الاثنين، 31 مارس 2025

قبل أن تحترق المنطقة.. هل تتدخل الدول الإقليمية في الصراع بين إسرائيل والمقاومة؟

قبل أن تحترق المنطقة.. هل تتدخل الدول الإقليمية في الصراع بين إسرائيل والمقاومة؟

أحمد هلال

 يبدو أن الضربة الاستباقية التى أعطت حماس اليد الطولى في ساحة المواجهة سوف تستمر تداعياتها لسنوات طويلة، ولا تزال أصابع الندم ودهشة الحسرة وذهول المفاجأة، تغطي على الأحداث السياسية وتدفع باتجاه الثأر. 

قلت في مقالات سابقة إن أهمية الاختراق السيبراني وحرب المعلومات والخداع الاستراتيجي للعدو، تلك الضربة حركت العالم كله ووجهت الأنظار من جديد إلى منطقة الشرق الأوسط؛ حيث أقدم احتلال للأراضي في التاريخ الحديث، وقارب الاحتلال الإسرائيلي على 80 عاماً كاملة، وفي خلال تلك الأعوام كان قادة المحتل يسعون إلى إثبات دولتهم المزعومة وشرعنتها وأمنها؛ ولكن انهارت تلك الأمنيات، وأصبحوا الآن يبحثون عن مجرد البقاء!

الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر تلك الدولة المزعومة هي أكبر استثمار لها في منطقة الشرق الأوسط بتكلفة بسيطة للغاية لا تتعدى 3.8 مليار دولار سنوياً، في مقابل مكاسب اقتصادية وتوسعات استعمارية وعقيدة دينية.

وحول ذلك الاستثمار زرعت الولايات المتحدة الأمريكية عملاء يحرسون تلك الدولة المزعومة، من خلال حكام العرب وأمراء دول، وظيفتهم الأساسية وشروط بقائهم حراسة هذا الاستثمار في المنطقة، والحفاظ على وجوده وحمايته!

ومع مرور الزمن تغيرت أحوال كثيرة، وبعد مرور أكثر من 50 عاماً على آخر حرب فعلية للدولة المزعومة مع الجيش المصري والجيوش العربية في أكتوبر 1973، شاخت تلك الدولة وترهلت وأصابها العجز الداخلي والخارجي، وتحطمت الأسطورة التي كانت تفتخر بها، والتفوق الاستخباراتي والعسكري!

ما جعلها مغنماً سقط في خداع كبير، وتستيقظ على تطاير حلم الدولة مع تطاير أشلاء عساكرها ووقوع البعض الآخر في الأسر!

وفي هذا السياق وحول تلك المفاجأة كتب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان قائلاً: "عندما أحتاج إلى التحليل الأكثر دقة عن إسرائيل، فإن أول اتصال أقوم به دائماً هو صديقي القديم وشريكي في إعداد التقارير هناك ناحوم بارنيا، وهو كاتب عمود في "صحيفة يديعوت"، عندما اتصلت به بعد ظهر السبت الماضي لسؤاله عن قراءته لهجوم حماس على إسرائيل أذهلني رده الأول:

"هذا هو أسوأ يوم أستطيع أن أتذكره من الناحية العسكرية في تاريخ إسرائيل، بما في ذلك الخطأ الفادح في يوم حرب الغفران الفظيعة".

وأضاف فريدمان: "الحدود مع غزة لا تزيد عن 37 ميلاً، لكن ترددات ما حدث لن تدفع إسرائيل والفلسطينيين فقط إلى حالة من الاضطراب، بل وستضرب أوكرانيا والسعودية وإيران.. لماذا؟ لأن أي حرب طويلة بين حماس وإسرائيل قد تحرف المزيد من السلاح الأمريكي المخصص لأوكرانيا إلى إسرائيل، وستجعل مقترح التطبيع السعودي – الإسرائيلي مستحيلاً".

وتابع قائلاً: "لو تبيّن أن إيران شجّعت حماس على قتل التقارب السعودي – الإسرائيلي فسيزيد التوتر بين إسرائيل وإيران وحزب الله، وكذا بين إيران والسعودية، وهذه لحظة خطيرة على عدة جبهات".

وأردف بالقول: "لكن بالعودة إلى نقطة ناحوم، لماذا تعتبر هذه الحرب كارثة بالنسبة لإسرائيل، أسوأ من هجوم يوم الغفران المفاجئ من مصر وسوريا، والذي حدث قبل 50 عاماً؟ بداية كما قال ناحوم هناك إذلال محض للجيش الإسرائيلي. في عام 1973 تعرضت إسرائيل لهجوم من قبل أكبر جيش عربي، مصر.. وهذه المرة، تم استهداف إسرائيل في 22 موقعاً خارج قطاع غزة، بما في ذلك مجتمعات تصل إلى 15 ميلاً داخل إسرائيل، ومع ذلك فإن هذه القوة الصغيرة لم تغزُ إسرائيل فحسب، بل تغلبت على قوات الحدود الإسرائيلية، فقد أعادت رهائن إسرائيليين إلى غزة عبر نفس الحدود التي أنفقت فيها إسرائيل ما يقرب من مليار دولار لإقامة جدار كان من المفترض أن يكون غير قابل للاختراق فعلياً، وهذه ضربة صادمة لقدرات الردع الإسرائيلية".

إسرائيل تفتخر بقدرة أجهزتها الاستخباراتية

أشار ناحوم كذلك إلى أن إسرائيل تفتخر دائماً بقدرة أجهزتها الاستخباراتية على اختراق حماس والمسلحين الفلسطينيين في الضفة الغربية والحصول على إنذارات مبكرة، مبيناً أنه خلال الأسابيع القليلة الماضية، كما يعلم أي شخص يتابع الأخبار الواردة من إسرائيل، كانت حماس تجري ما بدا كأنه مناورات تدريبية لهذا النوع من الهجوم على طول حدود غزة مباشرة أمام أعين الجيش الإسرائيلي. وأردف بالقول: "لكن يبدو أن المخابرات الإسرائيلية فسّرت هذه التحركات على أنها مجرد محاولة من حماس للعبث مع قادة الجيش الإسرائيلي، وإثارة قلق القادة قليلاً، وليست مقدمة لهجوم". (انتهى الاقتباس).

ورغم تمسك المخابرات المصرية، بروايتها أنها قد أبلغت نتنياهو عن حدث كبير تستعد له المقاومة، غير أن قادة المحتل لم تلتفت إلى ذلك التحذير، غير أن نتنياهو يكذب تلك الرواية ويدعو إلى الصبر وعدم الاستعجال؛ لأن الحقائق لا تتضح جملة واحدة. 

وإذا كان الجميع يبحث عن الجهة التى تقف وراء تلك العملية، وأنها لا يمكن أن تنفرد بها المقاومة دون دعم لوجستي ومعلوماتي؛ فإن الأصابع تتجه نحو إيران باعتبارها المستفيد من تلك الأحداث، والتي تقلب طاولة التحالفات، فإن ذلك ليس مستبعداً، ولكن من ناحية أخرى نجد أن نهج المقاومة وحركتها وتاريخها لم يتأثر بذلك الدعم ولم ينحرف عن مساره الصحيح وأهدافه العليا بعيداً عن الدعم والمساندة، ومن ثم كانت رسالة سياسية لإيران أن المقاومة لا تعمل تحت تأثير الدعم وإن كان كبيراً. 

وعلى صعيد آخر من رؤية الأحداث من زاوية أخرى، فإن ردات الفعل الهستيرية التي يتزعمها وزير الدفاع للمحتل بتصريحاته العنصرية واللاإنسانية أنه في حالة حرب الآن مع غير آدميين، وعليه وجب قطع المياه والكهرباء والغاز حتى الانتقام والثأر؛ فإن ذلك الخطاب الإعلامي الرديء سوف يؤدي إلى مزيد من الأخطاء العسكرية وتدهور الأوضاع وسحب المنطقة إلى حرب إقليميّة دولية!

مكونات مجلس الحرب الآن في الدولة المزعومة "إسرائيل" تميل إلى اليمين المتطرف الذي لا يمتلك القدرة والكفاءة والخبرة العسكرية التي تمكّنه من اتخاذ القرار الصحيح لتحقيق انتصار يغسل حجم العار والدمار؛ بل يسحب إلى ارتكاب مجازر إنسانية مهولة توحل المنطقة في صراع يمتد لسنوات. 

وفي هذا السياق تندفع الولايات المتحدة الأمريكية برعونة وعنصرية ودفع السفن الحربية للمنطقة، ربما تسير تحت الضغط اللوبي الصهيوني في نفس مسار ارتكاب فظائع وجرائم حرب!

إن لم تتدخل دول إقليميّة لتفادي حرب طويلة المدى وكبح جماح العنصرية واللاإنسانية؛ سوف تسقط المنطقة في أتون حرب بدأت ولا نعرف متى وكيف تنتهي. 

ماذا يريد الغرب وكياناتنا القُطْرِيَّةُ؟

ماذا يريد الغرب وكياناتنا القُطْرِيَّةُ؟


وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال أمهلت إسرائيل بعض سكان حي الحدث في ضاحية بيروت الجنوبية سُويعات، كي يغادروا منازلهم المجاورة لعمارة أرادت قصفها بحجة تخزين عتاد لحزب الله فيها.

وبينما كانت أعمدة الدخان الأسود تتصاعد من العمارة التي أصبحت ركامًا، كان الرئيس اللبناني وقائد جيش لبنان السابق العماد جوزيف عون، يتحدث في مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس.

رفعت صوت التلفاز، وقد كنت أتوقع أن يستهل الرئيس العماد حديثه بالتنديد الشفوي، كما هي عادة الزعماء العرب، بالعدوان الإسرائيلي على لبنان وانتهاكه الصارخ قرارَ وقف إطلاق النار، لكن الرئيس المتأنق، من جلدة رأسه حتى أخمص قدمه، استهل كلامه بغزل تاريخي مع ماكرون، وقال إن علاقة لبنان مع فرنسا علاقة عضوية تعود لما قبل 750 عامًا، زمن الإمبراطور لويس التاسع الذي شمل موارنة لبنان برعايته!

لكن مهلًا أيها الرئيس العماد! لقد كان لويس الذي تسبح بحمده اليوم على رأس حملة صليبية تعزم غزو بلاد العرب كلها، عندما التقى الموارنة أثناء توقف حملته في قبرص وشملهم برعايته الصليبية.

وإن كنت أيها الرئيس اعتبرت ذلك رعاية للبنان كله، كما نعرفه اليوم، فقد اختلطت لديك الخيوط بين الوطن والطائفة. فلبنان ليس كله لطائفة بعينها، وأنت يفترض بك تمثيل كل اللبنانيين.


وهكذا فإن تلك العلاقة التي تغنيت بها لا يتغنى بها كل اللبنانيين. ثم هل كان لبنان أيام لويس التاسع كيانًا مستقلًا حتى تسحب رعاية لويس التاسع لموارنته على كل لبنان؟

ولا تنسَ يا سيادة الرئيس أن حامي لبنان كما تراه من منظورك، أسرَه المصريون في معركة المنصورة، وأُطلق سراحه بفدية كبيرة. فهو لم يحمِ نفسه ولا حمى الموارنة آنذاك. وفرنسا اليوم، التي تتفاخر بالعلاقة التاريخية معها حتى وإن كانت علاقة غزو صليبي، لن تشمل لبنان برعايتها، ولا تستطيع.

انظر إليها يا سيادة الرئيس تنسحب من أفريقيا التي استعمرتها لقرون، وانظر إليها تتوسل الحماية من الشواطئ الأخرى للأطلسي. أو لم تسمع ما قاله ماكرون في المؤتمر الصحفي من أن لبنان أصبح اليوم في المسار الصحيح؟! لبنان في المسار الصحيح بعد أن احتلت إسرائيل أرضه في الجنوب، ودمّرت قراه وتواصل قصف عاصمته، وأنت تتغزل بفرنسا وتاريخها، أم إن ذلك الجنوب المدمّر والبقاع المهشم ليس هو لبنان الذي تراه وطنًا؟

لكنني، رغم كل شيء، أود أن أشكرك على صراحتك يا سيادة الرئيس، إذ لم تتستر على مكنوناتك، وأفصحت باختيارك غير الموفق لشاهد من التاريخ، عما تشعر بالانتماء إليه أولًا، وهو الانتماء للطائفة قبل الانتماء للوطن كله، خلافًا لما تفعله وفعلته بعض رموز الأقليات الطائفية في بلداننا.

فها هي سوريا تتكشف فيها كل دمامل الأقليات الطائفية والإثنية، بعد أن توارت لعقود وراء ستارات وشعارات قومية مخادعة، فما إن رحل الطاغية حتى يمم بعض أولئك الذين تشدقوا بعروبتهم من ربابنة أقليات الطوائف شطر تل أبيب، ورفعوا أعلامهم الطائفية، وأعلن بعضهم جهارًا حبه المذهبي القادم من الشرق، وطالب آخرون ألا ينسحب حماتهم الأميركيون من سوريا.

شكرًا لك أيضًا يا سيادة الرئيس، فقد جسدت لنا معضلتنا الحقيقية في الوطن العربي، ألا وهي التشظّي القُطْري. فقد أزاحت الانتماءات القٌطْرِية الانتماء للأمة الجامعة في بعدها العربي القومي، وبعدها العقدي الإسلامي، وكلاهما لا ينفصمان عن بعضهما.


وإن حدث، كما هو حالنا اليوم، تشظّت الأمة إلى كيانات قٌطْرِيَّةٍ يتساوى في عجزها أمام العالم كبيرها وصغيرها، فكيف سيكون حالنا من العجز حين يتشظى الكيان القُطْري نفسه من داخله فيصبح الانتماء فيه للطائفة، مهما صغرت وانحصرت في الجغرافيا، على حساب الانتماء للوطن!

هذا هو حالنا اليوم أيها الناس! فكياناتنا القُطْرِية تريد أن تستنسخ لنا تاريخًا جديدًا تصبح فيه حروب أعدائنا السابقة علينا مؤازرة لنا، علينا أن نكون لها من الشاكرين. وكذلك حرو بهم الراهنة علينا لا بدّ لنا أن نشكرهم عليها؛ لأنها أعادتنا إلى المسار الصحيح، كما قال ميشيل ماكرون. أَوَ ليس هناك من العرب اليوم من يستحث إسرائيل على القضاء على حماس في غزة وفي كل فلسطين، بل ويلومها لأنها ما استطاعت، بعد أكثر من 17 شهرًا من حرب الإبادة الجماعية على غزة، أن تنهي حماس.

هذا هو حالنا اليوم أيها الناس! كياناتنا القُطْرِيَّة تريد أن "تنزل" علينا دينًا جديدًا باسم الإبراهيمية، كي تنفي العقيدة الإسلامية الجامعة التي هيمنت بكتابها الكريم على كل ما سبقها من الأديان السماوية.

هذا هو حالنا اليوم أيها الناس! كياناتنا القُطْرِية تريد أن تعيد تعريف جغرافيّة وطننا العربي لتنفي وحدته الطبيعية والتاريخية، فلا تعود جزيرة العرب هي جزيرة العرب كما عرفناها قبل الإسلام وبعده، بحدودها الممتدة من بحر العرب جنوبًا إلى هضبة الأناضول شمالًا، ومن جبال زاغروس شرقًا إلى شواطئ المتوسط غربًا. ولا يعود شمال أفريقيا العربي الإسلامي ووسطها السوداني العربي والمسلم، كما عرفناه ونعرفه منذ أن صهلت خيول عقبة بن نافع عند شواطئ الأطلسي، ولا يعود بحر القلزم الأحمر بحيرة عربية كما كان حتى عهد قريب.

هذا هو حالنا اليوم أيها الناس! الغرب يريد، وكياناتنا القُطْرِيَّة تذعن وتنفذ، كي تصبح إسرائيل جزءًا أصيلًا من تاريخنا وعقيدتنا وجغرافيّة وطننا، وكي يصبح ما تشنه علينا من حروب خدمة لنا، ينبغي أن نشكرها عليها، ونقدم لها المزيد من طقوس الطاعة والانصياع.

وهكذا تكون حرب الإبادة على غزة وفلسطين في مصلحة كياناتنا في حدودها الطائفية والإثنية بعد أن ينتهي مفهوم الأمة القطب الجامع أرضًا وفكرًا وعقيدة.

لا حول ولا قوة إلا بالله. إنه زمن إسرائيلي شئت أم أبيت، ولو أن هولاكو قائد المغول، الذين اجتاحوا بغداد عام 1258، عاد للحياة ورأى مدى هوان الأمة وانصياعها وخنوعها لإسرائيل لاعتبر نفسه فاشلًا، إذ فاقته إسرائيل في إذلال 400 مليون عربي، بل وتحويل بعضهم لمطايا تعصب عيونهم وتلهب سياطها ظهورهم، فلا حصان من خيولهم يصهل، ولا معتصم منهم يسمع وينتخي!

الأحد، 30 مارس 2025

المفتونون بـ«التغريب» يجهلون تعاليم الإسلام

حوار«المجتمع» مع د. محمود عبدالرحمن    

المفتونون بـ«التغريب» يجهلون تعاليم الإسلام

في عالم تفتقد فيه نظم الحكم المعاصرة وتجارب العلمانية البغيضة، القيم والأخلاق، باتت مصالح الساسة فوق حقوق العباد والأوطان، فضلاً عن افتنان بتجارب الغرب، أو ما يعرف بالديمقراطية، رغم استغلال ذلك في تمرير ما يخالف الفطرة، وينافي صحيح الأديان.

من هنا تأتي أهمية الحوار الذي أجرته «المجتمع» مع د. محمود عبدالرحمن، عميد كلية أصول الدين والدعوة بطنطا- جامعة الأزهر، حول عدد من القضايا التي تتعلق بشكل وممارسة السياسة في الإسلام.

ما ملامح نظرة الإسلام إلى منظومة القيم والأخلاق بوجه عام؟

- لا شك أن موضوع القيم والأخلاق من الموضوعات القديمة المتجددة، وهو بداية منذ بدء الخليقة، وسيستمر الجدل حوله من مجتمع لآخر حتى قيام الساعة، ووضعت الأديان السماوية منظومة القيم والأخلاق في إطار تعبدي لأنها جاءت من رب العالمين الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه فأمره به، وما يضره فنهاه عنه؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14).

النظام السياسي الإسلامي يتميز بأخلاقه 

ويرفض مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة»

ولا يستطيع الإنسان السوي الفطرة أن يستغني عن الأخلاق في حياته، وقد بعث الأنبياء -وهم أفضل الناس ديناً وخلقاً- يدعون البشر لعبادة الله وتوحيده، والتمسك بمكارم الأخلاق، وتمثل الأخلاق في إسلامنا الحنيف ركناً رئيساً من 3 أركان، وهي: العقائد والعبادات والفضائل بما تتضمنه من أخلاق ومعاملات، والأخلاق نوعان؛ أولهما فطرية، وثانيهما مكتسبة، وقسمها البعض إلى أخلاق حسنة وأخرى سيئة.

وصف البعض السياسة بأنها «نجاسة» لأنها قائمة على المصالح، فما رأيكم؟

- هذا الوصف قائم على المبدأ الميكا فيلي «الغاية تبرر الوسيلة»، وللأسف فإن غالبية نظم الحكم الوضعية في العالم تقوم على هذا المبدأ المرفوض دينياً وعرفياً وأخلاقياً، ولهذا فهو أمر مرفوض شرعاً، وإذا نظرنا إلى لفظ «السياسة» في لغتنا العربية سنجده أشرف وأفضل مائة مرة من المفاهيم الوضعية –غربية أو شرقية- فالسياسة لدينا مرتبطة لدينا بما يصلح أحوال البلاد والعباد من خلال العديد من الوسائل، أهمها: الإرشاد والتوجيه والتهذيب والتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ونصت بعض المعاجم اللغوية أن السياسة القيام على الشيء بما يصلحه، لأن السياسة مشتقة من فعل «السائس» الذي يسوس الدواب ويوجهها إذا قام عليها، والسياسي هو الوالي يسوس رعيته بما يصلح شؤونهم، والسياسة الشرعية في منظورنا الإسلامي هي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، فقال صلى الله عليه وسلم: «كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي..»، ومعنى «تسوسهم الأنبياء» تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية.

ما النصوص الشرعية التي تقوم عليها الدولة في الإسلام؟

- النصوص كثيرة جداً، ولكننا نستشهد ببعضها، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ {37} وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {38} وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى)، وقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)، وقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء)، وقوله عز وجل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

الأنظمة العلمانية أباحت الزنى والشذوذ 

والإجهاض والقتل الرحيم


كيف كان الحكم في حياة الخلفاء الراشدين؟

- هذا يحتاج مجلدات، ولكني سأكتفي بما قاله الصديق أبو بكر يوم تولى الخلافة: «أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله».

وبدأ الصديق حكمه باختيار البطانة الصالحة التي تعينه على طاعة الله، وتحقق مصالح رعيته، جعل عبيدة بن الجراح الذي لقبه الرسول بـ«أمين الأمة» أقرب ما يكون لمنصب وزير المالية بتولي بيت مال المسلمين، وتولى الفاروق عمر بن الخطاب منصب القضاء، كما اختار بطانته الصالحة من كبار الصحابة مثل علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت.. وغيرهم الكثير.

ما خطورة تخلي الساسة عن التمسك بالقيم والأخلاق؟

- يقول الإمام ابن القيم بالنص: «وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها.. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه».

وقال الفضيل بن عياض: «لو أن لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان»، قيل له: يا أبا عليّ، فسر لنا هذا، قال: «إذا جعلتها في نفسي لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح، فصلح بصلاحه العباد والبلاد».

وقال الإمام أحمد: «وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري ومنشطي ومكرهي، وأثرة عليّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار»، وقال ابن تيمية: «ينصر الله الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة».

السياسة الشرعية هي قيادة الأمة وتحقيق 

مصالحها الدينية والدنيوية

وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي: «السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، ما لم يخالف ما نطق به الوحي»، وقال أبو عمر بن الصلاح: «.. والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك».

لكن بعض أبناء جلدتنا مفتونون بديمقراطية الحكم في الغرب، فما ردكم؟

- لا شك أن كثيراً من الأخلاق والقيم السابقة في نظام الحكم الإسلامي غير متوافرة من الدول العلمانية التي تقدم الديمقراطية على أنها أفضل نظام للحكم حتى لو أدى ذلك إلى حماية الإلحاد، السماح بالشذوذ ثم إقرار المثلية الجنسية، بل والتفاخر باللواط ودعمه عالمياً على أنه حق من حقوق الإنسان، وإباحة الإجهاض، والقتل الرحيم، وإقرار الزنى، وتوفير الحماية لأبناء الزنى، وزنى المحارم، وغيرها من الأمور التي ترفضها الأديان السماوية والفطرة السوية، 
ولكن المفتونين بالتغريب يجهلون تعاليم إسلامنا.

الدولة المدنية وسقف التبعية

الدولة المدنية وسقف التبعية
بادية شكاط 
امين عام منظمة اعلاميون حول العالم وعضو مؤسس

 

لقد بات لزامًا التفكير في صناعة فكرٍ بديل يُخرجنا من سطحية الفهم، ودوائر الوهم، التي لم تُبقِ ولم تذَر، فجعلت الدول العربية مختبرًا لكل الأيديولوجيات، ما ولَّى منها وما هو آتٍ، وسَنَامُ كل ذلك هو وضع مفهوم للدولة مستقلٍّ عن هاتِه المفاهيم الغربية السائدة، أو تلك الرجعية منها والبائدة، فما هو سائد الآن من مفهومٍ للدَّولة الحديثة قد كان له خلفياته البَعيدة بالنسبة للدول الغربية، لكننا ولأنَّنا قد فوَّضنا لهم مقام النصح والإرشاد، فقد سلَّمنا لهم بكلِّ رأي، وصِرْنا قُطعانًا طائعين، لا نَملِك مِن سبيل على أنفسنا غير أن نكون لهم خاضِعين، فنشأة الدولة المدنية الحديثة هي وليدة انفِجار عظيم، قد هزَّ أركان الفكر الغربي القديم، فما عصرُ التَّنوير إلا عصر قد أعقب عصورًا من الظُّلمات والويلات، تلك التي  كان فيها القياصرة الرومان يَحكُمون بسُلطةٍ سماويَّة مزعومة؛ فالقيصر في الوثنية هو ابن السماء، وفي المسيحية هو رئيس الكنيسة وحليف الكهانة التي جعلت من نفسها وكيلاً عن الإله يَنطق، فحكمت بما اشتهَتْ، ثم طغت وأفسدَت، ولأنَّ كل ذاك الخراب والتدمير، لا بدَّ له من تغيير، فقد برَز العديد من المفكِّرين والفلاسفة الذين رأوا أنَّ فِكرة الدِّين هي الفكرة التي لا مناصَ يَنبغي الافتكاك منها والخلاص.


ومِن بين القناعات التي لم يكن يَرقى إليها كثيرٌ من الشكِّ لدى مفكِّري القرن التاسع عشر أنَّ المكانة المركزية التي يَحتلها الدين في الثقافة والمجتمع قد غدت شيئًا ماضيًا؛ إذ اعتبر هيغل ومَن قبلَه مِن مفكِّري عصر الأنوار أنَّ العقل بذكائه المتفوِّق قد تخطَّى الدين، في حين صوَّر فويرباخ في كتابه جوهر المسيحية (1841) علاقةَ الإنسان بالألوهية على أنها لعبةُ قوًى محصِّلتها الصفر، ورأى أنَّ الإلحاح على الإيمان والتقوى يَنتقِص من رفعة الغايات الإنسانية، فظهرت بذلك تيارات الحداثة الثلاثة الرئيسية؛ وهي: النقد الماركسي بزعامة كارل ماركس، الذي رأى أنَّ الإنسان بوصفِه عالم الإنسان والدولة والمجتمع، هو الذي يَخلق الدين بوصفه الوعي المقلوب لعالم مقلوب، وليس الدين هو الذي يخلق الإنسان؛ ذلك أن الدِّين - في نظره - هو: "زفرة المخلوق المضطهَد، قلبُ عالم بلا قلب، وروح عالم بلا روح، الدين أفيون الشعوب"، وهذا ما يقتضي - حسب رأيه - إلغاء الدِّين كسعادة وهمية من أجل سعادة البشر الواقعية، لا بنَقدِ الدين واللاهوت، بل بنقد الأرض والحق والسياسة التي تخلق الدين واللاهوت.


أما التيار الثاني، فهو الجينالوجية النيتشوية، والتي أعلن من خلالها نيتشه - على لسان زرادشت - أنَّ "الله قد مات"، ووصَفَ المسيحية بأنها "أخلاقية العبيد"، أو مَنظومة اعتقادية عامية تلائم الخانعين الجبناء، ولم يقرِّظ من بين ممثلي المسيحية سوى أولئك الذين وجدوا متعةً بالغةً في وقوفهم أمام محاكم التفتيش التي كانت تأمُر بإحراقهم، فنظَر هذا الأخير بازدراء كبير للدين، ورأى أنه مجرَّد ملجأ للضعف وعقبة في طريق السوبرمان.


ثم تناول بعد ذلك الفيلسوف دريدا - من خلال مساحة واسعة من التفكيك - تلك التيارات في بُعدِها الإيماني والباطني فالعهدي.


فمن هيغل إلى دريدا بقيت فكرة اللائكية وفصل الدين عن الدولة هي الحل البديل  للتحرر من أهوال حكم كهنوتي تشيب له نواصي الولدان، غير أنَّ الدول العربية راحت تمجِّد - مِن غير فهم للمسببات، ولا وعيٍ بالإشكالات - هاتِهِ الأيديولوجيات، تمامًا كما قال أفلاطون: "فقط الحرَّاس يفكِّرون، أما البقية فيُطيعون"، وصارت منقسمةً بين علمانيِّين يُريدون فصل الدين عن الدولة، وإسلاميِّين يريدون دمج الدين في الدولة، فكان للأسف كلا الفريقين على ضلالة؛ ذلك أن العلمانية هي نتيجة تجربة تخصُّ الغرب وحدهم، كما أنها تَقتضي - كما بيَّن طه عبدالرحمن - الإفادة بأنَّ الدِّين شيء والدولة شيء آخر، فيكون الدين هو ما يتعلَّق بالمعتقدات الخاصة، والدولة هي ما ارتبَط بتدبير المعاملات العامة، في حين أنَّ الدين هو نهج تدبيري للسلوك في الحياة، متكامل العناصر ومُتداخِل الجوانب،  أمَّا أهل التأسيس القائلون بدمج الدين في السياسة، فهم كما قال طه عبدالرحمن أيضًا: هم الإسلاميون قولاً، العلمانيون فعلاً، فانحصَرَ الدِّين عندهم في جملة شعائر وطقوس، وجعلوه تابعًا للسياسة، ولو كان ذلك مخالفًا للشريعة، فكان دمجهم للدين في السياسة هو من أجل خدمة أغراض تسييسية تُتيح للدولة السيطرة على المواطنين دون رقابة، فتجعل الأحكام التشريعية على مقاساتها، كما أنَّ فكرة إقحام الدين في السياسة وهي تفنِّد العلمانية وتريد أن تكون بديلاً عنها هي في الحقيقة تُثبتها من حيث أرادت نفيها؛ لأنه لا يُراد إثبات عكس الشيء ونقيضه إلا إذا كان ذاك الشيء موجودًا على الحقيقة؛ إذ العلمانية غير موجودة أصلاً، بل هي فكر على الدول العربية دخيل، وليس له أي قواعد أو أصول، إنما هو مجرد خبَلٍ ينبغي أن يزول، فما كان يومًا الدين مُنفصلاً عن السياسة، وفكرة ضم الدين للسياسة في الدول العربية هي أشبه تمامًا بفكرة مَن يُنادي بضم الأبجدية للغة، وقد يقول قائل: لكن هاته الفكرة باتت موجودةً؟ نقول: نعم؛ بفعل التبعية العمياء، لأفكار عرجاء، فما كانت الدولة الإسلامية قبل المدنيَّة الحديثة إلا خلافةً، سواء بعد عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو في عهد الدولة العثمانية، إنما ونتيجة عوامل تاريخية تمزَّقت الخلافة وباتت مجرَّد أمجاد، تُروى عن الأسياد.

غب يا هلال

قصيدة غب يا هلال
لـ عبدالرحمن العشماوي 

غِبْ يا هلالْ
إنِّي أخاف عليك من قهر الرِّجالْ
قِفْ من وراء الغيمِ
لا تنشر ضياءَك فوْق أعناق التِّلالْ
غِبْ يا هلالْ
إني لأخشى أنْ يُصيبَكَ
- حين تلمحنا - الخَبَالْ
أنا – يا هلالْ
أنا طفلةٌ عربيةٌ فارقتُ أسْرتنَا الكريمَةْ
لي قصةٌ
دمويَّةُ الأحداثِ باكيةٌ أليمة
أنا – يا هلالْ
أنا مِن ضَحايا الاحتلالْ
أنا مَنْ وُلِدْتُ
وفي فمِي ثَدْيُ الهزيمَهْ
شاهدتُ يوماً عنْدَ منزِلِنا كتيبَهْ
في يومِها
كانَ الظلامُ مكدَّساً
مِنْ حول قريتنا الحبيبةْ
في يومِها
ساقَ الجنودُ أبي
وفي عيْنيه أنهارٌ حبيسَهْ
وتَجَمَّعَتْ تِلْك الذِئَابُ الغُبْرُ
فْي طلبِ الفريسَهْ
ورأيتُ جندِّياً يحاصر جسم والدتي
بنظرته المُريبَهْ
مازلتُ أسْمع – يا هلال –
ما زلتُ أسمعْ صوتَ أمِّي
وهي تسْتجدي العروبَهْ
ما زلتُ أبصر نصل خنجرها الكريمْ
صانتْ به الشرَفَ العظيمْ
مسكينةٌ أمِّي
فقد ماتتْ
وما عَلِمتْ بموْتتها العروبَهْ
إنِّي لأَعجب يا هلالْ
يترنَّح المذياعُ من طربٍ
ويَنْتعِشُ القدحْ
وتهيج موسيقى المَرحْ
والمطربون يردِّدون على مسامعنا
ترانيم الفرَحْ
وبرامج التلفاز تعرضُ لوحةً للْتهنئَهْ
( عيدٌ سعيدٌ يا صغارْ )
والطفلُ في لبنانَ يجهل منْشَأهْ
وبراعم الأقصى عرايا جائعونْ
والّلاجئونَ
يصارعوْن الأوْبئَهْ
غِبْ يا هلالْ
قالوْا :
ستجلبُ نحوَنا العيدَ السعيدْ
عيدٌ سعيدٌ ؟؟!
والأرضُ ما زالتْ مبلَّلَةََ الثَّرى
بدمِ الشَّهيدْ
عيدٌ سعيدٌ في قصور المترفينْ
هرمتْ خُطانا يا هلالْ
ومدى السعادةِ لم يزلْ عنّا بعيدْ
غِبْ يا هلالْ
لا تأتِ بالعيد السعيدِ
مع الأَنينْ
أنا لا أريد العيد مقطوعَ الوتينْ
أتظنُ أنَّ العيدَ في حَلْوى
وأثوابٍ جديدَهْ ؟
أتظنُ أنّ العيد تَهنئةٌ
تُسطَّر في جريدهْ
غِبْ يا هلالْ
واطلعْ علينا حين يبتسم الزَّمَنْ
وتموتُ نيرانُ الفِتَنْ
اطلعْ علينا
حين يُورقُ بابتسامتنا المساءْ
ويذوبُ في طرقاتنا ثَلْجُ الشِّتاءْ
اطلع علينا بالشذى
بالعز بالنصر المبينْ
اطلع علينا بالتئام الشَّملِ
بين المسلمينْ
هذا هو العيد السعيدْ
وسواهُ
ليس لنا بِعيدْ
غِبْ يا هلالْ
حتى ترى رايات أمتنا ترفرفُ في شَمَمْ
فهناكَ عيدٌ
أيُّ عيدْ
وهناك يبتسم الشقيُّ مع السعيدْ









أجيال الطوفان

 أجيال الطوفان

فمن الواضح أن اليهود في مأزق لن يستطيعوا الخروج منه بأنفسهم؛ فهم غير قادرين لا نفسيًّا ولا عقليًّا ولا ماديًّا على التعامل مع حالة ما بعد الطوفان، ولذا قام «ترامب» باستدعاء «نتنياهو» إلى واشنطن؛ حيث سيُسْمِعُه خطابًا إعلاميًّا كله تأييد ودَعْم، ولكن هنا

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بعد أكثر من أربعمئة وسبعين يومًا من الحرب الدامية؛ أُعْلِنَ عن التوصُّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى اليهود والمسجونين الفلسطينيين على مراحل.

وعندما نستعرض بنود الاتفاق، ونربطها بمُلابَسات موافقة نتنياهو؛ يتبين أننا أمام حدث استثنائي؛ فمن حيث المبدأ؛ نُفِّذَت -ظاهرًا- شروط ومطالب حماس لإطلاق الأسرى، والتي أُعلنت في بداية الطوفان. ومن ناحية أخرى يظهر أن حكومة نتنياهو مُجبَرة على تنفيذ الاتفاق، حتى مع تنفيذ «بن غفير» تهديده بالانسحاب مع حزبه من الحكومة.

 وكان دور «ترامب» محوريًّا في تنفيذ الاتفاق الذي كان جاهزًا تقريبًا وموضوعًا على الرفّ لمدة حوالي خمسة شهور، ولذا كان كلام الصحفيين المُحْرج لـ«بايدن» عندما تباهَى بأنه هو الذي قدَّم مسودة الاتفاق بسؤاله مباشرة: «هل نشكرك أم نشكر ترامب على إيقاف الحرب؟»

نعم، لقد حرص «ترامب» على إيقاف الحرب؛ لأن مسارها لا يناسب المصالح الأمريكية، ولذا فالمشروعات المرسومة في فترته الأولى مثل صفقة القرن، وما يتبعها من التطبيع الشامل، وتصفية القضية الفلسطينية، والتعامل معها من منظور اقتصادي بَحْت؛ لا تزال حيّة في ذهنه، ولذا فقد شدَّد على أهمية استكمال عملية التطبيع، ولكنَّه استدرك بأنه لن يضغط في هذا الاتجاه، مما يعني أن مَن يعتقد أن إسرائيل الحاضر والمستقبل نافعة له فلْيُقدِم.

وكذلك عندما تكلم عن غزة تكلم بأسلوب الرأسمالي عديم الضمير والأحاسيس الإنسانية؛ فقال: «إن غزة الجميلة تمتلك ساحلًا ساحرًا، ولكنها في حالة مزرية وغير قابلة للسكن، ولإعادة تأهيلها ينبغي أن يخرج أهلُها للجوار، وأنه تحدَّث مع ملك الأردن وسيتكلم مع الرئيس السيسي في ذلك».

وعندما سُئل: هل الخروج مؤقّت أم دائم؟ أجاب: كذا وكذا.

نعم، لقد وضع عينه على سواحل غزة الجميلة، وتخيَّلها بدون سكان ليُقيم عليها المشروعات الاستثمارية، ولا ننسى حقول النفط الغنية في مياه غزة؛ فأمريكا حريصة على موطئ قدم، بدأ بالرصيف العائم. ولكن من ردّ الأردن ومصر الصريح برفض الاقتراح يبدو أن ترامب لديه من المشاغل والمشروعات الإستراتيجية داخليًّا، وفي مجال أمريكا الحيوي، ما يمنعه من متابعة ملفات المنطقة الحساسة والمعقدة.

ولذا يُتوقع أن تتعامل أمريكا بحذر شديد؛ بحيث تُجمَّد كثيرٌ من الملفات، مثل توسُّع الكيان الصهيوني وقيادته للمنطقة، وكذلك ملف كردستان الكبرى، وتعثُّر مشروع تهجير أهل السُّنة من العراق والشام، المصحوب بانهيار الهلال الشيعي بعد سقوط النظام النصيري، وتمدُّد تركيا جنوبًا، وما صاحَب هذا من تراجع النفوذ الأمريكي في إفريقيا التي تتزايد حدة الصراع الدولي عليها في وقتٍ يبدو أن «أمريكا الترامبية» منشغلة بمشروع حيويّ لم تتضح معالمه كاملة؛ فشعار «لتعود أمريكا عظيمة»، يُمثّل مظلة نجد تحتها ضمّ كندا وقرين لاند، واستعادة قناة بنما من الصين، وفرض الرسوم والضرائب والمقاطعة لترويض الدول وتدمير التجمعات، وتعزيز الجدار العازل على حدود المكسيك المصحوب بإطلاق حملة طرد ملايين ممَّن سمَّاهم بالمجرمين؛ لمجرد دخولهم أمريكا بطريقة غير قانونية، وغالبيتهم من أمريكا الجنوبية. وبطريقة استعراضية اعتقلت الشرطة الأمريكية عدة آلاف، وقامت بترحيل المئات منهم مقيدي الأيدي على طائرات عسكري؛ ممَّا فجَّر أزمة مع كولومبيا التي هاجم رئيسُها «ترامب»، واتَّهمه بالعنصرية.

وبعد سلسلة من الإجراءات العقابية المتبادلة؛ تغلَّب «ترامب» على كولومبيا، ولكنَّه وضَع اللبنة الأولى لتمرُّد أمريكا اللاتينية القابعة خلف جدار الفصل العنصري.

ويُضاف إلى ذلك بوادر صراع داخلي يبدو أنه سيكون شرسًا، وقد يتحوَّل إلى دموي؛ فعمليات فَصْل آلاف الموظفين في الجيش ووزارة العدل والبيت الأبيض؛ ترافقت مع وعد ترامب بنشر وثائق سرية تمسّ قضايا اغتيال كلّ من «كيندي» و«مارتن لوثركنق»، وهو ما يعني دخوله معركة تكسير عظام مع الدولة العميقة قد يفقد فيها حياته، ولذا فلا وقت لديه للمعارك الجانبية؛ فحرب أوكرانيا يصفها «ترامب» بأنها سخيفة، ويجب إنهاؤها، و«بوتين» يصرَّح بأنه يمكن إجراء المفاوضات مع أيّ أحد، عدا «زيلنسكي»؛ لكونه فاقدًا للشرعية؛ ولذا فإنه لا يملك الحق بالتوقيع على أيّ شيء، وإذا كان يريد المشاركة في المفاوضات فسوف أُخصّص أناسًا لإجراء المفاوضات معه؛ مما يعني انتهاء مرحلة «زيلنسكي»؛ فـ«بايدن» وحلفاؤه حلَّ محلهم «ترامب» وأتباعه، وستكون أوروبا على موعد مع تحوُّلات جذرية مرتبطة بالتفاهمات غير المعلنة بين ترامب وبوتين العائد بقوة للساحة الأوروبية.

وأما بالنسبة لمنطقتنا، فمن الواضح أن اليهود في مأزق لن يستطيعوا الخروج منه بأنفسهم؛ فهم غير قادرين لا نفسيًّا ولا عقليًّا ولا ماديًّا على التعامل مع حالة ما بعد الطوفان، ولذا قام «ترامب» باستدعاء «نتنياهو» إلى واشنطن؛ حيث سيُسْمِعُه خطابًا إعلاميًّا كله تأييد ودَعْم، ولكن هناك أوامر صارمة ترسم ملامح صورة «إسرائيل الجديدة» المقبلة على تحديات مصيرية لا تتحمَّل ما تعيشه «إسرائيل» من تخبُّط وصراعات بينية على كلّ المستويات، ولذا ستُجْبَر حكومة نتنياهو على تطبيق وقف إطلاق النار، ولن يُسمَح لها بالعودة للحرب والتوسع؛ حتى تتفرغ أمريكا للمنطقة من جديد.

 وما نتمنَّاه هو أن يطول انشغال أمريكا داخليًّا، وفي مجالها الحيوي، ونرجو من الله أن يَقبل دعوات المظلومين الذين أَجرمت أمريكا في حقهم، وألّا تعود أمريكا إلى الساحة الدولية إلا وهي مُنهَكة، وأن يكون للمسلمين كلمة وفِعْل في رسم ملامح العالم ما بعد الطوفان، والذي بدأت ملامحه تظهر وتتضح.

 وسنبدأ في هذه الكليمات بالتركيز على تأثير الطوفان على محله المباشر، وعندما نتذكر الطوفان الأول أيام نوح -عليه السلام- نجد أننا أمام صورتين متقابلتين؛ صورة مَن حمله الطوفان إلى الأعلى فنجَا، ومن سحَبه الطوفان إلى الأسفل فهلك؛ ليدخل العالم في مرحلة ما بعد الطوفان؛ قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﮌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ  وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ﮮ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ  وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 40- 44].

نعم، كانت النهاية {بُعْدًا للقوم الظالمين}؛ بقدرة الله وتدبيره بعد ألف سنة إلا خمسين عامًا من الدعوة والصبر والمصابرة وتحمُّل الأذى والاستهزاء، ونحن نعيش حاليًّا ما أُطلق عليه تيمنًا «طوفان الأقصى»، وما يهمنا في هذا المقام هو أن نتفكّر في الأمر، ونحاول قَدْر جُهدنا فَهْم حقيقة التغيُّرات العميقة بعيدة الأثر؛ فقد تُشكل ما يمكن أن نسمّيه أجيال الطوفان التي تأثرت بالطوفان، وتشكّلت فكرًا وسلوكًا وقناعات، وهي أجيال كثيرة مبثوثة في أصقاع الأرض، وسنذكر جيلين، وعلى القارئ الكريم إطلاق العنان لنفسه لتتبُّع الأجيال الأخرى التي تغيرت ووُلدت من جديد.

نعم، نحن هنا سنُركّز على جيلين هم الأكثر تأثرًا بهذا الطوفان، وهما الشعب الفلسطيني العظيم، ومقابله شعب الشتات المزروع في هذه الأرض المباركة؛ فقد شهدنا حربًا مسَّت الجميع، وكما دُمّرت معظم غزة وتعرّض أهلها لضغطٍ هائلٍ لدفعهم لمغادرة الأرض، ولكنهم قاوموا وتحمّلوا القتل والتجويع والتخذيل، نعم تعرَّضوا لحربٍ شاملة؛ لدفعهم للتخلي عن حقهم في الحياة على أرضهم، ولكنّ مشهد العودة الجماعية على الأقدام، من الخيام في جنوب غزة، إلى موطنهم المُدمَّر -الذي حوَّله اليهود إلى مكان غير قابل للحياة بزعمهم-؛ مشهدٌ له دلالات عميقة؛ فالعائدون هم جيلٌ حمَلهم الطوفان، وجاء بهم، وسيستقرون ويُعمّرون المكان بروح اليقين بنصر الله وحفظه ورعايته.

فمَن تابَع حشود العائدين الذين تعالوا على الجراح وألم فقد الأحبة وخسارة الممتلكات؛ يجد أنه يَجمعهم حَمْد الله وشُكره، وثقتهم بأن مستقبلهم أفضل؛ فأحدهم كان حاملًا ابنته الصغيرة وابنه الرضيع، ويقول: «رحنا معنا واحد، ورجعنا معنا اثنين».

وفي المقابل، نجد أن مَن هُجِّر من شمال فلسطين وجنوبها من المستوطنين لم يعودوا؛ فهم يعيشون صدمة انكشاف الفشل العسكري والأمني، وانكشاف الوهم الذي كانوا يعيشونه حول تدميرهم للخصم وقضائهم عليه.

ومن هنا نفهم الصدمة التي يعيشها العدو، فحتى الأسرى نُلاحظ أنهم خرجوا وقد اكتشفوا عظمة الشعب الفلسطيني، وكم كانوا هم أدوات إجرام بحقّ أناس لطفاء ومؤدبين وشجعان. نعم لقد انكشف كيف أن الأسير الفلسطيني يُستقبَل استقبال الأبطال رغم حَنق اليهود ومنعهم لمظاهر الفرح، وأما أسير اليهود فيستقبله الأمن في تحقيق طويل لا فائدة منه ولا طائل؛ فالأسير دائمًا كان يشكر آسِرِيه؛ لأنهم حموه من جيشه، وسيعود لمجتمعٍ متخبّط بين يائس من المستقبل وبين صاحِب نزعة إجرامية سيكون أمامه الكثير ليفعله، وأمامه الكثير ليدفعه؛ فبُعْدًا للقوم الظالمين.

ومَن قارَن بين العودة لمكان مُدمَّر والخائف من العودة لمستعمرته؛ يعرف الفرق بين النائحة والثكلى؛ فشتان بين شعب حمله الطوفان ونجَّاه من الذل والمهانة، وبين جيل سيُغرقه الطوفان، فلم يَعُد لهم مستقبل في هذه الأرض، وإن غدًا لناظره قريب.

مصير قائد الدعم السريع بعد الهزيمة

مصير قائد الدعم السريع بعد الهزيمة



كاتب صحفي وأكاديمي سوداني


في ربيع عام 2023، انزلق السودان إلى أتون صراع مسلح دامٍ، تفجر في منتصف أبريل/ نيسان بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، ليضع البلاد على صفيح ساخن من المواجهات العسكرية.

وعلى مدار هذه الأشهر العصيبة، تمايل ميزان القوى بين الطرفين، فتبادلا السيطرة على الأرض، وحققا مكاسب ميدانية تارة، وتكبّدوا خسائر فادحة تارة أخرى.

غير أنّه في 28 مارس/ آذار 2025 أعلن الجيش السوداني أنه شن قصفًا جويًا على تجمعات قوات الدعم السريع في الفاشر، مؤكدًا أنه سيطر على العاصمة الخرطوم بشكل كامل.
هذا الانتصار يطرح عددًا من الأسئلة الملحة التي تتردد في أرجاء البلاد: هل تمثل هذه الانتصارات العسكرية بداية تحول إستراتيجي جذري ينذر بنهاية وشيكة وتامة لقوات الدعم السريع، أم أنها مجرد ومضات انتصار عابرة قد تتبدل معطياتها في غضون الأيام القادمة؟

في ظل هذه التحولات الميدانية، يلوحُ في الأفق سيناريو التفاوض كخيار محتمل، خاصة مع تزايد الحديث عن هزيمة مليشيا الدعم السريع. وهذا يستدعي بدوره استكشاف الخيارات المتاحة أمام هذه المليشيا في هذه المرحلة الحرجة.

ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن أي مسار تفاوضي لن يكون غاية في حد ذاته، بل سيخضع بشكل كامل للواقع الجديد الذي تفرضه هزيمة الدعم السريع، التي لم تعد مجرد تكهنات.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل تعقيدات الملفات الأمنية والسياسية الشائكة التي ستظل قائمة حتى بعد توقف الرصاص. فما هي التحديات الأمنية التي تنتظر السودان في تفكيك الشبكات المتبقية وضمان عدم عودة شبح العنف؟

وفي خضم هذه التطورات، قد يبحث قائد الدعم السريع، حميدتي، عن مخرج سياسي وسط تزايد احتمالات انهيار قواته، ولكن طريقه محفوف بالعقبات القانونية والرفض الشعبي المتصاعد.

هزيمة الدعم السريع.. دلالات ومعانٍ

تثير التطورات الأخيرة تساؤلات حول ما إذا كانت مليشيا الدعم السريع تواجه انهيارًا فعليًا، أم أنها تمر بمرحلة إعادة تموضع وتغيير إستراتيجي.

تشير تقارير إلى مواجهة القوات صعوبات لوجيستية كبيرة، بما في ذلك خسائر فادحة في الأرواح وفي الإمدادات والعتاد. وقد تعرضت لضربات موجعة منها ضرب مخازن الذخيرة في ولايات مختلفة، وتآكل شرعيتها؛ بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب صدرت بحقها تقارير أممية وإدانات دولية، بالإضافة إلى تراجع الدعم الإقليمي نسبيًا، نتيجة للضغوط الدولية.

رغم ذلك، تحتفظ المليشيا بسبب هذا الدعم لا سيما الدعم اللوجيستي من تشاد بقدرة على المناورة والقتال في مناطق متاخمة لها من دارفور، ولم تُهزم بشكل حاسم، مما يجعل الحديث عن انهيار كامل ربما سابقًا لأوانه. لكن الذي يمكن تأكيده هو أنها تمرّ بمرحلة ضعف إستراتيجي قد تؤدي إلى تفككها أو تحوّلها إلى حرب عصابات.

ولذلك من المرجح أن تعمد المليشيا إلى تكتيك حرب عصابات طويلة الأمد كخيار يائس، مستفيدة من تحالفاتها القبلية وخبرتها في القتال بمعاقلها التقليدية في دارفور. خاصة إذا ما حافظت على مصادر تمويلها المتنوعة، والتي تشمل شبكات تجارية وتهريب الذهب.

في المحصلة، قد يكون السيناريو الأقرب هو تحولها إلى حركة تمرد غير مركزية، تشبه تجارب بعض المليشيات في أفريقيا، بدلًا من بقائها كيانًا عسكريًا موحدًا.

وتعوِّل المليشيا على أن انتصارات الجيش انتصارات ظرفية ناتجة عن عوامل تكتيكية أو تغيرات في موازين القوى المحلية. ومع ذلك، فإن استعادة الجيش مواقع إستراتيجية في العاصمة الخرطوم، تعكس بدون شك تفوقًا إستراتيجيًا في قدراته العسكرية.

إذ يمثل تحرير القصر الجمهوريّ والوزارات السيادية في العاصمة أكثر من مجرد انتصار عسكري، إذ يحمل بعدًا رمزيًا وسياسيًا مهمًا، كونه يعيد تأكيد سلطة الدولة المركزية.

هذه الخطوة تمنحُ الجيش سيطرة على المؤسسات السيادية، ما يمكّنه من استئناف بعض المهام الإدارية والسياسية، حتى وإن كانت محدودة في البداية.

كما أن لهذا التطور تأثيرًا معنويًا، حيث يرفع من الروح القتالية للجيش، بينما يضعف معنويات قوات الدعم السريع. علاوة على ذلك، فإن السيطرة على هذه المقرّات قد تهيئ الظروف لعودة المؤسسات الحكومية إلى العمل بشكل تدريجي في العاصمة.

بيدَ أنه يبقى تحقيق الاستقرار الحقيقي مطلبًا يتطلب عملية سياسية شاملة تجمع جميع الأطراف، لتأسيس حكم رشيد ومستقبل مستقر للسودان.

وهناك تساؤلات جوهرية حول شكل الحكم المستقبلي، وسبل تحقيق المصالحة الوطنية، ومدى قدرة الجيش على إدارة إجماع سياسي يفضي إلى استقرار مستدام.

في سياق النظر إلى فترة ما بعد انتهاء الحرب، ومرحلة بناء السلام في البلاد يطرح مراقبون سياسيون تساؤلات حول خيارات التفاوض المتاحة لمليشيا الدعم السريع في حال تسليمها الكامل بالهزيمة.

لكن من الضروري التأكيد على أن تحديد هذه الخيارات بشكل قاطع أمر صعب، نظرًا لاعتماده على عدة عوامل متغيرة على أرض الواقع. ومع ذلك، يمكن تحليل السيناريوهات المحتملة والخيارات التي قد تلجأ إليها هذه المليشيا في مثل هذه الظروف، مع الأخذ في الاعتبار أن مفهوم "الهزيمة" نفسه قد يكون نسبيًا، ويتفاوت في تعريفه وتأثيره.

بشكل عام، يعني التفاوض من منطلق الهزيمة أن مليشيا الدعم السريع لم تعد في موقع قوة يمكنها من خلاله فرض شروطها، بل أصبحت في موقف أضعف كثيرًا.

هذا الوضع قد يدفعهم إلى التفاوض بهدف تحقيق عدة أهداف رئيسية، تشمل السعي لإنهاء القتال، وتقليل الخسائر في الأرواح والمعدات، ومحاولة الحفاظ على سيطرتهم على بعض المناطق أو على قواتهم ككيان، والتفاوض على شروط استسلام أو انسحاب آمن لقواتهم، والسعي للحصول على ضمانات بعدم ملاحقة قادتهم، ومحاولة الحصول على بعض المكاسب السياسية أو الأمنية حتى في ظل الهزيمة.

بناءً على هذه الأهداف، يمكن أن تشمل الخيارات المطروحة للمليشيا ما يلي:

  • المفاوضات المباشرة مع الجيش السوداني، والتي قد تتضمن الاستسلام بشروط محددة كتسليم الأسلحة، وتحديد مصير فلول قواتهم، وتقديم ضمانات لبعض الأفراد، أو التفاوض على وقف إطلاق النار، وانسحاب قواتهم من بعض المناطق، مقابل الحصول على ضمانات بعدم التعرُّض لهم، أو محاولة التفاوض على دور سياسيّ أو أمني محدود في المستقبل بشروط أقل تفضيلًا من تلك التي كانوا يطالبون بها في بداية الصراع.
  • كما يمكنهم اللجوء إلى المفاوضات بوساطة خارجية عبر جهات دولية أو إقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي، أو الأمم المتحدة، أو دول الجوار، مما قد يوفر لهم بعضَ الحماية أو هامشًا أكبر للمناورة، أو السعي للحصول على ضمانات من المجتمع الدولي بشأن سلامة قواتهم أو قادتهم كجزء من أي اتفاق.
  • وقد يلجؤُون أيضًا إلى تغيير التحالفات، أو البحث عن دعم جديد من قوى إقليمية أو دولية أخرى قد تكون لديها مصالح في المنطقة، على أمل تغيير ميزان القوى، أو التفكير في الانضمام إلى تحالفات عسكرية أو سياسية أخرى للحفاظ على وجودهم، أو تحقيق بعض أهدافهم.

كل هذه الخيارات مرهونة بموافقة الجيش ومدى تقديره لموقفه كطرف منتصر ومدى استعداده للدخول في مواجهة حرب عصابات ضد المليشيا في مناطق دارفور المختلفة.

وفي سياق ما بعد الحرب يبرز سؤال مهم وهو هل من مخرج سياسي لـ(حميدتي)؟ إذ إن المخرج السياسي لحميدتي يزداد تعقيديًا مع استمرار توالي هزائم قواته وتصاعد الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم حرب، مما يضيق خياراته بشكل كبير.

فالجيش السوداني والقوى السياسية المدنية تصر على ضرورة تنحيه عن السلطة ومحاسبته على أفعاله، مما يجعل أي حل تفاوضي يتطلب تنازلات كبيرة منه.

ومع ذلك، لا يبدو في الأفق أي مخرج سياسي في أفق الظروف الحالية، حيث يفضل الجيش وحلفاؤه تصفية نفوذه بشكل نهائي. فمن بين التحديات الرئيسية التي تواجه حميدتي ملفاته الجنائية، حيث إنه غدا مطلوبًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم في دارفور، بالإضافة إلى الرفض الشعبي الواسع لإدراجه في أي تسوية سياسية.

ورغم ذلك، تبقى هناك بعض السيناريوهات المحتملة، وإن كانت معقدة، فقد يلجأ إلى التفاوض عبر وسطاء إقليميين لضمان منفى آمن مقابل انسحاب تدريجي لقواته، على غرار ما حدث مع بعض قادة الحروب في إفريقيا. لكن يبقى السؤال حول أي دولة ستوافق على استضافته في ظل هذه الظروف.

التحديات والدروس المستفادة

تشهد البلاد في أعقاب هذه الحرب القاسية تحدياتٍ أمنيةً واقتصادية بالغة التعقيد، تتطلب معالجة شاملة ومستدامة لتحقيق الاستقرار والتعافي.

من أبرز هذه التّحديات وأكثرها إلحاحًا تحديان هما:

تفكيك الشبكات المتبقية التي خلفتها الحرب، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي تضرر بشدة.

إن تفكيك الشبكات الأمنية المتبقية وإعادة بناء الاقتصاد يمثلان تحديَين مترابطين ومتشابكين في السودان. يتطلب الأمر رؤية شاملة وإستراتيجية متكاملة لمعالجة هذه القضايا بشكل فعال.

يجب أن تركز الجهود على تحقيق الاستقرار الأمني، وبناء مؤسسات قوية، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية، وتعزيز المصالحة الوطنية لتحقيق تعافٍ مستدام وسلام دائم.

ومن التحديات الأمنية؛ أن انتشار الأسلحة بين المدنيين والمقاتلين السابقين يشكل تهديدًا أمنيًا كبيرًا، حيث يمكن استخدامها في أعمال عنف وجرائم. وقد تتشكل أو تتطوّر مليشيات قبلية مسلحة، مما يزيد من احتمالية الصراعات القبلية والنزاعات على الموارد.

وتواجه عمليّة تفكيك الشبكات المسلحة في السودان تحديات معقدة تتمثل في صعوبة تحديد مواقعها نظرًا لاختبائها في مناطق نائية أو معزولة، إضافة إلى تعقيدات تحديد هويات الأفراد بين مقاتلين ومدنيين أو تمييز الانتماءات التنظيمية.

كما يعاني الجيش والأجهزة الأمنية من نقص في الموارد والقدرات اللازمة لمكافحة هذه الشبكات بشكل فعال، بينما تزيد احتمالية مواجهة مقاومة مسلحة من هذه المجموعات من مخاطر تصاعد العنف.

ويتطلب النجاح في هذه المهمة اعتماد نهج متكامل يجمع بين العمليات العسكرية وبرامج إعادة الدمج والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع ضرورة تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة الشبكات العابرة للحدود.

إن تجربة الحرب تذكير مؤلم بالأبعاد المدمرة للصراعات المسلحة وأهمية العمل على تجنبها في المستقبل.

يمكن استخلاص العديد من الدروس الهامة من هذه التجربة: إذ إن بناء مؤسسات قوية وفعالة هو أساس تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. وبناءً على الظروف الراهنة، هناك احتمال قائم لتكرار أزمات مماثلة في السودان، أو في مناطق أخرى من العالم.

تساهم عدة عوامل في هذا الاحتمال، من بينها عدم معالجة جذور المشاكل التي أدت إلى الصراع في السودان، مثل التدخلات الخارجية التي تفتقر إلى المسؤولية قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات وزعزعة الاستقرار. كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، مثل الفقر والبطالة، يمكن أن تزيد من التوترات الاجتماعية واحتمالية اندلاع العنف.

لتجنب تكرار مثل هذه المآسي في المستقبل، يجب العمل على تعزيز مبادئ الحكم الرشيد والعدالة والمساواة، ودعم الحوار والمفاوضات الشاملة بين جميع الأطراف المعنية.

كما يجب معالجة الأسباب الأساسية للصراع من خلال الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والامتناع عن أي تدخلات خارجية قد تؤدي إلى تفاقم الصراع

وفي سياق هذه التطورات المتسارعة، استعادَ الجيش السوداني القصرَ الجمهوري والوزارات السيادية في الخرطوم كحدث مفصلي يحمل دلالات عميقة.

فهل تمثلُ هذه السيطرة عودة فعلية لهيبة الدولة ومؤسساتها، وإيذانًا بتغيير حاسم لمسار الحرب نحو نهاية محتومة، أم أنها مجرَّد انتصار عسكري يحمل رمزية سيادية قوية، دون أن يعكس بالضرورة استتباب الأمن والاستقرار الشامل؟