الجمعة، 24 أكتوبر 2025

حرب السودان ومآلاتها.. الحقيقة الكاملة!

 حرب السودان ومآلاتها.. الحقيقة الكاملة!

أكاديمي محام، وأستاذ للقانون بالجامعات السودانية

إن الحرب التي تدور رحاها في السودان منذ الثالث عشر من إبريل/نيسان 2023 تُعدّ من أخطر الأزمات الإنسانية المعاصرة. وإليك شهادتي على الواقع في حديث مُختصر عن أسبابها وآثارها.

أما الأسباب، ففيما أرى، أنها تشكيلة من الأطماع المحلية والإقليمية والدولية.
فأما الأطماع المحلية، فيظهر أثرها في أن هنالك من يرغب في تولي الحكم في السودان ليحصل من وراء ذلك على امتيازات السلطة تحقيقًا لمغنم شخصي ليس به تبعات المغرم التي أجراها الله على الأشياء. فالمغانم بالمغارم والمغارم بالمغانم، وبمعنى آخر: تُكتسب الحقوق بالواجبات، والواجبات تكسب الحقوق، فلكل مغنم مغرم، ولكل مغرم مغنم. ولكن أصحاب هذه الأطماع المحلية يريدونها مغانم مطلقة بلا مغارم، وحقوقًا مطلقة بلا واجبات.

وكل من يريد تولي الحكم إنما يريد مغانمه ولا يهتم بمغارمه، ولهذا كان الناتج أن كل من يتولى الحكم وهو غير قادر على تحمّل المغارم يبحث له عن شريك ليتحمل عنه تلك المغارم، فيظهر دور أصحاب الشوكة الممثلة في من بيده القوة العسكرية.

اقتلاع النظام

هذا الواقع يتأتى في كل الحقب التي مرّ بها السودان الحديث، فقد استعان طالب المغانم دون مغارم بالفريق عبود، ثم بالمشير نميري، ثم بالمشير البشير، ثم بالفريق البرهان. وكل مرة يستنجد من يريد المغنم دون مغرم بصاحب الشوكة ليتحمل عنه المغرم. وآخر المغارم تحمّلًا توجيه من يريد المغنم أنصاره لإقامة اعتصام أمام بوابات القوات المسلحة لتتحمل عنهم المغرم، فقام اعتصام القيادة الذي مورست فيه جميع الأفعال حسنها وقبيحها، وهو بمثابة لجوء لمن بيده الشوكة «القوات المسلحة»، وطلب منها مرارًا وتكرارًا التدخل لاقتلاع النظام، ففعلت وانقلبت اللجنة الأمنية للنظام وقتها على رئيس النظام المشير البشير، وتحفظت عليه وحافظت على أمن المواطن، وشكّلت المجلس العسكري الذي استمر حتى الخامس من يوليو/تموز 2019، لتأتي الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية التي تقاسم فيها السلطةَ من يطلب المغانم ومن يتحمل المغارم.

فحقق صاحب المغنم مأربه، ويحمل من يواجه المغرم تبعة المغرم، ثم توسّع طالب المغنم أكثر فتحالف مع جزء من متحملي المغارم، أعني حلف الحرية والتغيير الخفي مع الدعم السريع، فكان ذلك الحلف كحال الأحلاف السابقة من قبل من يريد المغنم دون مغرم، فأوحى بضرورة أن يكون للحليف ذي المغرم وضع خاص ليس لأجله وإنما لأجل تقويته ليتحمل المغرم كاملًا بأعبائه، فكان الناتج أن اندلعت الأزمة بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).

ويُذكر أن السبب الظاهر كان خلافًا حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش ومتى وكيف يتم ذلك، ولكن الحقيقة تقول إنه تم حثّ الحليف (الدعم السريع) لكونه يملك قوة تمكّنه من بسط سلطته على طول البلاد وعرضها، فكان الشحن والتحشيد الذي بدأ بتاريخ 13 إبريل 2023، وبدأ بالاعتداء على قاعدة مروي الجوية، ثم تطور الموقف وزاد حدة فكانت حرب يوم السبت 15 إبريل 2023، الذي كان في حقيقته انقلاب الرجل الثاني على الرجل الأول في الجيش، ويشهد على ذلك تصريحات حميدتي لقناتي العربية والحدث يوم السبت في التاريخ المشار إليه، فتسعّرت الحرب بين الطرفين.

انفجار الوضع

بدأ الاعتداء على مقرات الجيش في العاصمة الخرطوم بتاريخ 15 إبريل 2023، حيث شنّت قوات الدعم السريع هجمات على عدد من مقرات القوات المسلحة ومطار العاصمة الخرطوم، وبذلك توسع الصراع. وانفجر الوضع وظهرت الاشتباكات لتشمل ولايات كثيرة مثل الجزيرة، والنيل الأزرق، وكردفان، ودارفور وغيرها.

ومن أبرز المعارك معركة الخرطوم التي كنت شاهد عيان على أحداثها، حيث لم يكن الجيش يتوقع اشتعال الحرب بهذه السرعة، ولذلك لم يكن الاستعداد بالقدر اللازم لعدم توقعهم تمرد الدعم السريع، لأنه في تاريخ الحروب في السودان كان التمرد يتم في الأطراف لا المدن المأهولة بالعمران، ولهذا خشي الجيش أن يؤدي التعامل العنيف إلى تضرر المدنيين.

ولذلك حرص الجيش على توقيع «ميثاق جدة» في الحادي عشر من مايو/أيار، والغرض الأساس منه حماية المدنيين وعدم التعرض لهم ولمؤسساتهم، لأن التمرد دخل في كل مكان حتى مستشفى القابلات بأم درمان صار ثكنة عسكرية للدعم السريع. ورغم تراخي الجيش، فإن الدعم السريع تعامل بقسوة مع الجميع ضاعت معها كل مقومات الحقوق وانتهكت في أبشع صور الانتهاك، فكان الاعتقال لكل من يُشتبه في انتمائه للقوات النظامية، ثم توسّع الاعتقال ليشمل كل من يشغل منصبًا حكوميًّا أو عامًّا.

أما الأخطر، فهو دخول أعداد هائلة من المستنفرين من ولايات عدة، وهدفهم الأساس هو الغنيمة التي أطلقوا عليها «السفشفه». ومن الوقائع الطريفة أن أحدهم بعد أن سفشف النقود والذهب والأثاث دعا الناس لوليمة لكونه جاء من مغنم ناجح، ثم ذهب للصلاة في المسجد وسأل الإمام عن زكاة الغنائم، يقصد الأموال المنهوبة من الخرطوم!

وكانت كل مرة تأتي طائفة جديدة غير السابقة بغرض الغنيمة، يدخلون البيوت بعد إتلافها بحثًا عن الذهب والأجهزة والأثاث.
أما عن المعتقلين، فكانت أبشع صور التعذيب والإذلال والضرب والسحل والتجويع والقتل لإرهاب الآخرين، مما ترتب عليه آثار إنسانية واجتماعية واقتصادية خطيرة.

نتج عن ذلك نزوح وهجرة قسرية بحثًا عن الأمان، فأصبحت أعداد المهجّرين واللاجئين داخل وخارج السودان بالملايين. كما انهارت الخدمات الصحية والتعليمية وانتشرت الأوبئة، وتضرر الاقتصاد بشدة، وتوقف إنتاج الذهب والتجارة والموانئ.

جرائم ضد الإنسانية

بلغت الانتهاكات حدًّا يمكن تصنيفه على أنه جرائم ضد الإنسانية، إذ كانت المجموعات المسلحة تداهم البيوت ليلًا، وتطرق الأبواب بحجة التفتيش، فإن فتحت سُلبت، وإن أغلقت أُطلقت النيران لترهيب السكان. وقد حدث ذلك معي شخصيًّا ست مرات.

والأغرب أن هؤلاء المستنفرين لا يملكون أي وازع ديني يمنعهم من انتهاك الحرمات، وأغلب المحاربين في صفوف الدعم السريع لا صلة لهم به أصلًا، بل جاؤوا طمعًا في الغنائم، مما أدى إلى أضرار مادية ونفسية وجسدية جسيمة.

في الأشهر الأولى اكتفى الجيش بالدفاع، ثم بدأ تدريجيًّا يقوّي صفوفه ودفاعاته. وأخطر المناطق التي هاجمها التمرد كانت المدرعات، ثم المهندسين، فالقيادة العامة وسلاح الإشارة. وبعدها بدأ الجيش يستعد للهجوم تدريجيًّا، فشهدت العاصمة معارك شرسة بين الطرفين، حقق فيها الجيش تقدمًا تدريجيًّا.

وصار كل موقع يسيطر عليه الجيش مأهولًا بالسكان، بينما مواقع التمرد خالية إلا من قلة اضطروا للبقاء. وليس كل من كان في مناطق التمرد متعاونًا معه، فبعضهم أُكره على ذلك، إذ إن الامتناع يعني القتل، والتعاون يعني الاتهام بالخيانة. فازداد التوتر وتصفية الحسابات بين الناس على خلفيات شخصية بوصفهم مؤيدين للتمرد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق