الحرية مقابل الاستقرار: هل الطغاة أسوأ من الفوضى؟ (1/2)
بقلم: كريستيان هوفمان /مجلة "دير شبيغل" الألمانية
(الترجمة خدمة العصر)
رغم أن هناك دائما سببا للاحتفال بإسقاط مستبد، فإن نتائج حرب العراق وصعود تنظيم الدولة الإسلامية أثبتت، وبشكل مروع، أن البديل يمكن أن يكون أسوأ من ذلك.
في منتصف أبريل 2003، نشرت الكاتب الألماني، هانز ماغنوس إنزنسبارغر، مقالا في صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج"، احتفى فيه بسقوط صدام حسين. وكتب من أعماق فرحته بنهاية الديكتاتورية الوحشية في العراق. وكانت المقالة أيضا مثار سخرية واستهزاء المتشككين الذين حذروا من غزو الرئيس الأمريكي جورج بوش للعراق.
قبل اندلاع الحرب، زرت شمال العراق، بما في ذلك بلدة حلبجة، حيث قتل صدام الآلاف من الأكراد العراقيين بالغاز السام في 1988.
قتل الغاز الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع وكذا النساء وهن في طريقهن إلى السوق. التقيت مع الناجين الذين كانوا يموتون ببطء خلال 15 سنة منذ الهجوم. أكثر من أي مدينة أخرى، حلبجة هي رمز لجرائم صدام التي ارتكبت ضد شعبه. ورغم أنني لم أكن موافقا على العراق، أوضحت لي زيارتي أن الإطاحة بالدكتاتور هي مدعاة للفرح.
ولكن في النهاية، ثبت صواب موقف المتشككين. في عام 2003، اعتقد الكاتب "إنزنسبارغر" بأن التوقعات التي أشارت إلى أن ما يصل إلى 200 ألف شخص سوف يموتون في العراق نتيجة للغزو، كانت عبثية إلى حد كبير، غير أن أشارت دراسات جادة إلى أن هذا العدد قد تم تجاوزه بشكل كبير منذ سقوط صدام، وانحدر العراق والمنطقة بأسرها إلى حالة من الفوضى والانهيار، بما مهد الطريق للتطرف الذي يرعاه تنظيم الدولة الإسلامية.
هناك أسباب عديدة للشعور بالفرح بحلول نهاية دكتاتورية. أولا، فهذا يعني أن المجرم ما عاد في موقع القوة. وثانيا، هناك احتمال أن الديمقراطية يمكن أن تحكم بدلا عنه. كما إن بعض الناس يعتقدون أيضا أن أي شيء هو أفضل من الاستبداد. ولكن الاعتقاد الأخير غير صحيح.
* ما هو دور الدولة؟
أظهر العقد الماضي أن هناك شيئا أسوأ من الديكتاتورية، أسوأ من غياب الحرية وأسوأ من القمع: الحرب الأهلية والفوضى. و"الدول الفاشلة" التي تمتد حاليا من باكستان إلى مالي تبين أن البديل عن الديكتاتورية ليس بالضرورة ديمقراطية، وإنما هي الفوضى في كثير من الأحيان.
في السنوات القادمة، لن تُعرف السياسة الدولية من خلال الاستقطاب بين الدول الديمقراطية والاستبدادية بقدر ما يحددها التناقض بين التي تؤدي وظائفها والعاجزة.
الحكم هو النظام. وبالنسبة لتوماس هوبز، أب العلوم السياسية الحديثة، وكانت الوظيفة الجوهرية للدولة هي فرض النظام القانوني من أجل إخضاع "حالة الطبيعة". وفي "الطاغوت"، الذي كتب في القرن السابع عشر في ظل الحرب الأهلية الإنجليزية، قال هوبز إن احتكار الدولة للعنف كان شرعياً عندما يستخدم لحماية أرواح وممتلكات المواطنين والدولة. وعندما تصبح الدولة غير قادرة على ضمان النظام، يبدأ خطر "نشوب الحرب بين كل إنسان ضد كل إنسان" يلوح في الأفق.
وفي مقاله الـ 1525، تحت عنوان: "ضد القاتل، سرقة جحافل الفلاحين"، دافع بشدة مارتن لوثر عن الحكم بشدة لوضع حد لحرب الفلاحين الألمان. وكان لوثر متعاطفاً إلى حد كبير مع شكاوى الفلاحين، لكنه عارض العنف والفوضى المستشريين في تمردهم. وكتب لوثر، أنه يجب التعامل مع المتمردين "تماما كما يجب على المرء أن يقتل كلباً مسعوراً".
وشهدت ألمانيا فترة طويلة أخرى من الفوضى منذ نحو 400 عام خلال حرب الثلاثين عاماً. وخلال فترة طويلة من السلام والاستقرار الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، أصبحنا في الغرب ننظر إلى الاستمرارية السياسية كمعيار.
وخلال عقود من الحرب الباردة، لم يأت التهديد إلى أوروبا الغربية من الدول الضعيفة وزعماء الميليشيات والمنظمات الإرهابية، ولكن من الشيوعية. وقد تميزت الحقبة من المواجهة بين الديمقراطية الغربية والدكتاتورية الاشتراكية، بالإيمان بأن ما هو عكس الدكتاتورية، هو الديمقراطية.
وأكدت الثورات السلمية في أوروبا الشرقية في التسعينيات هذا الرأي. في تلك البلدان، أدى انهيار الدكتاتوريات الاشتراكية إلى الفوضى، ولكن أيضاً إلى تركيب نظام جديد وديمقراطي. وخلق هذا الوهم بأن إزالة العقبات أمام الديمقراطية ستجعل ظهور الديمقراطية أمراً تلقائياً تقريباً.
* المثال الروسي:
ولكن في روسيا فشل الانتقال من النظام السوفياتي إلى الديمقراطية. بعد نهاية الاشتراكية، كان الروس إلى حد ما قادرين على التصويت في انتخابات ديمقراطية، وتمت خصخصة الاقتصاد. إلا أن سيادة القانون لم تترسخ. وبدلاً من ذلك، اكتسب اتباع الأهواء والفساد اليد العليا. واحتكرت السلطة من قبل الأقوياء. وبدأ الشيشان يقاتلون من أجل الاستقلال، وبدأت الدولة في التفكك.
وهذا ما كان الوضع عليه عندما قام بوريس يلتسين بتسمية فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في عام 1999. بالنسبة ليلتسين، ظهر بوتين، وهو رئيس الاستخبارات الداخلية، على أنه الشخص الوحيد القادر على الحفاظ على تماسك البلاد. وكانت مهمة بوتين عندما تولى الرئاسة الروسية بعد ذلك بوقت قصير إرجاع الدولة المتداعية إلى القدرة على القيام بوظائفها.
وفي يوغوسلافيا، أصبح فيما بعد واضحاً أيضاً أن إسقاط الطغاة أسهل بكثير من إقامة الديمقراطيات. وعلى الرغم من أن بضعة أسابيع من القصف كانت كافية عموماً لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، مثل تلك التي أدارها ميلوسيفيتش، صدام، القذافي، أو الملا عمر، إلا أنه، وحتى في أوروبا، وفي المناطق الصغيرة نسبياً، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو، استغرق الأمر سنوات لإقامة دول نصف مستقرة مع حكومات ديمقراطية بشكل معقول.
وكان الجهد لفعل هذا هائلاً، سواءً من حيث المال أو العمل. لسنوات، كانت السيطرة في البوسنة إلى حد كبير في يد الممثل السامي في البوسنة والهرسك، وهو المكتب الذي أنشئ بموجب اتفاق دايتون للسلام. بينما في كوسوفو، أدارت الأمم المتحدة البلاد.
* أهمية الاستقرار:
وكل هذا يثير السؤال التالي: هل الاستقرار قيمة في حد ذاته؟
غالباً ما ينظر إلى أولئك الذين يقومون بالإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب على أنهم لا يمنحون أهمية كبيرة للحرية وحقوق الإنسان. ولكن الحقيقة غير المريحة هي أن الديكتاتورية في كثير من الأحيان أفضل من الفوضى. ولو أعطي الناس حق الاختيار بين دكتاتورية تعمل وبين دولة فاشلة، فهم في كثير من الأحيان سوف ينظرون إلى الدكتاتورية باعتبارها أهون الشرين. ومعظم الناس يعتقدون بأن معيشة آمنة وقدر ما من العدالة، هي أكثر أهمية من الحريات الفردية والديمقراطية المشكوك بها.
عندما أسأل أصدقائي الإيرانيين لماذا لم يتمردوا على النظام الإسلامي الذي يكرهونه، يقولون إنهم لا يريدون ثورة لأنها قد تفاقم الوضع. وهم يعرفون تماماً ما الذي يتحدثون عنه، الثورة الأخيرة في إيران حدثت منذ 35 عاماً فقط.
عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى التوق للنظام، وأحياناً بأي ثمن. وغالباً ما يمهد الطريق للمتطرفين. كان ذلك صحيحاً في ألمانيا في نهاية جمهورية فايمار. وفي روسيا، حيث تلت الستالينية الثورة والحرب الأهلية. وفي أفغانستان، حيث دفعت فترة من الاضطرابات بعد الانسحاب السوفيتي إلى صعود حركة طالبان. والآن الدولة الإسلامية قد ظهرت في العراق وسوريا.
وهذا هو السبب في أن رقعة عدم الاستقرار السياسي التي تمتد من باكستان إلى مالي مربكة للغاية. في العراق وسوريا واليمن وليبيا، فقدت الحكومة المركزية سيطرتها على أجزاء واسعة من أراضيها، وأصبحت بلدان بأكملها غير قابلة للحكم. القبائل والعشائر تتقاتل مع بعضها البعض، في حين يسيطر أمراء الحرب على السلطة الإقليمية، على الأقل حتى يفقدوها مرة أخرى.
فشل "دمقرطة" العراق، وعدم نجاح "الربيع العربي" في سوريا، أسهما في صعود "الدولة الإسلامية". في أي من هاتين الدولتين لا يوجد فرصة واقعية حالياً لنجاح الديمقراطية. أفضل حل لسوريا ربما يكون انقلاب عسكري ضد الأسد، فهو سيخلص البلاد من الدكتاتور، في حين يترك مركز السلطة الأخير في البلاد، والجيش السوري، سليمين وقادرين على مقاومة “الدولة الإسلامية”.
* غير جذاب ولكنه صائب:
هذا النوع من الحجة ليس جذاباً، حيث إن له، كما هو الحال، رائحة السياسة الواقعية الباردة. وهو اعتراف بعجز الغرب، وبمحدودية قدرته على تصدير قيمه ونمط حياته. وهو يبدو وكأنه استغناء عن المثل العليا. وهو أيضاً كثيراً ما يستخدم كحجة لتبرير التعامل مع الحكام المستبدين، وأسوأ من ذلك، يوفر للطغاة مبرراً لسياساتهم القمعية.
ولكن هذا لا يجعلها حجة خاطئة. هناك عدد متزايد من الدول الفاشلة في العالم. ووفقاً لمؤشر الدول الهشة من قبل صندوق السلام، ازداد عدد الدول الحائزة على تصنيف "حالة تأهب عالية جدا" أو "حالة تأهب قصوى" من 9 إلى 16 منذ 2006. وعلى النقيض من ذلك، لم يحرز انتشار الديمقراطية والحرية أي تقدم تقريباً. ووفقاً لبيت الحرية، وبعد حدوث زيادة كبيرة في عدد الدول الحرة في بداية التسعينيات، لم يكن هناك تغيير يذكر منذ عام 1998.
يمكن للديمقراطية أن تعمل، فقط، في بيئة يوجد فيها على الأقل حد أدنى من الاستقرار. ولا يمكن للديمقراطية بالضرورة تأسيس هذا الاستقرار بنفسها. في العراق ومصر، فشلت تلك العملية، على الأقل في الوقت الراهن.
دون عملية التعلم الثقافية، مثل تلك التي مرت بها أوروبا على مر القرون، إسقاط دكتاتور وإجراء انتخابات ليست كافية لإقامة الديمقراطية. وعلى هذا النحو، ينبغي أن يثمن الغرب الدول القادرة على أداء وظائفها بدرجة أكبر في المستقبل.
وحتى في الوقت الذي يتوق فيه الغرب لرؤية رحيل المستبدين في روسيا والصين وآسيا الوسطى وغيرها، يجب أن تدرس البدائل بجدية.
وفي الواقع، هذه هي بالضبط حجة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، المستخدمة مؤخراً لتبرير تحفظه بشأن استخدام القوة: "هذا هو الدرس الذي أطبقه في كل مرة نطرح فيها هذا السؤال: هل ينبغي علينا التدخل عسكرياً؟ هل لدينا إجابة لليوم التالي؟
ملاحظة: سننشر ردا على هذا المقال من كاتب ألماني نشرته المجلة نفسها
رغم أن هناك دائما سببا للاحتفال بإسقاط مستبد، فإن نتائج حرب العراق وصعود تنظيم الدولة الإسلامية أثبتت، وبشكل مروع، أن البديل يمكن أن يكون أسوأ من ذلك.
في منتصف أبريل 2003، نشرت الكاتب الألماني، هانز ماغنوس إنزنسبارغر، مقالا في صحيفة "فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج"، احتفى فيه بسقوط صدام حسين. وكتب من أعماق فرحته بنهاية الديكتاتورية الوحشية في العراق. وكانت المقالة أيضا مثار سخرية واستهزاء المتشككين الذين حذروا من غزو الرئيس الأمريكي جورج بوش للعراق.
قبل اندلاع الحرب، زرت شمال العراق، بما في ذلك بلدة حلبجة، حيث قتل صدام الآلاف من الأكراد العراقيين بالغاز السام في 1988.
قتل الغاز الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع وكذا النساء وهن في طريقهن إلى السوق. التقيت مع الناجين الذين كانوا يموتون ببطء خلال 15 سنة منذ الهجوم. أكثر من أي مدينة أخرى، حلبجة هي رمز لجرائم صدام التي ارتكبت ضد شعبه. ورغم أنني لم أكن موافقا على العراق، أوضحت لي زيارتي أن الإطاحة بالدكتاتور هي مدعاة للفرح.
ولكن في النهاية، ثبت صواب موقف المتشككين. في عام 2003، اعتقد الكاتب "إنزنسبارغر" بأن التوقعات التي أشارت إلى أن ما يصل إلى 200 ألف شخص سوف يموتون في العراق نتيجة للغزو، كانت عبثية إلى حد كبير، غير أن أشارت دراسات جادة إلى أن هذا العدد قد تم تجاوزه بشكل كبير منذ سقوط صدام، وانحدر العراق والمنطقة بأسرها إلى حالة من الفوضى والانهيار، بما مهد الطريق للتطرف الذي يرعاه تنظيم الدولة الإسلامية.
هناك أسباب عديدة للشعور بالفرح بحلول نهاية دكتاتورية. أولا، فهذا يعني أن المجرم ما عاد في موقع القوة. وثانيا، هناك احتمال أن الديمقراطية يمكن أن تحكم بدلا عنه. كما إن بعض الناس يعتقدون أيضا أن أي شيء هو أفضل من الاستبداد. ولكن الاعتقاد الأخير غير صحيح.
* ما هو دور الدولة؟
أظهر العقد الماضي أن هناك شيئا أسوأ من الديكتاتورية، أسوأ من غياب الحرية وأسوأ من القمع: الحرب الأهلية والفوضى. و"الدول الفاشلة" التي تمتد حاليا من باكستان إلى مالي تبين أن البديل عن الديكتاتورية ليس بالضرورة ديمقراطية، وإنما هي الفوضى في كثير من الأحيان.
في السنوات القادمة، لن تُعرف السياسة الدولية من خلال الاستقطاب بين الدول الديمقراطية والاستبدادية بقدر ما يحددها التناقض بين التي تؤدي وظائفها والعاجزة.
الحكم هو النظام. وبالنسبة لتوماس هوبز، أب العلوم السياسية الحديثة، وكانت الوظيفة الجوهرية للدولة هي فرض النظام القانوني من أجل إخضاع "حالة الطبيعة". وفي "الطاغوت"، الذي كتب في القرن السابع عشر في ظل الحرب الأهلية الإنجليزية، قال هوبز إن احتكار الدولة للعنف كان شرعياً عندما يستخدم لحماية أرواح وممتلكات المواطنين والدولة. وعندما تصبح الدولة غير قادرة على ضمان النظام، يبدأ خطر "نشوب الحرب بين كل إنسان ضد كل إنسان" يلوح في الأفق.
وفي مقاله الـ 1525، تحت عنوان: "ضد القاتل، سرقة جحافل الفلاحين"، دافع بشدة مارتن لوثر عن الحكم بشدة لوضع حد لحرب الفلاحين الألمان. وكان لوثر متعاطفاً إلى حد كبير مع شكاوى الفلاحين، لكنه عارض العنف والفوضى المستشريين في تمردهم. وكتب لوثر، أنه يجب التعامل مع المتمردين "تماما كما يجب على المرء أن يقتل كلباً مسعوراً".
وشهدت ألمانيا فترة طويلة أخرى من الفوضى منذ نحو 400 عام خلال حرب الثلاثين عاماً. وخلال فترة طويلة من السلام والاستقرار الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، أصبحنا في الغرب ننظر إلى الاستمرارية السياسية كمعيار.
وخلال عقود من الحرب الباردة، لم يأت التهديد إلى أوروبا الغربية من الدول الضعيفة وزعماء الميليشيات والمنظمات الإرهابية، ولكن من الشيوعية. وقد تميزت الحقبة من المواجهة بين الديمقراطية الغربية والدكتاتورية الاشتراكية، بالإيمان بأن ما هو عكس الدكتاتورية، هو الديمقراطية.
وأكدت الثورات السلمية في أوروبا الشرقية في التسعينيات هذا الرأي. في تلك البلدان، أدى انهيار الدكتاتوريات الاشتراكية إلى الفوضى، ولكن أيضاً إلى تركيب نظام جديد وديمقراطي. وخلق هذا الوهم بأن إزالة العقبات أمام الديمقراطية ستجعل ظهور الديمقراطية أمراً تلقائياً تقريباً.
* المثال الروسي:
ولكن في روسيا فشل الانتقال من النظام السوفياتي إلى الديمقراطية. بعد نهاية الاشتراكية، كان الروس إلى حد ما قادرين على التصويت في انتخابات ديمقراطية، وتمت خصخصة الاقتصاد. إلا أن سيادة القانون لم تترسخ. وبدلاً من ذلك، اكتسب اتباع الأهواء والفساد اليد العليا. واحتكرت السلطة من قبل الأقوياء. وبدأ الشيشان يقاتلون من أجل الاستقلال، وبدأت الدولة في التفكك.
وهذا ما كان الوضع عليه عندما قام بوريس يلتسين بتسمية فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في عام 1999. بالنسبة ليلتسين، ظهر بوتين، وهو رئيس الاستخبارات الداخلية، على أنه الشخص الوحيد القادر على الحفاظ على تماسك البلاد. وكانت مهمة بوتين عندما تولى الرئاسة الروسية بعد ذلك بوقت قصير إرجاع الدولة المتداعية إلى القدرة على القيام بوظائفها.
وفي يوغوسلافيا، أصبح فيما بعد واضحاً أيضاً أن إسقاط الطغاة أسهل بكثير من إقامة الديمقراطيات. وعلى الرغم من أن بضعة أسابيع من القصف كانت كافية عموماً لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، مثل تلك التي أدارها ميلوسيفيتش، صدام، القذافي، أو الملا عمر، إلا أنه، وحتى في أوروبا، وفي المناطق الصغيرة نسبياً، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفو، استغرق الأمر سنوات لإقامة دول نصف مستقرة مع حكومات ديمقراطية بشكل معقول.
وكان الجهد لفعل هذا هائلاً، سواءً من حيث المال أو العمل. لسنوات، كانت السيطرة في البوسنة إلى حد كبير في يد الممثل السامي في البوسنة والهرسك، وهو المكتب الذي أنشئ بموجب اتفاق دايتون للسلام. بينما في كوسوفو، أدارت الأمم المتحدة البلاد.
* أهمية الاستقرار:
وكل هذا يثير السؤال التالي: هل الاستقرار قيمة في حد ذاته؟
غالباً ما ينظر إلى أولئك الذين يقومون بالإجابة على هذا التساؤل بالإيجاب على أنهم لا يمنحون أهمية كبيرة للحرية وحقوق الإنسان. ولكن الحقيقة غير المريحة هي أن الديكتاتورية في كثير من الأحيان أفضل من الفوضى. ولو أعطي الناس حق الاختيار بين دكتاتورية تعمل وبين دولة فاشلة، فهم في كثير من الأحيان سوف ينظرون إلى الدكتاتورية باعتبارها أهون الشرين. ومعظم الناس يعتقدون بأن معيشة آمنة وقدر ما من العدالة، هي أكثر أهمية من الحريات الفردية والديمقراطية المشكوك بها.
عندما أسأل أصدقائي الإيرانيين لماذا لم يتمردوا على النظام الإسلامي الذي يكرهونه، يقولون إنهم لا يريدون ثورة لأنها قد تفاقم الوضع. وهم يعرفون تماماً ما الذي يتحدثون عنه، الثورة الأخيرة في إيران حدثت منذ 35 عاماً فقط.
عدم الاستقرار السياسي يؤدي إلى التوق للنظام، وأحياناً بأي ثمن. وغالباً ما يمهد الطريق للمتطرفين. كان ذلك صحيحاً في ألمانيا في نهاية جمهورية فايمار. وفي روسيا، حيث تلت الستالينية الثورة والحرب الأهلية. وفي أفغانستان، حيث دفعت فترة من الاضطرابات بعد الانسحاب السوفيتي إلى صعود حركة طالبان. والآن الدولة الإسلامية قد ظهرت في العراق وسوريا.
وهذا هو السبب في أن رقعة عدم الاستقرار السياسي التي تمتد من باكستان إلى مالي مربكة للغاية. في العراق وسوريا واليمن وليبيا، فقدت الحكومة المركزية سيطرتها على أجزاء واسعة من أراضيها، وأصبحت بلدان بأكملها غير قابلة للحكم. القبائل والعشائر تتقاتل مع بعضها البعض، في حين يسيطر أمراء الحرب على السلطة الإقليمية، على الأقل حتى يفقدوها مرة أخرى.
فشل "دمقرطة" العراق، وعدم نجاح "الربيع العربي" في سوريا، أسهما في صعود "الدولة الإسلامية". في أي من هاتين الدولتين لا يوجد فرصة واقعية حالياً لنجاح الديمقراطية. أفضل حل لسوريا ربما يكون انقلاب عسكري ضد الأسد، فهو سيخلص البلاد من الدكتاتور، في حين يترك مركز السلطة الأخير في البلاد، والجيش السوري، سليمين وقادرين على مقاومة “الدولة الإسلامية”.
* غير جذاب ولكنه صائب:
هذا النوع من الحجة ليس جذاباً، حيث إن له، كما هو الحال، رائحة السياسة الواقعية الباردة. وهو اعتراف بعجز الغرب، وبمحدودية قدرته على تصدير قيمه ونمط حياته. وهو يبدو وكأنه استغناء عن المثل العليا. وهو أيضاً كثيراً ما يستخدم كحجة لتبرير التعامل مع الحكام المستبدين، وأسوأ من ذلك، يوفر للطغاة مبرراً لسياساتهم القمعية.
ولكن هذا لا يجعلها حجة خاطئة. هناك عدد متزايد من الدول الفاشلة في العالم. ووفقاً لمؤشر الدول الهشة من قبل صندوق السلام، ازداد عدد الدول الحائزة على تصنيف "حالة تأهب عالية جدا" أو "حالة تأهب قصوى" من 9 إلى 16 منذ 2006. وعلى النقيض من ذلك، لم يحرز انتشار الديمقراطية والحرية أي تقدم تقريباً. ووفقاً لبيت الحرية، وبعد حدوث زيادة كبيرة في عدد الدول الحرة في بداية التسعينيات، لم يكن هناك تغيير يذكر منذ عام 1998.
يمكن للديمقراطية أن تعمل، فقط، في بيئة يوجد فيها على الأقل حد أدنى من الاستقرار. ولا يمكن للديمقراطية بالضرورة تأسيس هذا الاستقرار بنفسها. في العراق ومصر، فشلت تلك العملية، على الأقل في الوقت الراهن.
دون عملية التعلم الثقافية، مثل تلك التي مرت بها أوروبا على مر القرون، إسقاط دكتاتور وإجراء انتخابات ليست كافية لإقامة الديمقراطية. وعلى هذا النحو، ينبغي أن يثمن الغرب الدول القادرة على أداء وظائفها بدرجة أكبر في المستقبل.
وحتى في الوقت الذي يتوق فيه الغرب لرؤية رحيل المستبدين في روسيا والصين وآسيا الوسطى وغيرها، يجب أن تدرس البدائل بجدية.
وفي الواقع، هذه هي بالضبط حجة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، المستخدمة مؤخراً لتبرير تحفظه بشأن استخدام القوة: "هذا هو الدرس الذي أطبقه في كل مرة نطرح فيها هذا السؤال: هل ينبغي علينا التدخل عسكرياً؟ هل لدينا إجابة لليوم التالي؟
ملاحظة: سننشر ردا على هذا المقال من كاتب ألماني نشرته المجلة نفسها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق