الخميس، 8 يناير 2015

الموريسكيون المصريون

الموريسكيون المصريون

محمد إلهامي


صباح يوم من أيام عام 1986م، فوجئت العجوز الإسبانية بأن ابنها أنطونيو – الأستاذ الجامعي- يعلم أخاه القيام بحركات غريبة، فسألته: كيف يدرسك أخوك أنطونيو هذه الأشياء؟ وما معنى ذلك؟

فأجابها الابن: تلك هي الصلاة في الإسلام وطريقة العبادات والتقرب إلى الله. وصار يفسر لها معاني كل حركة في الصلاة. وليس إلا قليلاً حتى سالت دموع العجوز وتذكرت موقفًا قديمًا، وقالت إنها حين كانت صغيرة هنا -في هذا المكان نفسه- كانت تدخل مع جدِّها إلى غرفة نومه، وكان تراه عدة مرات يستيقظ في الصباح الباكر ويقوم بالشيء نفسه: يتوضأ ويؤدي نفس الحركات ثم يأخذ غطاءً نظيفًا ويقف جهة القبلة ثم يصلي، وهي صغيرة كانت تنظر إليه من تحت الغطاء، لكنه لم يحدثها عن معنى ذلك.

انتهت القصة، أما معنى ذلك:
فهو أن الإسلام استمر في الأندلس خمسة قرون رغم أشرس حملة تعقب ومطاردة ومحاكم تفتيش جهنمية، ووسائل تعذيب هي الأكثر وحشية في تاريخ البشر، وأن من الأندلسيين من استطاع أن يورث الإسلام لذريته بلا انقطاع في كل هذه الأهوال!

لقد استمرت محاكم التفتيش حتى بداية القرن العشرين!! ولئن نجح السيف في استئصال الإسلام من الحياة العامة، فلقد عجز أمام هذا الإيمان العميق حتى استطاع بقايا الأندلسيين اليوم أن يصرحوا بأنهم مسلمون بعد خمسة قرون!!

قصة الموريسكيين واحدة من أبشع قصص الألم الإنساني في التاريخ، إلى جوار قصص الطرد والإبادة للمسلمين في القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى، إلى جوار قصص العبودية في أفريقيا، والسكان الأصليين للأمريكتين، وفيما عدا هذه الأخيرة – وإلى حد ما كذلك- فإن الضحايا جميعًا من المسلمين، ولكننا نجهل تاريخنا وتنسينا المآسي بعضها بعضًا من كثرتها وانهمارها!
لقد تحيرت وأنا أستعد لكتابة هذه السطور: هل أجعلها حديثًا عن الصمود الأسطوري للموريسكيين، وأنقل بعض القصص المذهلة التي سجلتها وثائق محاكم التفتيش، فأستكمل بهذا سلسلة الأندلس التي بدأتها في هذا المكان – أم الأفضل أن أجعلها حديثًا عن مصيرنا نحن تحت هذا الانقلاب العسكري العلماني الصليبي والذي لا يبعد أن يكون كمصير الموريسكيين!!

فإن رؤوس النصارى في مصر يرون أننا ضيوف على البلد، وقد جاءهم رئيس يرى أن ديننا يحتاج إلى ثورة دينية لأنه يدعونا إلى إفناء باقي العالم.
ولا ينبغي أن يظن أحد أن هذه من المبالغات، فلم يكن أحد في قرطبة الزاهرة يتخيل أن الإسلام سيغادر قرطبة، بل وكل الأندلس، ثم يُطارد المسلمون وتسلط عليهم المحاكم تفتش في صدورهم عن بقايا دين، ثم يتحولون إلى لاجئين متفرقين بين المغرب والجزائر وتونس، بين أمريكا والفلبين، يتسولون النصير من البروتستانتيين أو من هنري الرابع ملك فرنسا، ثم ينتهي بهم الحال إلى التسول أمام الكنائس الفرنسية التي ستطردهم عن أبوابها لتفرض عليهم التنصير القسري كما فعل إخوانهم الإسبان.
إن بعضًا مما عاناه الموريسكيون تحت حكم الإسبان يعانيه الآن المصريون تحت حكم العسكر، فكل ما يوحي بأنك ضد العسكر (ولو كان حيازة علامة رابعة) يشبه تحت حكم الإسبان أن تحوز مخطوطًا مكتوبًا بحروف عربية، ومحاكم التفتيش قائمة منصوبة، بعضها في الإعلام وبعضها في أقبية الأجهزة الأمنية، فمن الجريمة أن ترفض طفلة يتمية أن تغني مع مصطفى كامل “تسلم الأيادي”، فتأتي غدًا إلى ذات البرنامج لتؤكد أنها لم تكن تحفظها وأنه لا علاقة لها بالسياسة، ومن الجريمة أن يغني حمزة نمرة شيئًا عن هموم الشباب فلا بد أن يستدعى إلى برنامج ليؤكد خلوّ نيته من أي معانٍ سياسية!! والأمثلة لا تدخل تحت حصر.

والإسلام الذي كافحه الإسبان وطاردوه هو ذاته الإسلام الذي يطارده العسكر، وتحت ذات الشعار “وحدة النسيج الشعبي” لكن هذه المرة شعب العسكر والكنيسة الأرثوذكسية بدلاً من شعب إسبانيا والكنيسة الكاثوليكية. وقديمًا وصف البطريرك ريبيرا الملك الإسباني فيليب الثالث بأنه كمن تفرغ لمهمة تنصير الموريسكيين، وما أقرب هذا الوصف للسيسي الذي تفرغ لمكافحة الإرهاب!

وفي ظل هذه المهمة المقدسة كان الإسبان يتطوعون عند محاكم التفتيش للإبلاغ عمن يبدو عليه التزام بأي تعاليم إسبانية كالامتناع عن شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، تمامًا كما يفعل الآن “المواطنون الشرفاء” في الإبلاغ عمن توحي تصرفاته بأنه ضد “جيش مصر”!!

وقد تعهد الإسبان بالقيام على تعليم الموريسكيين حتى يزول من صدورهم بالكلية أي شيء عن محمد، مثلما يتعهد العسكر –ويؤيدهم جذلان تواضروس- بتغيير المناهج، وخصوصًا المناهج الأزهرية.
وإنه ليبدو مثيرًا حين تقرأ مقال محمود الكردوسي في المصري اليوم عن الإخوان الذين وصفهم بالحشرات والعناكب والثعابين والأفاعي، لأن هذه الألفاظ ذاتها هي التي كان يوصف بها الموريسكيون في إسبانيا وسجلتها وثائق محاكم التفتيش!

ولو شئنا أن نعدد المظاهر لطال بنا الحديث جدًّا، فلقد سجن العسكر مثلما سجن الإسبان، وعذبوا مثلما عذبوا، وصادروا الأموال مثلما صادروا الأموال، ودمروا البيوت مثلما دمروا البيوت، بل واعتقلوا من أراد الهجرة كما اعتقل أولئك من أرادوا الهجرة، بل إن إحراق الناس أيضًا تكرر في مصر، فإن شئت حرقهم أحياء فانظر في سيارة الترحيلات، والـ “حاجة وتلاتين واحد” المحروقين، وإن شئت حرقهم أموات فانظر إلى محرقة رابعة!

وإن مزيدًا من تمكن هؤلاء العسكر لن يؤدي إلا إلى مصير الموريسكيين!

وأكاد أرى من يستبعد هذا كالذي وقف لحظة توقيع اتفاقية تسليم غرناطة واطمأن إلى بنودها السبعين، وآمن بها كـ “خارطة طريق للمستقبل”، ثم هو بعد كل ما جرى في خارطة الطريق يظن أن الأمر لن يبلغ هذا الحد!!

وقد كان شارل الخامس قد قرر أن يرأف بحال الموريسكيين في الشرق فلا يفرض عليهم المسيحية مرةواحدة بل بالتدريج، ثم بدا له بعد ذلك أن يتخلى عن “سياسة التسامح!!!” هذه، فماذا فعل؟؟ طلب من البابا أن يغفر له نقض العهد، فأعطاه البابا مغفرته في 12 مارس 1524 ليؤدي مهمته الجليلة!

فادركوه قبل أن يغفر له تواضروس!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق