العلماء والدعاة في مرمى القصف
لعل واحداً من أبرز ما يميز هذه المرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية هي أنها تمثل تجسيداً لحالة الفرز المبدئية لكثير من الشخصيات العامة وقادة الرأي من جميع الاتجاهات، وفي القلب منهم حملة الدعوة من العلماء والدعاة والمصلحين.
كثير من الشعوب تتعرض لهذا التمحيص الذي يميز الله به الخبيث من الطيب، وفي الصدارة قبلهم يقف منسوبو العلم.. دعاة الحق، أو مدعو العلم والدعوة أمام مرآة الحقيقة، وفي مختبر الفتنة الذي يظهر المعادن الحقيقية للرجال، حيث تبدي محطات الأحداث من يقف على الجادة ممن يفارق عمله قوله.
ومما لاشك فيه، أن المنطقة العربية قد صارت اليوم مضطربة، تعج بالأحداث، الواضحة أحياناً، والغامضة في كثير منها، ما تحتاج إلى رسوخ علم، وثبات قلب، وبرد يقين، وفراسة مؤمن، ووعي حاذق أريب.. معارك عسكرية، وتراشقات فكرية، وتجاذبات سياسية، وفي خضم هذا كله تزداد الضغوط على أهل الشريعة، علماء الأمة، ودعاتها، ومفكريها..
يسعى كل طرف لجذبهم إليه، تزداد الضغوط من أنظمة، ومن طلاب علم، ومن شعوب.. الجميع يريد أن يسمع "لحناً يطربه"، والله قد أخذ الميثاق على العلماء ألا يكتموا حقاً ولا يجاملوا فيه أحداً، ولا يعتسفوا نصاً أو يجيروه لصالح هذا أو ذاك..
وفوق هذا كله، يبدو العالم الغربي كما لو كان قد ضاق بكلمة الحق أن ينطق بها وينشرها هذا العالم أو ذاك الداعية؛ فبدأ يستهدفهم إما بشكل مباشر، أو يغري بهم إعلاماً وساسة، حتى غدا العلماء في كثير من بلداننا العربية محل نقد إن تكلموا أو صمتوا، رغبة في تحميلهم مغبة كل خطأ يقع هنا أو هناك.. وصاروا بالنهاية هدفاً يسيراً لكل حابل ونابل!
الخطير في الأمر، أننا قد بتنا نباشر مرحلة ينتقص فيه من قدر العلماء، ويسخر من دورهم، ويراد له عالمياً أن يتقلص، وأن ينزوي في ركن بعيد لا يتفاعل مع الحياة، ولا مع أحداثها الكبرى، وأن يُذهب بالعالم والداعية بعيداً عن استقلاليته المرجوة، وأن يكتم كلمة الحق أو ينطق باطلاً، برغم كونهم مأمورين بأن يكونوا دوماً في صدارة المشهد، وفي قلب الحدث، وألا يدعوا الناس تتيه في ظلامات الفتن، مصداقاً لقول الله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )..
والعالم والداعية هذه الأيام، كأنه سائر على حبل مشدود، في اختيار دقة كلماته ومواقفه وسط جو مائج بالمتربصين، وهو إن سار هكذا لا يسلم من أذى، فيراه الخصوم قد تجاوز حدوده فيعمدون إلى تغييبه بأي صورة كانت..
يقول العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله": ليس كل عالم يكون ثقة، فالعلماء ثلاثة: علماء ملة، وعلماء دولة، وعلماء أمة.
أما علماء الملة - جعلنا الله وإياكم منهم - فهؤلاء يأخذون بملة الإسلام وبحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يبالون بأحد كائناً من كان.
وأما علماء الدولة فينظرون ماذا يريد الحاكم، يصدرون الأحكام على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناق النصوص من الكتاب والسنة حتى تتفق مع هوى هذا الحاكم، وهؤلاء علماء دولة خاسرون، وأما علماء الأمة فهم الذين ينظرون إلى اتجاه الناس، هل يتجه الناس إلى تحليل هذا الشيء فيحلونه، أو إلى تحريمه فيحرمونه، ويحاولون أيضاً أن يلووا أعناق النصوص إلى ما يوافق هوى الناس."
وهذا الذي سماه ابن عثيمين رحمه الله "علماء الملة"، وكذلك دعاتها أيضاً، أصحاب الميثاق الذين لا يشترون ثمن الدنيا، حطامها الرخيص.. ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )..
هؤلاء هم مقصد هدف المتربصين لأن يغيبوا عن المشهد؛ فهم وحدهم من تخشاهم دوائر الغرب وأتباعه في بلاد المسلمين، وهم الذين صاروا هدفاً للقصف الإعلامي، والإقصاء الوظيفي، والدعوي، وهم السائرون على هذا الحبل المشدود في حياة صارت تعج بالفتن والأحابيل.. الله حفيظهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق