشتعال في كل وقت، وجعل الأكراد سلاحا تستخدمه كل دولة ضد الأخرى وتخشى منه كل دولة كذلك.
(ب) عصر الحرب الباردة
تداخل مع رافد العداء القومي رافدٌ آخر، ذلك هو الموقع الذي اتخذه العلمانيون الأتراك منذ فترة الجمهورية من ساحة الصراع الدولي، لقد توجهوا من البداية نحو الغرب، فيما توجه أغلب المحيط التركي بما فيه العربي نحو المعسكر الشرقي، ومع أن الغرب لم يبادلهم في أي لحظة ودًّا حقيقيا رغم كل ما فعلوا له فإن الحصاد الوحيد الذي تحقق هو تعمق العلاقات الملتهبة على الحدود التركية التي كانت تابعة لنفوذ الاتحاد السوفيتي، وهكذا صارت تركيا هي خط الدفاع الأمامي للمعسكر الغربي.
كذلك فإن العلاقة المبكرة مع إسرائيل والارتباط معها بتحالف عسكري وعلاقات اقتصادية، وذلك كله من لوازم وجود تركيا في المعسكر الغربي، وضعت تركيا في موضع معادٍ للعرب طول الوقت، ولإيران من بعد قيام الثورة، بل إن الانقلاب العسكري (1980م) كان في طليعة دوافعه منع قيام أربكان من تكرار تجربة الخميني في إيران.
لم تستطع أي حكومة تركية حتى نهاية الألفية الثانية أن تغير شيئا جوهريا في السياسة الخارجية التي رسَّخها الكماليون وحافظ عليها العسكريون أصحاب الدولة العميقة، بما في ذلك عدنان مندريس أو سليمان ديميريل أو نجم الدين أربكان، بل ظلت تركيا تؤدي دورها كما هو المتوقع من دولة عاملة في نطاق الاستراتيجية الغربية خلال الحرب الباردة، حتى حين بدت بعض الفرص التي تمنحها مساحة أوسع للتوجه نحو العالم العربي –كالثورة النفطية، والتصلب الغربي في قضية قبرص بما يضاد الموقف التركي، وتحول عدد من الدول العربية إلى موقع الحليف الأمريكي- لم يكن لتركيا دور يُمكن أن يُطلق عليه تغير جوهري في السياسة الخارجية، إذ “لا تزال قوة الأيديولوجيا الدولتية [العلمانية الكمالية] ومخاوف الماضي [الإسلامي العثماني] وقوة الأمل بالمستقبل [الالتحاق بالغرب] تجعل الجغرافية التاريخية والتقليدية عاملا أقل تأثيرا في تقرير السياسة الخارجية”[118].
وما إن انتهت الحرب الباردة حتى كان العمل الأول للنظام العالمي الجديد ذي القطب الأمريكي الواحد هو غزو العراق، وحينئذ اتخذت السياسة التركية التي كان يقودها أوزال قرارها بالدعم والمشاركة في هذه الحرب إلى جانب الأمريكان، كان لهذا القرار فوائده الداخلية في تقوية الرئيس المدني ضد العسكر التركي، ولكنه كان بالنسبة للسياسة الخارجية انسجاما جديدا مع النظام الغربي ووضعا لعداوة جديدة مع الشعور العام العربي.
صحيحٌ أنه كان تغييرا في السياسة الخارجية التركية بالاهتمام بالخارج بعد سياسة العزلة والانكفاء الأتاتوركية إلا أن الأمر لم يستمر مع وفاة أوزال المفاجئة والتي عاد بعدها الجناح المدني في السياسة التركية ليكون أضعف أمام الجناح العسكري فتعطَّل مشروع أوزال في الاهتمام التركي بالتمدد الخارجي. ولم تكن فترة العام الواحد التي قضاها أربكان –ذي الطموح الإسلامي الواسع في إقامة علاقات إسلامية- كافية ليبدأ فيها مشروعه أصلا، فظلت تركيا إلى ما قبل عصر أردوغان أقرب إلى الانكفاء والعزلة منها إلى المساهمة الواسعة في أحوال الإقليم والعالم.
وهنا بالإمكان أن نتصور طبيعة العداوات التي تختزنها الذاكرة الجمعية للسياسة الإقليمية في هذه المنطقة جرّاء هذيْن الرافديْن: القومية والحرب الباردة، وكيف يعزز كل منهما الآخر ويقويه ويدعمه، لا سيما والمنطقة الملتهبة لا تفتأ تفرز من الأحداث والمواقف –باعتبارها ساحة حرب بالوكالة- ما يجعل كل حدث سياسي ذا آثار متعددة داخلية وخارجية بحيث يكون أي موقف سياسي على قدر من الدقة والحرج بحيث يستحيل معه الخروج بلا خسائر.
ويمكننا أن نضرب مثالا على هذا التعقيد بالمسألة الكردية، فعلى حين ينظر لها الأوروبيون باعتبارها مشكلة تركية ينظر لها الأمريكيون باعتبارها مشكلة عراقية، وكلا النظرتين تسبب أزمة لتركيا، فالأوربيون يضعونها على مائدة التفاوض للانضمام للاتحاد الأوروبي فضلا عن الأعداد الكردية الكبيرة الموجودة في ألمانيا والتي تبلغ نصف المليون كردي، والأمريكيون يتصرفون أحيانا بغير إطلاع تركيا حتى أنهم جمعوا زعماء شمال العراق (البارزاني والطالباني) في واشنطن بعيدا عن تركيا وتوقيع اتفاقية واشنطن (17 سبتمبر 1998) على الرغم من أن تركيا كانت وسيط العلاقة بينهم وبين الأكراد، وهو اللقاء الذي أسفر عن ترتيب الأوضاع لاستقرار الكيان الكردي في شمال العراق بما يلقي بتأثيراته على الوضع في تركيا، وهو ما دفعهم لفتح علاقة مع الحكومة في بغداد واستضافة طارق عزيز لإحداث التوازن المطلوب، ثم إن دخول الأمريكيين المباشر على الملف يجعله مفتوحا على استعماله ضد تركيا في حالات تضارب السياسات الأمريكية التركية في ملفات أخرى كقاعدة إنجرليك[119].
وبالمحصلة فقد “كانت تركيا بنفس عزلة إسرائيل تقريبا في الشرق الأوسط” ينظر إليها “كدولة منبوذة”[120] في محيطها، لها مشكلات مع سوريا بدأت منذ انتهاء الانتداب الفرنسي حول إقليم هاتاي أو لواء الإسكندرونة، الذي تمكنت تركيا من ضمِّه إليها بينما تراه سوريا قطعة محتلة من أراضيها. وحدث غير مرة أن حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية، ونفذت مناورات عسكرية، وبلغت حافة الحرب مع سوريا لدعمها حزب العمال الكردستاني.
ولها مشكلات مع العراق تبدأ بالشعور التركي بأن الموصل قد انتزعت منها، ولا تنتهي بغزو العراق في حرب الخليج الثانية، وهو الموقف الذي غلَّ يد العسكر الأتراك داخليا عن الانقلاب على تورجت أوزال كما سبق بيانه، وقد اشترطت تركيا على الحلفاء ضمان إقامة منطقة آمنة للأكراد في شمال العراق –منعا لتدفق الهجرة الكردية إليها، بما يحمله هذا من تفجير وإثارة مضاعفة للمشكلة الكردية- مع تعهدهم بعدم السماح بقيام أي كيان سياسي كردي[121].
خامساً: أزمة الجغرافيا البشرية
لم يكن التنوع البشري في تركيا يمثِّل أزمة إلى ما قبل تأسيس الجمهورية، لكن إرادة “خلق قومية تركية” على النمط الغربي، وكذلك إنشاء حدود بين الدول -منذ معاهدة لوزان 1923 وما بعدها- حوَّل ذلك التنوع البشري إلى مشكلة مستطيرة لا تفتأ تثير الأزمات السياسية والاجتماعية، ذلك أن كل مُكوِّن بشري تحول بذاته إلى مشكلة أو مشروع مشكلة، ثم تحولت العلاقة بينه وبين غيره من المكوِّنات إلى مشكلة جديدة أو مشروعا لها.وبالإضافة إلى هذا فإن تكوَّن تلك المشكلات جرى في منطقة لا تمثل فقط حدودا بين تركيا وجيرانها، بل حدودا بين المعسكرين الشرقي والغربي، أي أنها كانت حدودا لصراع إمبراطوري متفجر، مما جعل كل هذه المكوِّنات وسائل قابلة للاستعمال والإشعال والاختراق.
باختصار صنعت الحدود السياسية التي لم تنسجم مع حدود طبيعية أو عرقية جملة من التوترات والمشكلات، ثم صنعت السياسة القومية القاهرة جملة أخرى من التوترات والمشكلات، فوجد المضطهدون أنفسهم في حاجة إلى مختلف أنواع الدعم لنصرة قضيتهم المحلية، فوجد فيهم الصراع الإمبراطوري وسائل ممكنة لخدمة الصراع العالمي. وحتى حين انتهت الحرب الباردة لم يكن هذا كافيا لإنهاء المشكلات المحلية، لأنها مشكلات عضوية بنيوية وليست مجرد ناتج من نواتجه.
1ـ التنوع البشري في تركيا
تحتضن تركيا “كافة العناصر البشرية العديدة المختلفة التي تعيش فوق أرضها. ولذلك، تعد تركيا من حيث العنصر البشري وساحة التأثير الجغرافي دولة شرق أوسطية، وبلقانية، وقوازية، وتنتمي إلى آسيا الوسطى، وبحر الخزر، والبحر الأبيض المتوسط، والخليج، والبحر الأسود، كل ذلك في آن واحد”[122]. هذا الوصف يمكن أن نراه بصيغة أخرى تلقائية عند زائرة أوروبية تتحدث عن ملامح البشر في تركيا، “فتجد أتراكا بأنوف كبيرة راجعة إلى منطقة البحر الأسود، وأتراكا طوال القامة بشعر أشقر، وأتراكا آسيويين قصار القامة أقوياء البنية يتميزون بعظام وجنة مرتفعة وأعين مائلة تعود بكل وضوح إلى الفرس، وتجد أتراكا بشرتهم بيضاء وشعرهم أشقر أو أصهب من نسل الشراكسة الذين عاشوا بين حريم السلطان، وهناك أتراك بشرتهم بلون زيت الزيتون وبنيتهم بنية البحر الأبيض المتوسط النحيلة، وأكراد بأنوف كبيرة وأعين أخاذة نابضة بالحياة، إلى جانب الفلاح الأناضولي القوي المكتنز مدبب الرأس ذي القسما الحادة”[123].وطبقا لإحصائية (2016)[124]، فإن تركيا تشهد ارتفاعا واضحا في نسبة الشباب، إذ يشكل الشباب بين 15 إلى 24 عاما نسبة 16%، بينما يشكلون بين 25 إلى 54 عاما نسبة 43% من مجمل السكان. وهذا الارتفاع في نسبة الشباب بقدر ما يكون قوة وإضافة في أجواء الاستقرار، بقدر ما يمثل تهديدا في لحظات الأزمة أو إذا فشلت الدولة في احتواء الطاقة الشبابية.
كذلك فإن هذه الطاقة الشبابية يُنظر إليها كتهديد تركي، إذ تحتل تركيا المرتبة الـ 17 عالميا من حيث تعداد السكان، فوجود كتلة كبيرة يغلب عليها فئة الشباب في ذلك الموقع الجغرافي الخطير يمثل سببا قد تتخوف منه أوروبا التي توصف بالقارة العجوز لضعف نسبة الشباب من بين تعداد السكان[125].
من حيث الأديان، وعلى غير ما هو متوقع من دولة كانت زاخرة بالتنوعات، يمثل الإسلام 99.8%[126]، فيما لا تمثل الأديان الأخرى سوى 0.2% معظمهم مسيحيون ويهود. ويرجع هذا الانخفاض الحاد في نسبة غير المسلمين إلى سياسات التهجير التي جرى تنفيذها منذ ما بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، فمن بين عدد سكان الأناضول الذي كان –في أواخر الفترة العثمانية- يتجاوز عشرة ملايين نسمة كان من بينهم نحو 4.5 ملايين مسيحي، تعرض قسم منهم للتهجير خلال فترة الاتحاديين، كما طَهَّرَ الكماليون في العام 1921 مليون نسمة إضافية منهم، عبر التهجير وتبادل السكان مع اليونان[127].
ومن اللافت للنظر أن الدراسات الغربية[128] تهتم كثيرا بنسبة التدين في تركيا، ففي دراسة روبرت كابلان “انتقام الجغرافيا” –كمثال- يذكر عند تعرضه لتركيا أن نحو ثلثي الأتراك من الطبقة العاملة الحضرية يصلون يوميا، فضلا على معظم الأتراك في المناطق الريفية، كما ارتفعت هذه النسبة المئوية أكثر خلال السنوات الأخيرة[129].
ومن حيث الأعراق يمثل الأتراك 70 إلى 75% بينما يمثل الأكراد 19% وتشغل الأعراق الأخرى ما بين 7 إلى 12% من نسبة السكان، و”تضم تركيا نصف أكراد العالم، وأكثر من نصف مساحة تركيا يقطنها الأكراد، ونظرا إلى المقومات التي تمتلكها تركيا من موقع جيواستراتيجي وجيوسياسي وطبيعة نظامها الديمقراطي ودورها الفاعل والمؤثر في السياسة الإقليمية والدولية، فإن تأثيرها ودورها في رسم مستقبل الكرد في بقية الدول المجاورة لا يمكن تجاهلهما”[130].
2- ظهور المشكلات القومية
لم يكن التنوع العرقي والثقافي يمثل مشكلة طوال التاريخ العثماني[131]، بل ضُرب المثل بالدولة العثمانية في التسامح واحتضان واستيعاب التنوعات المختلفة، بل كانت الدولة العثمانية ملجأ المضطهدين دينيا ومطمح الأنظار للمحرومين من الحرية، فأصحاب “كالفن Calvin في المجر وترانسلفانيا، وأصحاب مذهب التوحيد من المسيحيين الذين كانوا في ترانسلفانيا، طالما آثروا الخضوع للأتراك على الوقوع في أيدي أسرة هابسبورج المتعصبة، ونظر البروتستانت في سيليزيا إلى تركيا بعيون الرغبة، وتمنَّوْا بسرور أن يشتروا الحرية الدينية بالخضوع للحكم الإسلامي، وحدث أن هرب اليهود الإسبانيون المضطهدون في جموع هائلة، فلم يلجئوا إلا إلى تركيا في نهاية القرن الخامس عشر، كذلك نرى القوزاق Cossaks الذين ينتمون إلى فرقة المؤمنين القدماء -الذين اضطهدتهم كنيسة الدولة الروسية- قد وجدوا من التسامح في ممالك السلطان ما أنكره عليهم إخوانهم في المسيحية…وحتى إيطاليا كان فيها قوم يتطلَّعون بشوق عظيم إلى الترك؛ لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبلُ بالحرية والتسامح، الذين يئسوا من التمتع بهما في ظِلِّ أية حكومة مسيحية”[132].
لكن صارت تلك التنوعات مشكلة وأزمة حين صار النظام علمانيا يعمل على “تتريك” كل شيء ليجعل منها قومية على غرار القوميات الأوروبية، فيما أطلق عليه عملية “خلق السلالات”، حيث يُجبر الناس أن يكونوا على النحو الذي تريده الدولة، والدولة في حالتنا هذه تنطلق من فكرة لا من واقع، فكرة صناعة قومية تركية لم يكن لها وجود موضوعي في الواقع!
وهكذا بينما كانت القومية في أوروبا حلا يضع الحد لنزاعات قومية فيجعل حول كل قومية حدودا تحتفظ بالاستقال والسيادة، كانت القومية أزمة في الأرض المسلمة حيث لم يعاني المسلمون من أزمات وحروب قومية، كما أن تقسيم بلاده لم يتم وفق سياق طبيعي بل وفق اتفاقيات المحتلين، فقُسِّمت الأعراق التي تتحد في كل شيء كالدين واللغة والثقافة ونمط الحياة بين أكثر من دولة، كل دولة منها تريد من أولئك القوم أن ينخلعوا من أنفسهم ليكونوا على وفق الأغلبية فيها، وربما لا يكون نظام الحكم يمثل الأغلبية بحال وإنما جاءت به كذلك رغبات المحتلين.
وباختصار، فالقومية التي كانت حلا في أوروبا تمنع القوميات من الصراعات الدائمة فيما بينها، كانت هي أداة التفجير والتوتير التي وُضِعت على المجتمع الإسلامي الذي لا يعاني من مشكلة القوميات والتنوع العرقي فأنبتت فيه دوامة صراع لا يزال يعاني منها حتى هذه اللحظة.
وفيما يخص تركيا تحديدا كانت المشكلة الكردية هي صاحبة نصيب الأسد من هذا الصراع الذي افتعلته فكرة القومية متضافرة مع السياسات والترتيبات الاستعمارية، فقد مثلت كردستان التركية أكبر أجزاء كردستان الجغرافية البالغة مساحتها 410 آلاف كم مربع. ووفق الخريطة التي أعدها مارك سايكس، واعتمدتها عصبة الأمم عام 1920 عشية وضع معاهدة سيفر، بلغت مساحة كردستان تركيا 165.100 كم مربع، وقطن فيها نحو نصف أكراد كردستان.
لقد أسست سايكس بيكو لتقسيم الأرض العثمانية إلى بلدان عربية وحرمت الأكراد من كيان مماثل، ثم جاءت معاهدة سيفر التي عملت على تمزيق عنيف للدولة العثمانية فمَنَحَتْ مساحة في الجنوب الشرقي للأكراد، لكن معاهدة سيفر التي أوجدت “حلم الكيان الكردي المستقل” لم تستمر، بل نسختها معاهدة لوزان التي صنعت حدودا جديدة لا تنبني على أي أساس جغرافي أو تاريخي أو ثقافي، بل على موازين القوى، ومن ثَمَّ لم تحل لوزان مشكلات الأقليات بقدر ما خلقت شروطا جديدة لاندلاعها في ظل تخلي الدول الكبرى عن وعودها لهذه الأقليات بالاستقلال وإنشاء كيانات سياسية وفي ظل السياسات القومية القاهرة للأقليات. ومن هنا نشأت الأزمة الكردية التي بدأت بانتفاضات وثورات دموية ومرَّت بحروب عصابات تقوم بها منظمات مسلحة، فصار الملف الكردي يتضخم وتزيد أوراقه حتى صار واحدا من أعقد وأهم الملفات التركية[133].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق