الصليبيون الجُدد (4)
فاتن فاروق عبد المنعم
بعدسة مكبرة:
عنيت كارين بدراسة تفصيلية عميقة للشرائع السماوية الثلاث، ولكنها لم تركز في التفصيل والتفنيد سوى على الإسلام فقط وإن كانت عالمة بالمسيحية واليهودية، وهي بذلك تستبطن الإعجاب بالإسلام ولا تخفيه، لدرجة أنها إذا تحدثت عن غيره لم تسهب فيه كما تسهب في الإسلام، كأنه دوحتها المفضلة التي تستكين جوارحها فيه، ولا تخفي إعجابها به وفي كل مرة تواتيها الفرصة تنساب بقلم فياض في ذكر مسوغاتها في ذلك، كأنها تجدد العهد على البقاء في ذلك الموقف من مركز قوة، بل من عل، به ترتفع عن كل ما يناقض ما خلصت إليه بعد بحث دؤوب فإذا قادها انعطافها إلى فسطاطه استشعرت أن هذا ما يروم لها، ولا داعي لسؤالنا لماذا لم تؤمن به لأن هذا يخصها وحدها لا دخل لنا فيه، ولكني أصف حالة ولا يعنيني ما وراءها أكثر من كونها عالمة أخلصت لما بين يديها.
مؤمنون ومنافقون:
هذا ما حدث مع توسع الإسلام وانتشاره في شبه الجزيرة العربية ومن ثم مع الفتوحات فيما بعد، وقد كان للمنافقين العناية الفائقة من الرسول صلى الله عليه وسلم، في التحذير منهم وسرد أوصافهم بل القرآن نفسه خصهم بسورة من سوره لما لهم من الخطورة على الأمة، بل مصيبتنا فيهم أكثر من العدو نفسه، هم الطابور الخامس، وهم المرجفون في المدينة الذين لا يزيدون المؤمنين إلا خبالا، هم الذين يلحنون في القول ليحسبه الجهلاء من عند الله وما هو من عند الله، وهم كثر بشكل بشع في زماننا وهذا طبيعي في أوقات الضعف والنكبات، وهم الذين شقينا بهم والذين لا يتورعون عن فعل كل ما يسوؤنا، أولئك الذين يظهرون الأسلام ويبطنون غيره، وفي ذلك تقول كارين:
“ومن الاحتياطات التي اتخذها محمد، إقامة علاقات ودية مع القبائل المجاورة، فلم تكن هناك محاولة لفرض الهداية عليهم، لأن من شأن ذلك إنكار المسلمين على الآخرين حرية العقيدة التي حرموا منها هم أنفسهم في مكة، لكن المزيد والمزيد من العرب اهتدوا إلى الإسلام من تلقاء أنفسهم، لأن الدين كان جذابا للغاية، فقد كان عربيا بالأساس، ومقويا رائعا لشعور العرب المكبوت باحترام الذات، فباعتبارهم ملتقى الوحي الإلهي الختامي، أضحى العرب الآن هم شعب الله المختار الجديد، زد على ذلك أن الإسلام كان يمتلك كل جاذبيات التوحيد الخالية من تعقيدات المعاملات والعبادات التي استحدثها اليهود والمسيحيون، والتي كانت غريبة عن أسلوب الحياة العربية، لقد صار الإسلام رغبة لا تقاوم في شبه الجزيرة العربية بالرغم من أنه كان هناك أناس إلتحقوا بالإسلام لأسباب تافهة مثلما يحدث في كل الحركات الجماهيرية، فكان محمد ومعه أشد المهتدين إلتزاما خلال السنوات الأولى مشغولي البال دائما بشأن مجموعة من عرب المدينة ممن اعتنقوا الإسلام لكنهم لم يكونوا صادقين تماما، فدعاهم القرآن بالمنافقين”
ولأنها حرب دينية فلا تفتأ تذكر ما يدعو إليه القرآن وما تدعو إليه التوراة، فهذه المقارنات حاضرة لديها دوما، فالقرآن ينهانا عن الاعتداء وإنما برد الاعتداء، فيقول ربنا عز وجل في محكم التنزيل:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة
بينما إله بني إسرائيل أمرهم يهاجموا ويستأصلوا الكنعانيين القاطنين في الأراضي المقدسة، بينما أنكر المسيحيون أن العنف قابل للتبرير بحجة الدفاع عن النفس، ثم تؤطر كارين قول الإسلام في ذلك وكأن هذا ما تريد أن تبلغه في الإفهام وهو نظرة الإسلام للحرب من البداية أنها الطريقة الوحيدة لرد العدوان وهذا ما آل به المسلمون على أنفسهم حتى الآن.
ولم تنكر كارين أن نصر المسلمين على أعدائهم مقرون دائما بإخلاصهم لله، فالنصر فقط من عند الله، بينما بعض المسلمين من المثقفين الذين تربوا على الجوس في أضابير المستشرقين والمفكرين الغربيين يرون أن هذه الفكرة ضعضعها تبدل كل شيء في زماننا، فالحروب تدار من غرف مكيفة بكبسة زر ولا حاجة إلى جيوش جرارة وهو ما يضع فكرة الجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله على المحك (ولا أعرف كيف يرون كسر المقاومة لكل هذه الادعاءات فتفوق العدو لم يحمه من بطشهم)، وهو ما يجعل المؤمنون بهذا الفكر يدينون ما فعلته المقاومة في غزة وانطلاق الطوفان الذي سيدور في الأرض ليبلغ حتى الذين تدثروا بأغطيتهم في غرف نومهم وأداروا ظهورهم، وسيبلغ حتى الذين يقيمون الليل مع مومس فاضلة عبر الفضاء الأزرق مع وعد بتحقيق الشفاهي على الأرض في وقت قريب، ولكن الفرق في رد الفعل سيكون هائل بين المرابطين على الثغور وبين الساقطين بين الأفخاذ.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) الأنفال
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) الأنفال
نعم تحققت الآيات في غزة وحلت قوى الاستكبار العالمي لتدارك الأمر وهم يظنون أنهم مانعتهم حصونهم، ولما لا وهم يرون أنفسهم آلهة، ولكن الله موهن كيد الكافرين، ولأنك متابع لإعلام الرايات الحمر الذي لن يذكر حقيقة الهزيمة المروعة التي لحقت بالكيان ولا حجم هزائمه ولا خسارته البشرية الحقيقية والذي يقف من خلفه قوى الاستكبار العالمي التي أسقطت على غزة ما يعادل ثلاثة عشر قنبلة نووية دون وجل، لأنهم مسلمون دمائهم مستباحة، ثم ينثرون الثرى في العيون كي تعمى الأبصار كما البصيرة بديباجة هزيلة في مؤتمر ممزوجة بعبارات الغزل للحسناء الإيطالية بينما خططهم تنفذ دون قيد أو شرط، وكل بند في الوثيقة يحمل في طياته مسوغات نقضه ليكون الذبح والتنكيل على الجرار، إنها حربهم المقدسة.
الآيات آنفة الذكر نزلت في غزوة بدر فتثبت المؤمنون بموعود الله لهم بالنصر، لأن الله أمدهم بمدد من عنده عندما تحقق الإخلاص لله وهنا تستنكر كارين هذا الظن، ثم قالت أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة اعتبرها المسلمين بداية متحققة لسلسلة الفتوح والجهاد وهذا على عكس مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هرب من اضطهاد أساطين الكفر في مكة.
نلتمس لها العذر كمسيحية لا تعتقد ما نعتقده من جوهر الإيمان ومعنى الجهاد في سبيل الله ومقتضياته ومسوغاته.
أما هجرة المسلمين من مكة للمدينة فهي بداية لتكوين دولة الإسلام التي انطلق منها المسلمون لفتح البلاد.
عن شيوع فكرة انتشار الإسلام بالسيف تقول:
“غير أن ذلك لم يجعل من الإسلام دين السيف كما يشاع، فكلمة إسلام مشتقة من الجذر العربي ذاته لكلمة سلام كما أن القرآن يدين الحرب باعتبارها حالة شاذة مخالفة لإرادة الله كما في محكم التنزيل:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) المائدة
فالإسلام لا يبرر شن حربا عدوانية شاملة بعكس التوراة التي تبرر مثل هذه الحرب في أسفارها الخمسة الأولى على الأقل، والإسلام دين أكثر واقعية من المسيحية لأنه يعترف بأن الحرب حتمية وتكون أحيانا واجبا أكيدا لوضع حد للقهر والمعاناة، ويعلمنا القرآن أن الحرب يجب أن تكون محدودة، وتخاض بأكبر قدر من الرحمة والإنسانية، لقد اضطر محمد مقاتلة المكيين والقبائل اليهودية في المنطقة، وكذلك القبائل المسيحية في بلاد الشام التي كانت تعتزم مهاجمته بالتحالف مع اليهود، ومع ذلك فما كان هذا يجعل محمدا يشجب أهل الكتاب، لقد أجبر المسلمون على الدفاع عن أنفسهم، لكنهم لم يخوضوا حربا مقدسة ضد دين أعدائهم وعندما أرسل محمدا معتوقه زيد ضد المسيحين على رأس جيش مسلم بأن يقاتل في سبيل الله برحمة، فعليهم ألا يتحرشوا بالكهنة والرهبان والراهبات، وألا يزعجوا الضعفاء وذوي العاهات العاجزين عن القتال، كذلك يتوجب عليهم ألا يقاتلوا المدنيين، وألا يقطعوا شجرة أو يهدموا بيتا، فكانت هذه الحرب مختلفة تماما عن حروب يشوع”
لماذا يستغرب أو يتجاهل ذوي القلوب التي في أكنة سلوك رجال المقاومة مع أسراهم وماذا يقول الذين كسرهم تقدم العدو الهائل ويصيخون السمع للعبوس يابس الوجه بلطجي الكباريه ترامب، رجال المقاومة ينفذون التعاليم التي استقوها من لدن حكيم خبير وفي المقابل عدونا الذي إذا تمكن منا لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة يقطعون أجساد الأسرى ويأخذون أعضائهم ويرتكبون أبشع الجرائم، بل وينقضون العهود والمواثيق التي وقعوا عليها إنها حروبهم المقدسة.
وللحديث بقية إن شاء الله


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق