الأحد، 26 أكتوبر 2025

وثيقة الصين البيضاء.. تبييض القمع باسم التنمية

 وثيقة الصين البيضاء.. تبييض القمع باسم التنمية

كاتب وصحفي

عقب زيار لإقليم شينجيانغ “كردستان الشرقية” يوم 23 سبتمبر/أيلول الماضي، بمناسبة مرور سبعين عامًا على ضم المنطقة ذات الأغلبية المسلمة والعرقية من الإيغور والقازاق والأوزبك والمغول، أطلق الحزب الشيوعي الصيني “الوثيقة البيضاء لإدارة شينجيانغ في العصر الحديث”.

تحولت الوثيقة البيضاء، بتوجيه من “شي”، إلى قضية عامة، نوقشت خلال المؤتمر السنوي للحزب الشيوعي الأسبوع الماضي، في محاولة لتقديم الإقليم المضطرب نموذجًا للحداثة والوحدة الوطنية. تصف الوثيقة، التي احتفى بها قادة الحزب ومن خلفهم الأكاديميون ووسائل الإعلام الرسمية، شينجيانغ بأنها “تعيش عصرها الذهبي من الأمن والازدهار”، في محاولة لإغلاق ملف حقوق الإيغور عبر سردية التنمية والانسجام المفروض قسرًا من السلطة المركزية. فإذا قرأت الوثيقة وما أثير بشأنها عن قرب وتمهُّل، كما فعلنا على مدار شهر، ستدرك حجم المأزق الأخلاقي الذي تعيشه السلطة الحاكمة.

تبرهن السلطة نجاحها السياسي بإحصاءات اقتصادية وخطط تنمية حققتها على مدار عقود، لتؤكد نجاحها في إدارة الإقليم، وتغطية القهر الذي يقترب من حد الإبادة الجماعية لأقليات عرقية ودينية صاحبة الأرض والتاريخ، بما جعل اتحاد تحالف الإيغور في المنفى يصفها بأنها محاولة لـ”غسل السمعة” White Wash، وليست White Paper “وثيقة بيضاء”، لأن الحقيقة كما يحيونها أن هناك تطورًا في المشروعات القائمة على الأسمنت والحديد تُبنى على الخوف والقهر الأسود، وليست حداثة، لأن التنمية التي تُقصي حرية الإنسان وكرامته لا تحقق حضارة وتقدمًا، وإن بدت جميلة في أوراق بيضاء.

غطاء السيطرة

تبدو الوثيقة الصادرة بعنوان “العمل في شينجيانغ تحت قيادة الحزب: الممارسة والإنجازات” مليئة بأرقام باهرة عن التنمية، متضمنة عشرين بندًا عن إنجازات القضاء على الفقر، وتعزيز التعليم والتدريب المهني، وتحديث البنية التحتية. تكررت مفردات “الاستقرار” و”الوحدة الوطنية” عشرات المرات، في تلميح واضح إلى أن الهدف الحقيقي هو السيطرة، لا الإصلاح الاجتماعي. فالتنمية هنا مشروطة بالولاء المطلق للحزب الشيوعي القومي، وإلغاء الهوية الدينية والعرقية التي تعاد هندستها لضمان الولاء التام للدولة والحزب، وتدار بوصفها ملفًّا أمنيًّا لا ثقافيًّا.

تبنّى الأكاديميون في الجامعات والأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية الخطاب الرسمي بسرعة. كتب البروفيسور ليو تشيانغ في مجلة Qiushi الحزبية أن “النموذج الصيني أثبت قدرته على صهر القوميات في بوتقة واحدة”، في حين رأى الاقتصادي من جامعة بيجين، تشنغ وانغ، أن “المشروعات الجديدة في كاشغر وأورومتشي -بإقليم يُفترض حصوله بنص دستوري على حق إدارة موارده وشؤونه- دليل على نجاح الإدارة المركزية”. لم يتطرق الاحتفاء الأكاديمي والرسمي إلى حالة القمع أو اختفاء الهوية الدينية للمسلمين.

“بروباغندا”

رافقت الوثيقة حملة دعاية ضخمة. فقد بثت القنوات الصينية أفلامًا على مدار الشهر عن “وجوه السعادة في شينجيانغ”، وخصصت وكالة “شينخوا” الرسمية والقنوات التلفزيونية والصحف المحلية والصادرة بلغات أجنبية مثل “جلوبال تايمز” Global Times و”الصين اليومية” China Times صفحات لعمال من قومية الإيغور يروون قصص “تحوُّل حياتهم” من البؤس إلى السعادة الغامرة.

أطلقت السلطة مقاطع مصوَّرة بلغات عدة على منصات التواصل، خاصة “تيك توك” و”يوتيوب”، تُظهر بيجين راعيًا للتسامح الديني، في حين أن المشاهد جميعها تُظهر الرقص الشعبي حول المساجد والمناطق الأثرية المتبقية من حملة التطهير العرقي، التي يصعب إزالتها لوجودها في وثائق “اليونسكو”.

خلف هذه الصورة الملوَّنة، تواصل الصين فرض رقابة صارمة على المساجد والتعليم الديني، وتقييد استخدام اللغة الإيغورية ذات الحروف العربية، وفرض مناهج “الولاء للوطن”، ومنع الناس من استخدام الرموز العرفية والدينية، وتربية اللحى، وتعلُّم القرآن، وارتداء الملابس المحتشمة، إلا أثناء ممارسة الرقصات الفولكلورية. وفي حين تزعم الوثيقة أن مخيمات التعذيب للمسلمين هي “مراكز تدريب مهني”، وثقت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” خلال الأعوام من 2016 إلى 2022 شهادات تؤكد أنها كانت مواقع للاعتقال وإعادة التلقين الأيديولوجي لإحلال العقيدة الشيوعية الماركسية محل الإسلام والأعراف الاجتماعية السائدة بالإقليم.

الإيغور و”وثيقة النسيان”

وصف “المؤتمر العالمي للإيغور”، الجامع للقوى السياسية بالإقليم، من ميونخ الوثيقة بأنها “أداة لتبرير جريمة مستمرة”. وقالت المتحدثة دولكان عيسى إن “الصين تحاول إعادة كتابة التاريخ وتحويل المأساة إلى إنجاز”، مؤكدة أن “من يُمنع من أداء فريضة الحج أو التعليم الديني لا يمكن أن يُسمّى حرًّا”. ويرى الإيغور بالداخل والفارين الناجين بأنفسهم وأهليهم بالخارج أن الحزب الشيوعي دمج في خطابه بين شعارَي “محاربة الإرهاب” و”التنمية”، لتبرير سياسات “تطهير ثقافي ممنهج” تستهدف تفريغ المجتمع المسلم من مضمونه الديني.

رأت مجلة “ذي إيكونوميست” The Economist أن “الوثيقة البيضاء” تمثل “مرحلة جديدة في الدعاية الصينية”، لأنها موجَّهة إلى الخارج لتلميع الصورة لا لإقناع الداخل. وقالت المجلة إن بيجين “تتجاهل تمامًا نحو مليون شخص مرّوا بمعسكرات الاعتقال، وأجيالًا تُمنع من ممارسة الإسلام علنًا»، وتقدّم أرقامًا تنموية بلا سياق إنساني. أما مجلة “فورين بوليسي” Foreign Policy فوصفتها بأنها “محاولة لتغطية مشروع السيطرة بثوب التنمية الاجتماعية”، معتبرة أن خطاب الحزب الشيوعي عن “التناغم الوطني” إعادة إنتاج لسياسات الاستيعاب التي مورست في التبت خلال التسعينيات، والتي استهدفت محو الهوية الدينية لأبناء الإقليم. وفي مجلة “شؤون خارجية” Foreign Affairs كتب الخبير أندرو ناثان أن “الوثيقة ليست إعلانًا عن نجاح بل عن مأزق، فهي تكشف أن الحزب لا يستطيع تحقيق الاستقرار إلا من خلال إخضاع الهويات المختلفة لا إدماجها”، مضيفًا أن بيجين “تعيد تعريف معنى الحداثة لتجعله مرادفًا للطاعة السياسية”.

ازدهار “تيك أوي”

من يرى المشهد الوردي في “الوثيقة البيضاء” عليه أن يطّلع على شهادات المنفيين الإيغور ليدرك أن هناك صورة مغايرة تمامًا جرى تصويرها بالفيديو أثناء قيام “الكومرادز” رفاق الحزب الشيوعي بتفتيش المساجد، ومنع الأسماء العربية والتركية وارتداء الحجاب، ومراقبة الناس بالكاميرات في بيوتهم ومكاتبهم. وعليه أن يطّلع على ما ذكره أحد اللاجئين في شهادة وثقتها هيومن رايتس ووتش «يُطلب منا أن نبتسم أمام الكاميرات لأن الحزب يريد أن يرى السعادة!”.

يريد الحزب الشيوعي أن يغلق ملف التعذيب بشهادات عن سعادة مصطنعة تُخفي مأساة مجتمع تعاد صياغته قسرًا باسم التنمية، غير مكترث لأن التحديث الاقتصادي بلا حرية يتحول إلى سجن واسع، مهما اتسعت الطرق والجسور وارتفعت البيوت إلى عنان السماء.

الصمت العربي يحرج الضمير

اللافت أن الوثيقة البيضاء لم تُثر نقاشًا في الإعلام العربي على مدار الشهر، باستثناء تغطيات منقولة عن وكالة “شينخوا” الحكومية. فلم تصدر أي تحليلات من مراكز أبحاث أو صحف عربية بشأنها. هذا الصمت يعكس حرجًا عربيًّا بين الحاجة إلى الاستثمارات الصينية والخشية من الاصطدام السياسي مع بيجين.

الغريب أن كثيرًا من السياسيين والمعلقين الأكاديميين والإعلاميين العرب يفضلون الحديث عن “إنجازات التنمية” في الصين، ويَعُدونها نموذجًا ناجحًا يجب استدعاؤه في بلدانهم التي “تتشابه في عاداتها الشرقية ونظام حكمها”، غير مدركين أن التنمية الحقيقية لا تُبنى بالخوف ولا تعلو بأكوام الجماجم، وأن تجاهل قضايا المسلمين في الصين أو غيرها يُضعف مصداقيتهم بل والعالم الإسلامي في الدفاع عن العدالة المفقودة من حولهم، وأنه حين تتحول التنمية إلى أداة لإخفاء الانتهاكات بحق الإنسانية يصبح الساكت عن الحق شيطانًا أخرس، وانحيازه إلى الطغاة تواطؤًا غير مباشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق