انتفاضة القدس وواجب النصرة والمساندة
عامر عبد المنعم
وسط الحروب المشتعلة والصراعات الخارجية والداخلية التي تستنزف العالم العربي، لم تحظ انتفاضة القدس بالاهتمام الإعلامي الذي يتناسب وأهميتها وحجمها وتداعياتها وتأثيرها على مجمل القضية الفلسطينية ومجريات الأوضاع في الأراضي المحتلة، فالشباب الفلسطيني الذي انفجر غضبا منذ أكثر من شهرين يعيد رسم الواقع الفلسطيني على أسس جديدة وينهي حالة الهدوء وتجميد المقاومة في الضفة الغربية، التي أصبحت السمة المميزة منذ اتفاقات أوسلو وانتقال السلطة الفلسطينية إلى رام الله.الانتفاضة اليوم في الداخل المحتل اتخذت ألوانا مبدعة جديدة ولم تقتصر على التظاهرات والحجارة، لقد ابتكرت أساليبا غير معهودة في الانتقام من جنود الاحتلال والمستوطنين، ردا على الاعتداءات على القدس وتدنيس المسجد الأقصى وسعي سلطة الاحتلال الإسرائيلية لفرض التقسيم الزماني والمكاني على الحرم القدسي بقوة البندقية.
لقد استخدم الشباب الفلسطيني السكاكين والسيارات في دهس المستوطنين والرصاص الحي في بعض المناطق، مما أشاع حالة من الخوف والرعب لم يذقها الإسرائيليون من قبل، فالموت قريب جدا ويلاقيهم في كل مكان، في الشوارع والميادين، لينتقل التهديد من خارج الحدود التي فرضها الاحتلال وحرص دوما على تأمينها إلى قلب الكيان الاستيطاني.
الجديد هذه المرة هو روح الاستشهاد التي انتشرت وسط الجيل الذي جاء في ظل اتفاقات أوسلو وتجريم المقاومة، وهذا الجيل يعتمد على نفسه في الانتقام ولا ينتظر أي دعم عربي أو دولي، وقرر أن يرد على الغطرسة الصهيونية بتقديم روحه طواعية وبحماس يستحق التأمل.
جانب من هذه الروح الجديدة توضحها وصية الشهيد أنس حماد منفذ عملية الدهس في قرية سلواد شرقي رام الله التي كتبها لأبيه حيث يقول: " والله يا والدي قلبي لم يحتمل مشهد أخت المرجلة تستشهد على حواجز الاحتلال، ولم أحتمل تدنيس المستوطنين للمسجد الأقصى، ولم يهن علي أن أجلس وأرى كل يوم قوافل الشهداء؛ فأردت أن أقدم نفسي شهيدا في سبيل الله".
لم يكتف الشباب الفلسطيني الذي يقوم بدهس الإسرائيليين، والفتيات اللاتي تحملن السكاكين بالاحتجاج أو الخروج في المظاهرات منتظرين دعما خارجيا لن يأتي، وقرروا أن يقدموا أرواحهم في عمليات تنتهي بالاستشهاد دفاعا عن المسجد الأقصى ولكسر الغطرسة الإسرائيلية.
ورغم التصفية التي تقوم بها قوات الاحتلال لمن يقومون بالطعن والدهس ومن يشتبه به فإن مؤشر العمليات في صعود وازدياد وليس العكس، سواء من حيث العدد اليومي أو من حيث الرقعة الجغرافية، وهذا ما يجعل انتفاضة القدس تزلزل الكيان الصهيوني من الداخل وتأتي من حيث لم يحتسبوا.
تلعب عمليات الطعن بالسكاكين والدهس يوميا دورها في القضاء على فكرة الأمن التي على أساسها تم جلب المستوطنين من دول العالم، فلم يعد الكيان آمنا، وأصبح الجيش الإسرائيلي الذي تدرب على مواجهة جيوش نظامية ودول خارجية عاجزا عن مواجهة هذا التهديد الجديد الذي لم يكن متوقعا.
جاءت انتفاضة القدس كضربة إستراتيجية في قلب البنيان الإسرائيلي ورجته رجا عنيفا من داخله؛ فالحكومة الإسرائيلية لم تفق بعد من الضربات التي تلقاها الكيان في حروب غزة الأخيرة حيث قضت الصواريخ الفلسطينية على قوة الردع الإسرائيلية ونقلت المعركة إلى داخل الكيان الصهيوني لأول مرة منذ حرب 48، وأنهت السلوك الإسرائيلي في الاعتداء بدون عقاب، وضربت الجبهة الداخلية الإسرائيلية ضربات موجعة.
انتفاضة القدس في تأثيرها تكمل ما فعلته الصواريخ الفلسطينية في هز الجبهة الداخلية في "إسرائيل"، وتزلزل البنيان الاستيطاني، فالصواريخ الفلسطينية تنشر الرعب في كل المدن في فلسطين المحتلة وتتخطى كل الحواجز والحمايات في زمن الحرب، وتأتي السكاكين والدهس لتشيع الرعب وسط المستوطنين طوال الوقت.
وإزاء هذا الزلزال الثوري الفلسطيني من المتوقع أن يصدر الجيش الإسرائيلي وثيقة أخرى يحدث فيها إستراتيجية الأمن الإسرائيلي، بعد تلك التي صدرت في أغسطس الماضي والتي كشفت عن عجز الإسرائيليين عن مواجهة التحديات الخارجية التي فرضتها ثلاثة حروب مع قطاع غزة وحرب لبنان أمام منظمات وليس جيوش دول.
لقد أصدر الجيش الإسرائيلي وثيقة مهمة للجنرال غادي أيزنكوت رئيس أركان الجيش تتناول التهديدات التي تواجه الأمن الإسرائيلي بعنوان " إستراتيجية الجيش" تضمنت التحديات الجديدة وأبرزها تراجع تهديد الجيوش النظامية وبروز قوة المنظمات وليس الدول، مثل حماس وحركات المقاومة الفلسطينية وحزب الله، ومنظمات الجهاد العالمي كتنظيم الدولة "داعش وغيرها.
واعترف الجيش الإسرائيلي بحدوث تغيير في طبيعة المواجهات العسكرية، وتراجع تهديدات الجيوش النظامية التابعة لدول بعينها، وبدلا من أن تكون حروبا نظامية تحولت إلى حروب عصابات، واستنزاف، وتهديد المجتمع الإسرائيلي والجبهة الداخلية.
اعتبرت وثيقة رئيس الأركان الإسرائيلي أن "وصول الكثافة النارية إلى عمق الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وعمل الجبهات المعادية على تحويل هذه المسألة إلي نقطة ضعف واضحة في البنية الدفاعية لإسرائيل لتشكل تدريجيا تهديدا استراتيجيا"
ومن أهداف الإستراتيجية الجديدة التي دعت الوثيقة إلى تحقيقها "تقليص قدرة العدو على المس بالجبهة الداخلية الإسرائيلية قدر الإمكان".
ومن هنا تأتي خطورة انتفاضة القدس حيث توجه ضربات متلاحقة إلى نقطة ضعف "إسرائيل" وهي الجبهة الداخلية التي باتت مكشوفة وفاقدة للأمن والحماية.
الذي يعكس وزن انتفاضة القدس من الناحية الإستراتيجية، والذي يزيد من حجم التحدي أمام الاحتلال أنها حركة شعبية تحظى بإجماع فلسطيني ودعم كل الفصائل بما فيها السلطة الفلسطينية، وكان لافتا أن اشتعالها واتساعها جاء في اليوم التالي الذي أعلن فيه الرئيس أبو مازن على منصة الأمم المتحدة فشل مسار التفاوض، واتهامه لـ "إسرائيل" بعدم الالتزام بما تم من اتفاقات، وهذا موقف له دلالة.
هذا الإجماع السياسي الداعم للانتفاضة والحاضنة الشعبية، أعطى لشباب فلسطين دفعة قوية لقبول التحدي ومواصلة العمل الاستشهادي، ومن غير المتوقع في المدى المنظور احتواء غضبة الشباب الفدائي ووقف انتفاضته من اجل القدس.
هذا الصمود الفلسطيني والعمل البطولي يضيق الخيارات أمام الإسرائيليين ولا يبقى أمامهم إلا التراجع لامتصاص هذه الموجة الثورية والانكسار –تحت الإكراه- أمام ثورة السكاكين والدهس والابتعاد عن مواجهة أصحاب القلوب الفولاذية التي تفضل الموت على الحياة.
شباب فلسطين يؤدي ما عليه أمام عدو تسانده قوى إقليمية وعالمية، ومن حق شباب الانتفاضة على الأمة أن تقف معه، فانتفاضة القدس تحتاج إلى دعم عربي وإسلامي يليق وأهمية الصراع، فأبطال الانتفاضة يستحقون واجب النصرة والمساندة، فهؤلاء الشباب يخوضون معركة المسلمين والأمة، ويضحون بأرواحهم في معركة مع احتلال يرتكب كل الجرائم ويقترف كل الفظائع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق