الأحد، 26 أكتوبر 2025

التطوّر الطبيعي للنمر الورديّ

 التطوّر الطبيعي للنمر الورديّ

يوسف الدموكي

بعد كلّ خُطَب رفض التهجير، والتمسّك بغلق البوابات، ووضع الأقفال ودقّ الأسوار، والمشاركة في التجويع، بكلّ الذرائع المُمكنة، في قرارات ظاهرها "رفض التهجير"، وحقيقتها "خشية المواجهة"، يطلّ علينا النمر الورديّ، الذي يملك مقوّمات القوّة مع نزوات الضعف، وشراسة الظهير مع ميوعة الطبيعة، يمهّد للتعامل "الإنساني" وتلبية الاحتياجات للمدفوعين اضطرارًا نحو رفح، بلا خطط فعلية لرفض التهجير، ولا قوّة ردع حقيقية تَحول بين حدوثه، وبلا تهديدات فعلية تهزّ أركان تل أبيب، بل إنّها تثبت ما حاولوا نفيه طويلًا، فإنها شراكة كاملة في الإبادة، من التجويع حتى التهجير، فإننا سنجوّعهم حتى لا يهجّروا، ثم سندعهم يهجّرون حتى لا نتركهم جائعين، فلمَ كان ذلك الهوان من البداية؟ ألم يكن الموقف الحقيقي قادرًا على أن يمنع كليهما؟ 

أتخيّل في عالم ورديّ، تبدو فيه النمور حقيقية، والمواقف رجولية، والشهامة غريزة فطرية، والكرامة خلقًا إنسانيًا عاديًا، لا يُترك فيه الغزيون لمصيرهم وحدهم، بل تتضافر الجهود والعقول، والبلدان والولدان، حتى يذودوا عنهم، ويستثمروا كلّ خطّة لصالحهم، ويهدّدون بألف أداةٍ ردع تمنع عنهم عدوّهم، فيعينوهم بالغذاء والماء والدواء والكساء حين يُحاصرهم العدو، ويعينوهم بالسياسة في محافلها الحقيقية بعيدًا عن أشباه القمم في أسافل القيعان، ويعينوهم بالعسكرية في التلويح بالحلول الحربية، ويعينوهم بالدعاء والمال آخر شيء، وليس كأنّهم السبيل الوحيد في أمّة المليارين، وأمّة الأربعمئة مليون!

شراكة عربية كاملة في الإبادة، من التجويع حتى التهجير

لكن ها هي غزّة اليوم، تفرغ من أهلها، يُسحَل الشمال، وتُسوى المدينة بالأرض، ويُخلى الوسط قتلًا وذبحًا وحرقًا، ويُكدّس الجنوب، ثم يدفعون جميعًا بين فكّي كماشة، بين البحر وفرعون، نحو الحدود إلى رفح، حيث لا حلّ آخر، وحيث الوقت تأخّر عن كلّ شيء، وحيث ثبتوا كما لم يثبت إنسان، وكان صبرهم صبر أولي العزم من الرسل، وجاوزوا صمود زكريا يوم نُشر بالمناشير، وأُجروا بجلَدهم رغم أنوفهم، في أيّ خندق كانوا، ليقترب ستار النهاية من الهبوط على المشهد الكامل، مدينة مُحترقة بالكامل، مُتفحّمة، وسط قوم يجلسون في عواصمهم الزجاجية، قبل أن تلحقها عاصفة لا تبقي ولا تذر.

ويظنّ هؤلاء المغيّبون، وهم يشاهدون محرقة غزّة، أنهم سيفلتون من الحريق، لا يدركون أنّ ذلك الدخان المُتصاعد، إنما يتسلّل في خلاياهم، يزرع السرطان على مهل، يدور حول رقابهم، يتخفّى وراء حدقات عيونهم، يحوّل وجوههم إلى أقنعة من مسوخ، يعبّق الجو ويكسر مفاتيح الأقفال على النوافذ، يشاهدون المُحترق صارخًا، لا يجرؤون على رفع دلو ماء واحد يهدئون به النار التي تلتهمه، ويجبنون عن إطفائه بأيّ وسيلة أخرى، ويتصوّرونه تيسًا يُشوى أمامهم كتيسهم الذي يأكلونه كلّ يوم، غير منتبهين بالمرّة إلى ذلك الشعور الغريب في حلوقهم، كأنه يستأصلها شيئًا فشيئا، أنّ ثمّة معجزة ستنجي "إبراهيم" من النار المتقدة، بينما لا شيء سينقذهم من الموت اختناقًا، يومًا بعد يوم.


يوسف الدموكي

17 سبتمبر 2025

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق