الثلاثاء، 21 أكتوبر 2025

العالم المتحضّر وعالم جدّتي البسيط.. فتح الملف

 العالم المتحضّر وعالم جدّتي البسيط.. فتح الملف

الكاتب: جدّتي -دون غيرها- لا تكفّ عن رسم الصور، صورةً وراء صورة، التي أبدو أنا فيها حسن الأفعال 

"مركب على الله ما بتغرق" -قول كانت تردده جدتي كثيرا؛ لا أعرف قائله الأصلي، لكنه يبدو من الأمثال المأثورة.

يقول الطيب صالح: نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي فلاحون فقراء، ولكنني عندما أعانق جدي أحس بالغنى؛ كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه.

بون شاسع بين عالم المادة وعالم العرب

عند العالم الأوروبي المتحضر، منابع الفخر في المجتمع هي ناطحات السحاب، والنقود التي اشتروا بها كل شيء، بما في ذلك السعادة والسمعة الحسنة!

غير أنهم لم يقدروا على شراء هذا النوع من الاتصال والتعلق بجماعة لا تنحصر داخل قُطر واحد. لم يختبروا تعلقا كهذا بإنسان ليس من الأهل، ولا هو زوجة، بل اتصالا مع قوم وأمة وهوية – مثل خاصتنا.

نحن أمة ينقصها كل شيء نظريا، بما في ذلك التيار الكهربائي غير المنتظم في أغلب أقطارنا، غير أنها -أي أمتنا- تعمل بـ"المباشر" حتى وإن انقطع التيار الكهربائي! نعمل "مباشر" بنظام الحب، فنتزود به ونظل صامدين، بصرف النظر عن جودة الحياة.. وعن الحياة نفسها. كاللابتوب تموت بطاريته فلا يعمل إلا "مباشر" من الكهرباء عبر الشاحن.

المزارعون الفقراء لا يفكرون في "أكل العيش" على الشاكلة التي يفكر بها ذوو التحضر، لأن المتحضرين يخالون أنفسهم وحدهم؛ لذا فإن التدبير عندهم فعل لازم، إن لم يقوموا به هلكوا

الأواصر

عند العالم المتحضر، ما من شيء تتفق عليه الأمة جميعها! بينما نحن -أعني المزارعين الذين نمارس "أنشطة روحانية متقدمة ليست لها علاقة بأكل العيش"- متخلفون، ولذا ندندن بالأناشيد هذه الأيام احتفالا بالمولد.

لكن هذا ليس ما قالته لي جدتي؛ إن جدتي، في حقيقة الأمر، لم تقل لي شيئا عن أكل العيش البتة، وقد قيل في الأثر: "لماذا تفعل ما تكفل به غيرك؟"

لقد كانت، وهي إلى جانبي، تُطمئنني أوان شكواي من الدنيا، مثلما كان الطيب صالح وهو إلى جانب جده.. وربما أكثر. إن الروحانية التي ينفر منها العالم المتحضر هي "المباشر" الذي نعيش به!

إن المزارعين الفقراء لا يفكرون في "أكل العيش" على الشاكلة التي يفكر بها ذوو التحضر، لأن المتحضرين يخالون أنفسهم وحدهم؛ لذا فإن التدبير عندهم فعل لازم، إن لم يقوموا به هلكوا.

أما نحن – أعني المزارعين الفقراء- فالوضع عندنا يختلف.. إننا نؤمن، وإن كنا طالحين، أن هناك من يُدير أمورنا حتى من دون علمنا، هناك من يُعيننا ويدعمنا.

دردشات يوم الجمعة كانت في الأصل بيني وبين جدتي، كنت أحاول تثقيف نفسي بعلمها والتزود منه، وأنا أعتاد الروتين، أو لنقل النشاط الذي إذا ثبت لي أنه نافع، أعتاده سريعا

بين يدي أمي

يوم الجمعة الأخير، أوان العصر، جلست بين يدي أمي، وأخذنا نتكلم عن منطقة "الفيصل" بالجيزة؛ تريد هي أن تعرف على وجه الدقة أعداد القاطنين فيها من السودانيين، وما جاؤوا به معهم من صنائع سودانية.

فقاطعتها من فوري وقلت: "أي شيء! يشهد الله، دكان تمباكزي اللي في السودان بالضبط، اليافطة فيها رسمة لدفار (شاحنة) حمولتها شوالات من الخيش ملآنة تمباكا".

الطريف أني قلت قولي هذا لأمي بذات الأسلوب.. بلى قلت: "ملآنة تمباكا"! والسبب أني دائما أحاول تدبير نوع من الثقة بفني وكينونتي كاتبا عند جماعتي؛ جماعتي الذين باتت عندهم شكوك حيال مسألة: محمد شيماوي × الأدب.

هم يحسبون أن السنوات التي كتبت فيها نصوصا بغية نشرها كانت طويلة وكثيرة، ومع ذلك لم يُكتب لها النشر، وعليه فقد تطول فترة التعثر أكثر حتى أبلغ طريقا مسدودة، أنقلب بعدها إلى التفكير في إنتاج الإبداع -إن كان من إبداع يعني- عبر الرسم.

لكن الرسم سيكون، والله، معقدا للغاية بالنظر إلى كوني أرسم الرأس دائرة تامة، والعيون دوائر غير متناسقات، أما الأذنان فأرسمهما دوامتين في مكان ما من غلاف الرأس!

وبعد الرسم سينتابني إحساس بأن الإبداع قد لا يكون النعمة التي حباني الله بها، بل الرياضة. وما من رياضة غير الكرة!
فأما الكرة، فلن أُحرز فيها ركلة الجزاء تلك؛ سأركل الهواء فأهوي على الأرض، والقوم من حولي سيتخذون من ذلك مادة للتندر والضحك.. فشلت الكرة.

إذا، الأرجح بعدها أني سأنوي -بعزم صبياني- ركوب المتوسط لأعبر إلى إيطاليا، حيث سيتم تقدير موهبتي ككاتب، وتجويد أدائي كلاعب كرة قدم محترف!

دردشات يوم الجمعة كانت في الأصل بيني وبين جدتي، كنت أحاول تثقيف نفسي بعلمها والتزود منه، وأنا أعتاد الروتين، أو لنقل النشاط الذي إذا ثبت لي أنه نافع، أعتاده سريعا.

وأذكر أني، في أول مرة جلست فيها بين يدي جدتي، كان مدخلي وهدفي هو إثبات أني فعلت كل ما بوسعي لألحق صلاة الجمعة، لكن الماء نفد، وكنت مغطى بصابون حاولت تجفيفه، ولما فرغت وجدت الصلاة قد فاتتني!

قلت لها هذا كيلا تظن أني أتكاسل عن أداء صلواتي. العجيب أن جدتي كانت أوحد من كنت أحرص على أن يظن بي الخير والصلاح في الدين؛ لم أبرر لأحد قط تخلفي عن أداء أي فرض، لكني كنت أحرص على أن تكون سيرتي حسنة عندها دون غيرها.

جدتي -دون غيرها- لا تكف عن رسم الصور، صورة وراء صورة، التي أبدو أنا فيها حسن الأفعال. كانت تفتخر بي علنا في المجالس: محمد كذا ومحمد كذا، وأي "كذا" أحلى من الثانية!

فكنت أخجل من نفسي إذا فعلت صنيعا يجعلني دون المكانة التي تتخيلها لي وتحلم أن أبلغها؛ كنت أخجل أن تعرف أني قصرت.
لذلك كنت أحيانا أسارع إلى فعل الخير، وهو في الحقيقة خير، فقط لأشاركه معها، ولأثبت أن الصور الطيبة التي تقولها وتعكسها عني أمام الناس ليست محض خيال.

تلك كانت طريقتها؛ كانت تعرفني أكثر من نفسي، تعرف أني تخلفت عن الصلاة لأنني ببساطة كنت نائما، ولم أكلف نفسي عناء ضبط منبه يوقظني لأداء الفريضة، لكنها لا تعيرني بذلك، ولا توبخني أبدا، بل تشحنني بتحفيز يجعلني في المرة المقبلة أؤدي ما فاتني. إن هذا الأسلوب في التعامل مع الأبناء -والله- ما من أسلوب أحسن منه!

سيستمتع ترامب بكأس العالم التي ستستضيفها بلاده، سيُهين الرؤساء الأفارقة الكسالى، وسيُبرز للناس قوة بلاده حتى من الناحية الرياضية، ويعتبرها بوتقة رياضية

هكذا إذن

هذا ما عناه الطيب صالح حين تكلم عن عناقه جده، واعتبره نغمة من دقات قلب الكون نفسه. في البدء حسبته بالغ في قوله، لكن -والله- هذا عادي ونمطي. اللانمطي وغير الطبيعي أن تنتهي علاقة المرء بأحبابه عند وفاتهم! هذا -على الأقل عند العرب- إن حدث، فإن علامات الاستفهام ستدور حولك: أأنت الذي نسيت أباك أو أمك؟

أما ذاك الرجل فسيستمتع

سيستمتع ترامب بكأس العالم التي ستستضيفها بلاده، سيُهين الرؤساء الأفارقة الكسالى، وسيُبرز للناس قوة بلاده حتى من الناحية الرياضية، ويعتبرها بوتقة رياضية.

غير أن البوتقة التي في بالي ليست على هذه الشاكلة؛ إنها الجلوس بين يدي جدتي، ومعنا نفر من الجيرة أو الأهل، نتجاذب أطراف الحديث معهم، ثم أقعد أتفكر في هؤلاء الأجداد: كيف يمرحون ويضحكون رغم أدواء السكري والضغط وأمراض الشيخوخة؟

يبدو أن أبناء المجتمعات البسيطة قد تمكنوا -بالتكاتف، وقل بالتوكل- من تدبير نوع خاص من جودة الحياة، يكاد يوازي ذلك الذي عند العجم.. بل يفوقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق