الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

الأممُ المتَّحِدَة تجرُّ العالَمَ نحو الهاوِيَة

الأممُ المتَّحِدَة تجرُّ العالَمَ نحو الهاوِيَة

مجلة البيان

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، والصلاةُ والسَّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ وإمامِ المُرْسلينَ ...
 وبعدُ:
 
فقد تأسَّسَت الأممُ المتَّحدة في عام 1945م؛ لكي ترعى الأمْنَ والسِّلْم العالَمِيَّينِ، لكنَّها منذ ذلك التَّأسيسِ بُنِيَت بناءً ديكتاتوريًّا، يُهيمِن عليها ويتحَكَّم في قراراتِها الأقوياءُ، الذين شَكَّلوا الدُّوَل الخَمْسَ دائمةَ العُضويَّة في مجلس الأمن، ومَلَكوا حَقَّ النقض (الفيتو)؛ فأصبحَتِ الأممُ المتَّحدة مِنْبرًا لتقاسُمِ الهيمَنَة والنفوذ العالمي، وأداةً لفَرْض الوِصايَةِ والتسلُّطِ على حقِّ الشَّعْبِ والدُّوَل.
لكنْ هاهنا نوعٌ آخرُ من أنواعِ الهيمَنَة والوصاية– غير الهيمنة السياسيَّة والاقتصاديَّة– يمارِسُها الغَرْبُ على شُعوبِ العالَمِ؛ مستخْدِمًا أدواتِ الأُمَم المتَّحِدَة نَفْسها، وهي الهيمنَةُ الثقافيَّةُ والاجتماعيَّة!
 
هيمنةُ الغَرْب الثقافيَّة والاجتماعيَّة على العالَم بدأَتْ من خلال المواثيقِ والمعاهَداتِ الدَّوْلية؛ مثل الميثاقِ العالميِّ لحقوق الإنسان، والميثاقِ الدَّوْلي المتعلِّق بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعية، ووثيقة بكين، ووثيقة السكَّان، واتفاقية القضاءِ على جميع أشكالِ التَّمييز ضِدَّ المرأة (سيداو) .. ونحوها من المواثيقِ.
 
الهدفُ الرَّئيسُ لهذه المواثيقِ والمعاهَداتِ: تغييرُ أنماطِ القِيَم والأنظِمَة والتَّشريعات المحليَّة في جميعِ دُوَل العالَم، والتعامُلُ مع الخصوصيَّات الدينيَّة والاجتماعيَّة باستخفافٍ شديدٍ، وبناءُ قِيَمٍ وأنظمةٍ وتشريعاتٍ بديلةٍ، تُفْرَض على الشعوب والدُّوَل فرضًا؛ حيث قُدِّمت تلك القِيَمُ والتشريعاتُ باعتبارها قيمًا وتشريعاتٍ مُطْلَقةً قطعيَّةً لا يجوز المِساسُ بها أو الاعتراض عليها، وهي في الوَقْتِ نفسِه تشريعاتٌ غيرُ قابلةٍ للتجزئة، ودَوْرُ الدُّولِ هو الالتزامُ الكامِلُ بها، والتكَيُّف التدريجيُّ معها، تحت رقابةٍ ومتابعةٍ ومحاسَبةٍ من لجانٍ خاصَّةٍ في الأمم المتحدة!
 
إنَّ تلك المواثيقَ والمعاهَداتِ الدَّوْلية تعبيرٌ عن الصِّراعِ الفكريِّ والتناقُضِ الثقافيِّ والاجتماعي الذي نشأ وتطوَّرَ في الغَرْب؛ فمع بواكيرِ عَصْرِ الثَّوْرة الصناعيَّة في فرنسا تمرَّدَ الغربُ على الدِّينِ وسُلْطة الكنيسة، وأسقط فِكْرَة الألوهيَّة والقَداسَة، ومَزَّقَ كلَّ القيودِ والقِيَم والأعرافِ الاجتماعيةِ، التي تُقَيِّد حريةَ الإنسان، وتحوَّلَتِ القِيَمُ والأعرافُ إلى أفكارٍ نسبيَّةٍ هُلاميَّة قابلةٍ للتحوُّل والتغيُّرِ بتغيُّرِ الزَّمانِ والمكان!
 
ومع تصاعُدِ غُرورِ القوَّة والاستعلاء التجريبيِّ والصناعيِّ، تسارعت حركةُ التمرُّد الفكريِّ والقِيَميِّ في الغرب، وأصبح المقَدَّسُ الوحيدُ– رغم تعدُّد المدارسِ الفكريَّة والفلسفيَّة– هو ألوهيَّةَ الإنسانِ، الذي تَحْكُمه العقليَّةُ الماديَّة الصِّرْفة![1]، وتَبَنَّت الحركاتُ النِّسْوِيَّةُ خصوصًا مبدأَيِ المساواةِ التامَّةِ، والحريَّةِ المطلقة؛ لتُعيدَ صياغةَ مفهومِ الهُوِيَّة البيولوجيَّة للإنسان (الجندر)، والتخلِّي عن مصطلحَيِ الرَّجُل والمرأة باعتبارِهما مصطلحاتٍ تمييزيَّةً تتناقَضُ مع مبدأِ المساواةِ، ومن ثَمَّ تغيير قِيَم ووظائِفِ الفَرْد والأسرة والمجتمع. وأُطْلِقَ العِنانُ لكُلِّ أنواع التمرُّد والتفلُّت الاجتماعي؛ ولهذا رأينا الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) مثلًا يحتفي بقرارِ المحكمة العليا في الوِلايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي أباحت حقَّ الزَّواج للشَّواذِّ في جميعِ الوِلاياتِ الأمريكية؛ معتَبِرًا هذا القرارَ (انتصار لأمريكا .. انتصار للحب)! وسارَعَ الأمينُ العامُّ للأُمَم المتَّحدة (بان كي مون) إلى تأييدِ القرار! وما أشبَهَ هذا الاستعلاءَ بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54][2].
هذه الاحتفاليَّة بالشُّذُوذ والدفاع عنها، تؤكِّد أنَّ الشُّذوذ في الوِجْدانِ الغربيِّ ليس مجرَّدَ ظاهرةٍ عابرةٍ، أو هَوَسٍ جنسيٍّ عارِضٍ؛ بل هو في الحقيقةِ تعبيرٌ عن مقدارِ الشُّذوذِ الفِكْريِّ المتراكِم عَبْرَ السنين، واستجابةٌ تلقائيَّة للنَّزْعَتينِ البراجماتيَّة والدَّارونيَّة اللَّتَينِ أسهَمَتا في صياغَةِ العقلِ الجمعيِّ للمجتمع الغربي؛ ولهذا نستطيعُ أن نقول للرئيسِ الأمريكيِّ: إنَّ انتصاركم هذا هو في الحقيقة: (انتصارٌ للشُّذوذ .. انتصار للبَهِيميَّة!)، وهو-بإذن الله- إيذانٌ بأُفولِ الغَرْبِ!
 
في ظِلِّ هذا السياقِ الفكريِّ تَشَكَّلت القِيَم الغربيَّة، ثم فُرِضَت على العالَمِ أجمَعَ بكلِّ حمولَتِها وأبعادها الفلسفيَّة والاجتماعيَّة، بواسِطَة اتفاقاتِ ومواثيقِ المنظَّماتِ الدَّوْلية كالأُمَم المتَّحِدَة، باعتبارها تطوُّرًا طبيعيًّا للسُّمُوِّ الحضاريِّ للإنسان، وباعتبارها قِيَمًا إنسانيَّةً مشتَركَةً.
 
لم تَدْرُسْ لجانُ الأُمَم المتَّحدة الأنساقَ الاجتماعيَّةَ في الحضاراتِ والدُّوَل المختلفة حول العالَم، ثم قَدَّمَت أُنْموذَجَها الأمثَلَ بناءً على هذه الدِّراسة، وإنَّما انحازت ابتداءً إلى النُّموذَج الغربيِّ دون أدنى موضوعيَّة، وجَعَلَتْه هو الفِكْرَ المرجعيَّ الوحيدَ الذي يجب أن يكون مُرتَكَزَ الانطلاقِ لصياغَةِ القِيَم والتَّشريعاتِ الإنسانيَّة؛ فالفكرُ الغربيُّ لم يعُدْ غربيًّا في أجِنْدَة الأمم المتحدة، بل يجب أن يكون فكرًا عالميًّا يُهيمِنُ على جميعِ الحضاراتِ الأخرى، ويَفْرِضُ سَطْوَتَه على جميعِ الشُّعوب، ويتجاوَزُ سيادةَ الدُّوَل، وهو بهذا أداةٌ للقَضاءِ على كلِّ الهُوِيَّات وهَدْم لكلِّ الحضاراتِ، وهاهنا تكمُنُ خطورةُ مواثيقِ ومعاهداتِ الأُمَمِ المتَّحِدَة!
أحدَثُ هذه الوثائِقِ وثيقةٌ للأمم المتَّحدة بعنوان: (تحويلُ عالَمِنا: أجندة 2030 للتنمِيَة المُستدامة) التي نوقِشَت في نيويورك في 2/8/2015م وسيجتَمِعُ رؤساءُ الدُّوَل في الفترة من 25-27 سبتمبر 2015م لإقرارِها.
 
وهذه الوثيقةُ أُنموذَجٌ صارِخٌ في فَرْض قِيَم وثقافة الغَرْب على العالَم، فلم تُناقَشْ باعتبارِها رؤيةً استرشاديَّةً قابلةً للحُوار والنِّقاش الحضاري من دُوَل العالَم؛ بل قُدِّمَت بهدف إعادةِ بناءِ وتشكيلِ الواقِعِ العالميِّ، ونصَّت الديباجةُ على أنهم: (مُصَمِّمونَ على اتِّخاذِ الخُطواتِ الجريئة المُفْضِيَة إلى التحوُّل، التي تلزم بصورةٍ مُلِحَّة للانتقالِ بالعالَم نحو مسارِ قوامةِ الاستدامة والقُدْرَة على الصمود)، ثم تتعهَّد الديباجة بترسيخِ تبعيَّة جميع الدول؛ فهم: (مُقْبِلون على هذه المرحلةِ الجماعيَّة، بألَّا يُخَلِّفَ الرَّكْبُ أحدًا وراءَه!).
 
ثم تتجلَّى النزعةُ الاستعلائيَّة في المقدِّمة الخامِسَة التي نصَّتْ على أنَّ الوثيقةَ: (تحظى بقَبولِ جميعِ البلدان، وتسري على الجميع)، ومع أنَّها تزعُم أنَّها راعت اختلافَ الواقِعِ المُعاش في كل بلدٍ، إلَّا أنَّها تُلِحُّ بكل وضوحٍ على أنَّها: (متكاملةٌ غيرُ قابلةٍ للتجزئة).
 
عالجت الوثيقةُ الأبعادَ الثلاثةَ للتنمِيَة المستدامة: البُعْد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي. وقَدَّمت رُؤًى وإجراءاتٍ مفيدةً في معالجةِ مشكلاتِ الفَقْر والجوع والصِّحَّة والتعليم والبيئة، لكنها في الوقت نَفْسِه رَسَّخَت الرؤيةَ الغربيَّة التي وردت في الاتفاقاتِ والمعاهداتِ السابِقَة بخصوص الحقوقِ والحرِّيَّات الجنسيَّة، وما يُسمَّى بالصحَّة الجنسيَّة والإنجابيَّة، وحقوق الشواذِّ، وتغيير مفاهيم الهُويَّة البيولوجية (الجندر)، ومفهوم الأُسْرة وأنماطها المتعدِّدة .. وكأنَّه لا سبيلَ لتحقيقِ التنمِيَة ومعالجة مشكلاتِ الفَقْر والجوع إلَّا بتحويلِ العالَم إلى المُستَنْقَع الاجتماعيِّ الذي تلوَّثَ به الغَرْب!
 
إنَّ الأُمَم المتَّحِدَة بانحيازِها الأعمى لمرجعيَّة الفكر الغربيِّ تجرُّ العالَم كُلَّه نَحْوَ الهاوية، وعلى عُقَلاءِ العالَم أن يستنْقِذوا البشريَّةَ من الانهيار القِيَميِّ والانحرافِ الأخلاقيِّ الذي تتردَّى نحوه. وعُقْدَة التفوُّقِ الصناعي والاستعلاء العسكري التي شَكَّلَت العقلَ الغربيَّ ليست بالضرورةِ دليلًا على تفوُّقه الإنسانيِّ والقِيَميِّ، وإذا كان الغربُ يَمْلِك قِيَمًا إيجابيَّة ينبغي الاعترافُ بها من دولِ وشعوبِ العالَم، فإنَّه في الوقت نفسِه يملك قِيَمًا فاسدةً ومُميتةً تأكُلُه مِن داخِلِه، وعليه أن يعالِجَ أمراضَه التي تفْتِكُ به، ويُقْلِعَ عن تصديرِها لبقيَّة دُوَل العالَم!
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].


[1] يقول عبد الله العروي: (إن نظرية الحرية التي تكونت في أعقاب الثورة الصناعية، والتي تهدف إلى الكشف عن أصل الحرية المطلقة، تستلزم بكيفية أو بأخرى: تأليه الإنسان الحر!).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق