الأربعاء، 22 أكتوبر 2025

في بكاء من لا بواكي لهم

في بكاء من لا بواكي لهم

يوسف الدموكي

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة

على حين غرة من الدنيا، وفي هامش الحياة الواسع، المُستعد لابتلاع ثمانية مليارات إنسان من دون أن يُبالي أحد من الملايين البقية، وفي بقعةٍ مُنطفئة من العالم، غارقة في ظلمات بعضها فوق بعض، لا تكاد تضيء إلا من طلوع شمس مُثقلة بدخان الليل، أو بغارة تشعل العتمة، فتلقي بالشهود في فراغ سحيق، يقولون ليتك ما أضأت أبدًا، إنسانٌ بلا مأوى، وعائلة بلا عائل، وصغار كثر منسيون، ساقطون من الملفات الممحوّة من السجل المدنيّ عن آخرها، وأسرى في طيّ النسيان، لا أهلوهم تبقوا حتى يستعلموا عن أسمائهم، ولا المعنيّون يعلمون بوجودهم في قوائم الأسرى، ولا الاحتلال سيُعلن أنّ هؤلاء عنده، كأنهم بين ذلك الثلاثيّ في مثلث برمودا، ولا أحد سيسأل، لأنه ببساطة لا أحد سيتذكّر!

شابٌّ مقطوع من شجرة، خرج مع قوافل العزّ يوم خرج الأولاد يوم الطوفان، لا يعلمه إلا نفر قليل في سريّته، ففُقد يوم عاد بعضهم وقُتل الآخرون، ثم قُتل البقية العائدون بعدها، فلم يدرِ به أحد، لا وُضع اسمه في لوحات الشهداء، ولا كتب أحدٌ فوق كفنه "مجهول"، ولا كفن يُكرّم بدنه، ولا بدن يستحق الكفن. كلّ شيء وُلد وانتهى في الأرض ذاتها، كفرعٍ مقطوع من شجرة، استحال حطبًا. أما أخونا، فاستحال وافدًا جديدًا على أهل الفردوس، يعرفه الناس هناك، وقد مضى من الأرض لا يعلم به أحد، ولا يعبأ له أحد.

لا وُضع اسمه في لوحات الشهداء، ولا كتب أحدٌ فوق كفنه "مجهول"

شلوٌ تبقى جوار حذاء مهترئ، وساعة يد، وقنينة ماء فارغة، لا شيء آخر في المكان يدل على أحد، ولا حتى صف الأسنان المرسوم على عظام الجمجمة. لا أحد سيتعرّف إليه، لأنه ببساطة لا أحد يعرفه، سوى أمّه التي سافرت في أوّل الحرب، وشقيقته التي علقت في الشمال. لا هواتف ذكية ولا حسابات فيسبوك، ولا شيء سيتعرّفون من خلاله إلى ما تبقى من ذلك المنسيّ، لأنّ الذي التقط الصورة، وكان احتمال واحد في المليون أن يعثر عليها أحد، فُقد في طريق العودة، ويا للقدر العجيب، بالساعة ذاتها قالوا إنّ غارةً مزّقت شابين ألف قطعة، فلم يتعرّف إلى بقاياهما أحد.

وطفلةٌ، على ناصية بين التقاء شارعين "سابقاً"، على أنقاض مربّع مدمّر حديثًا، تحمل نصف صورة مُمزّقة، ونصف قلب، ونصف ذاكرة، حيث تغطي ربطة الشاش فوقها النصف الآخر من الرأس الصغيرة. تحاول أن تبقي عينيها مفتوحتين طوال الوقت، عساها تلمح قادمًا من بعيد، أو أمًّا وعدتها بأن تأتي بالمياه بعد ساعتين، أو يوم، على الأكثر. لكن لا أحد يأتي برطلي مياه في سبعة وثمانين يومًا يا أمي، ولا أحد يأتي من نقطة المساعدات بعد ثلاثة أشهر في الطابور.

وحيدة، مكانها، تحاول أن تلمح في الأفق شيئًا غير شلوٍ تبقى جوار حذاء مهترئ، وساعة يد، وقنينة ماء فارغة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق