ظل جمال خاشقجي الممتد
دافيد هيرست
كلما ظن محمد بن سلمان أنه نجح في إبعاد شبح الصحفي السعودي المغدور عنه كلما عاد شبحه ليطارده من جديد
في مثل هذا اليوم من العام الماضي، خطى جمال خاشقجي إلى داخل القنصلية السعودية في إسطنبول للحصول على ورقة تسمح له بالزواج من خطيبته خديجة جنكيز.
كان الحصول على تلك الورقة التي تؤكد طلاقه من زوجته السابقة إجراءً شكلياً. ورغم أن بعض أصدقائه المقربين كانوا قد حذروه في الأسبوع الذي سبق من مغبة التوجه إلى القنصلية، إلا أن جمال تجاهل هذه التحذيرات، ظناً منه أنه كان أعرف منهم باليات العمل داخل السفارات السعودية.
كان مستقبله في تركيا وفي واشنطن أمامه. فبعد شهور من التردد والحنين إلى الوطن والشعور بالوحدة، عزم جمال أمره واتخذ قراره. لم يتواصل مع أصدقائه في إسطنبول بعد عودته من لندن، بل ذهب مباشرة إلى القنصلية.
وخلال سبعة دقائق من دخوله القنصلية أضحى جثة هامدة، ضحية عملية ذبح من نمط ما كان رائجاً في القرون الوسطى.
لم يكتف فريق الإعدام بالإجابة على سؤال من ذا الذي سيخلص محمد بن سلمان من "القس المشاكس". وهي كلمات تنسب إلى هنري الثاني قالها بشأن جريمة قتل كبير القساوسة توماس بيكيت.
لقد غيرت جريمة قتل خاشقجي مسار حكم محمد بن سلمان ذاته. فبعد عام واحد يجد ولي العهد نفسه في موقع بالغ الصعوبة.
تراجع على كل الجبهات
انتهى تحالف النفط مقابل الأمن مع الولايات المتحدة. فقد هوجم اثنان من أكبر أرصفة تصدير النفط في المملكة العربية السعودية فيما سماه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو "عمل من أعمال الحرب" تقوم به إيران. ومع ذلك، أدار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ظهره ونأى بنفسه عن الأمر لأسباب واقعية وبراغماتية تماماً.
وها هي حملة محمد بن سلمان على اليمن في حالة من الإخفاق الذريع، حيث تخلى عنه فيها حليفه الرئيس، أي دولة الإمارات العربية المتحدة. لقد اكتفى الإماراتيون بتقسيم اليمن إلى شطرين تاركين الحوثيين حيث هم في الشمال. وقبل أسابيع، شن الحوثيون هجوماً كاسحاً يزعمون أنهم أسروا فيه ما يقرب من ألفين من جنود التحالف، بما في ذلك بعض السعوديين.
وبدلاً من أن ينقل المعركة إلى قلب إيران، كما توعد من قبل، لقد تسبب ولي العهد في حالة من الفوضى والهلع أصابت القلب من مملكته. في هذه الأثناء كشف الرئيس الإيراني حسن روحاني عن أنه وصلته رسالة من المملكة العربية السعودية عبر وسيط هو رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي.
لا نعلم ماذا ورد في الرسالة، ولكن بإمكان المرء أن يستنتج أنها لم تكن إعلان حرب.
بعد عام واحد، يجد ولي العهد نفسه في تراجع على كل الجبهات. لكن محمد بن سلمان مازال يحكم بلاده بقبضة من حديد، ويشهد على ذلك الاستمرار في محاكمة العالم الديني سلمان العودة بتهم يمكن أن تقود إلى الحكم عليه بالإعدام.
أما في الغرب، فقد أفل نجمه، إذ لم يعد ينظر إلى محمد بن سلمان في الأوساط الغربية على أنه ذلك المحدث الثري جداً، والأمير المستعجل، والإصلاحي الذي يختصر المسافات، كما أطرى عليه ذات مرة توماس فريدمان، الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز.
بل بات لاسمه أثر السم على الماركات الأمريكية. وصارت المكاتب الاستشارية تنأى بنفسها عنه بدلاً من الانضمام إلى طابور الانتظار لتحظى بتكليف منه. لم يعد أحد يتكلم عن عربات الأجرة الطائرة ولا عن الروبوتات ومدن الصحراء التي تعانق مبانيها السماء.
ومعظم هذا يتحمل مسؤوليته خاشقجي. لعل من المفيد التذكير بأنه كان في بادئ الأمر قد أيد إصلاحات محمد بن سلمان، وأقر بأنه يتوجب على المملكة العربية السعودية أن تجري فيها تحولات راديكالية. كل ما فعله أنه انتقد الطريقة التي كانت تتم بها هذه الإصلاحات.
الأثر العكسي
لتعاسة من ذبحوه، ولتعاسة ولي العهد الذي كان حراسه الشخصيون يشرفون بأنفسهم على عملية الذبح، تحولت جريمة قتل جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله إلى واحدة من أكثر الجرائم توثيقاً في التاريخ.
حاولت المملكة العربية السعودية كل شيء تقريباً سعياً منها لمسح ذلك السجل الموثق للجريمة. دعوا رئيس المخابرات التركية إلى الرياض، زاعمين بأن الأمر برمته يمكن أن يتم التعامل معه "في عصرية واحدة". إلا أن العرض الذي قدموه قوبل بالرفض. وكانوا قد عرضوا على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رشوة، فرفض. أتلفوا الأدلة الجنائية، ولكن دون جدوى، إذ لم يفدهم ذلك في شيء. بل قامت وكالة المخابرات الأمريكية بإضافة ما لديها هي من تسجيلات هاتفية رصدتها، الأمر الذي أدى لا محالة إلى استنتاج أن محمد بن سلمان هو من أمر باغتيال خاشقجي.
أمر ولي العهد السعودي بعملية الاغتيال لأنه أراد أن يُسكت كل من قد تسول له نفسه كشف المستور. كان خاشقجي جزءاً من المؤسسة، فأراد ولي العهد – الذي لا يخفي إعجابه بمحاولات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تسميم المعارضين في إنجلترا – أن يؤكد للجميع أنه لا يوجد سعودي واحد لا تطاله يداه.
إضافة إلى ذلك، كان خاشقجي بضاعة سعودية. وكأن خاشقجي جزء من ممتلكات وعبيد محمد بن سلمان. فولي العهد، وملك المستقبل، بإمكانه أن يفعل برعاياه ما يشاء. وهذا هو مغزى أن يكون المرء حاكماً مطلقاً.
إلا أن جريمة قتل جمال خاشقجي أدت إلى العكس تماماً مما كان يرجى منها. فمنذ ذلك اليوم الثاني من شهر أكتوبر لم يتمكن محمد بن سلمان بتاتاً من تخليص نفسه من ظل جمال خاشقجي الذي يلاحقه حيثما توجه. ما أن انقلبت مديرة السي آي إيه، جينا هاسبيل، ومعها واشنطن عليه حتى دخل ولي العهد في حالة تأزم شديد، ولم يزل في تلك الحالة المتأزمة منذ ذلك الحين.
شكل ولي العهد لجنة طوارئ مهمتها التعامل مع تداعيات جريمة القتل، فخرج أعضاؤها بسلسلة من الأفكار الغريبة، كان أحدها فكرة عقد قمة على نمط ما كان يعقد في كامب دافيد بين ولي العهد ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو، ظناً منهم أن ذلك يمكن أن يغير من قواعد اللعبة.
إلا أن شيئاً لم ينجم عن ذلك. حاول مغازلة الصين كقوة مقابلة للولايات المتحدة، فلم يسعفه ذلك أيضاً. وكلما ظن محمد بن سلمان أنه نجح في إبعاد شبح الصحفي السعودي المغدور عنه كلما عاد شبحه ليطارده من جديد.
لم يتغير شيء داخل المملكة. فالمعارضون ورجال الأعمال المنافسون يواجهون أوضاعاً مريعة داخل سجون المملكة، والقمع في أشد أحواله. من الواضح أن محمد بن سلمان لم يتعلم درساً واحداً من الإخفاقات المتتابعة التي منيت بها سياسته.
حياة جديدة
لقد نال جمال خاشقجي بسبب جريمة القتل التي ارتكبت بحقه دور المعارض السياسي، وهو الدور الذي لم يسع إليه أبداً في حياته. بل يمكن القول إن موته منح للعالم العربي أملاً كبيراً، من حيث لم يكن أحد يرجو أو يحتسب جراء جريمة بشعة لم يزل مرتكبوها خارج قبضة العدالة.
رسالة خاشقجي إلى العالم العربي، هي رسالة أمل. وإذا ما أراد المرء تلخيص حياته وعمله كصحفي سعودي في رسالة مباشرة، فستكون على النحو التالي: لا يمكن للوضع القائم في السعودية أن يستمر على ما هو عليه. لا مفر من أن ينهار. وكان محقاً فيما ذهب إليه. وفعلاً، لقد تبددت حالة البؤس والتشاؤم التي سادت العالم العربي بعد سحق الربيع العربي في شهر يوليو / تموز من عام 2013.
ها هو الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يغلق مدناً بأكملها حتى يحول بين المصريين وبين النزول إلى الشوارع للمطالبة برحيله. بعد ستة أعوام، وجد المحتجون صوتاً جديداً وبإمكانهم الآن إحداث التغيير السياسي المنشود، وهو التغيير الذي بدأ فعلاً في كل من السودان والجزائر.
حركة مد التاريخ
بدأت حركة مد التاريخ تعود من جديد، وما من شك في أن الحكام المستبدين والطغاة العسكريين يقفون منها في الجانب الخطأ. لم يكن خاشقجي ثائراً، بل كان رجلاً من رجال المؤسسة، وكان أيضاً رجلاً متواضعاً. لا أظن أنه كان يخطر بباله أن موته يمكن أن يحدث هذا التغيير ويكون سبباً في هذا التحول.
لن يتلاشى خاشقجي ويذهب مع الوقت، بل سوف تتعاظم مع الزمن صورة ذلك الرجل الذي طالما طالب بالإصلاح وضمان حرية التعبير في بلاده. لقد اكتسبت حكاية خاشقجي الأخيرة – وهي حكاية الصحفي المغدور والمذبوح – قوة صحفية لا ينافسها في أثرها أي من الأعمدة التي كتبها في حياته.
عندما حكم محمد بن سلمان على خاشقجي بالموت فإنما حكم على نفسه بذلك.
المصدر:ميدل إيست آي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق