الجمعة، 24 أكتوبر 2025

لن أستطيع العيش معكم بعد الآن

لن أستطيع العيش معكم بعد الآن

حيدر الغزالي (العربي الجديد)


حيدر الغزالي 
شاعر فلسطيني من غزة

انتهت الإبادة، وعدتُ إلى البيت عاجزاً عن استعادة "حيدر" الذي كان.

إنني حيّ، يقول الناس والمارّة والمرايا، وسمّاعة الطبيب، لكنّ "حيدر" الذي أقصده، قتلته الدنيا باكراً، وكان أقلَّ حظاً من القتلى الذين لم يودّعهم أحد، فهم على الأقل وجدوا من يتأكّد أنّهم قُتلوا.

إنّ الجسد الذي ترونه ماثلاً أمامكم، بكامل أعضائه، بشحمه ولحمه، عليه الآن أن يُقيم الصداقات، ويخطّط لأحلامه، يسافر، يُحبّ، يُنشئ بيتاً، وربّما يتزوّج، وينجب الأبناء، كأنّ حرباً لن تلاحقه، ولن تعود، كأنّ الحياةَ التي سيعيشها لن تصير يوماً سكاكين في حلقه.

لا يحبّ أن يتمنى له أحد عمراً طويلاً، فذلك يعني أن يعيش مدةً أطول مع إبادة لا تنتهي أبداً في ذاكرته

 إنّ الجسد الماثل أمامكم قد خرج لتوّه من إبادة قذرة، ستُلاحق قلبه كلّما خطرت في باله كلمة: عائلة، بيت، شارع، بناية، طعام، طحين، عاشق، وداع، سرير، مشفى، ماء، سقف، حقيبة، نار، ومذياع. قد لا يحبّ أن يتمنى له أحد عمراً طويلاً، فذلك يعني أن يعيش مدةً أطول مع إبادة لا تنتهي أبداً في ذاكرته.

فكيف لا يبكي، وكيف لا يكتب طوال عمره عن الأغصان المكسورة، وأوراق الخريف؟ فكيف لا يُقيم مآتم للغيوم الراحلة، وبكاءً عند كلّ نافذة مهشّمة؟ 

أيّها الناس، إنني لن أستطيع العيش بعد الآن معكم، فقد وُلِدت بقلبٍ متشظٍ، وجراح غائرة، واضعاً قدميّ على الأرض، وشاعراً بكلّ خلية تنبض فيّ، أنا في الأصل لست لاعباً مهمّاً في حياتكم، ولا أريد سوى أن أحدّق بإمعان في كلّ ما يقبل الكتابة. إنّ كلّ خلية في جسدي تقول إنّ هذه مهمتي فحسب، إنّ كلّ تجربة حبٍّ في حياتي تقول إنني خلقت لذلك، إنّ كل ما في حياتي يقول إنّه عليّ أن أبصر جيّداً تلك الأشياء التي لا يلحظها أحد.

عليّ أن أبصر جيّداً تلك الأشياء التي لا يلحظها أحد

أيّها الناس، إنّني لن أستطيع العيش بعد الآن معكم، لم آت إلى هذه الحياة لأشارككم في شيء، سأقف دائماً خارج الأضواء والمنصّات، باحثاً عن اسم يليق بوردة على جانب الطريق، ستجدونني عند الظلال، وفي مقدّمة الحقول، أدرّب الفزاعات على الغناء، أتعلّم من نسمات الربيع كيف أعبر خفيفاً، كيف أغادر خفيفاً، وأرحل.

أيّها الناس، لو أنكم تدخلون قلبي الآن، تجعلونه كالحجارة أو أشدّ قسوة، لو أنكم تستبدلونه بقلبٍ عاديٍ على الأقل، ليس في ذاكرته جراح، ولا في شعوره ما يعرف كلمة: انكسار، لكان بمقدوري أن أبصر الحدائق ملوّنةً وزاهية، والبيوت مرتّبةً ونظيفة، والشوارع عامرةً وملأى، لكان بمقدوري أن أبصرهم من دون أن أفكّر في أيّ حرب قادمة.

وأنتِ، أيتها الغارقة في أجمل ما تورده اللغة من كلام، متى ستأتين وترتدين "حبيبتي" التي أكتبها دائماً؟ وتختمين النصوص بصوتكِ، وأنتِ تقرأينها عليّ قبل النوم. تُلملمين النقاط عن الحروف آخر الليل، فتصير شاماتٍ وقبلات، أتعرفين أنّ أجمل قصائد الحبّ التي كتبتها، التي قرأها الناس، وشاركها العشّاق على صفحاتهم، التي ترجف الآن خارج صناديق البريد المُرسل، أتعرفين أنّني أكرهها وهي تذكّرني أنّه لا حبيبة لي أكتب لها عن حزني، أنّ خلف كلّ كلمة منها رغبة لحوح في عناق لم يأتِ، أتعرفين أنّني أكره القصائد التي تُذكّرني أنّه لا حبيبة لي تعرف أنها كذلك؟

خلف كلّ كلمة منها رغبة لحوح في عناق لم يأتِ

لو أنه بمقدوري الآن أن أقول أحبّكِ، سيصير لدى قلبي أشياء يعيش من أجلها، سأحبّ حزني كثيراً، وهو يدفعني إلى صدركِ كلّ مرّة، سيصير لديّ أشياء أنسى من أجلها أنّ هناك حرباً قادمة، ونحبّ بعضنا في غرفة ليس من روّادها الحزن ولا الحروب.

إنني حيّ، يقول الناس والمارّة والمرايا، وسماعة الطبيب، لكنّ "حيدر" الذي أقصده، قتلته الدنيا باكراً، حيدر الذي أقصده، وأعرفه، لن يعيده سوى الحب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق