الخميس، 20 مارس 2025

إسبانيا وفلسطين والعرب وحضارة الأندلس!

 إسبانيا وفلسطين والعرب وحضارة الأندلس!

بقلم: د. محمود القاعود

تثير المواقف السياسية للحكومة الإسبانية تجاه القضية الفلسطينية.. وبالأخص الوضع في غزة الجريحة.. تساؤلات عديدة حول الأسباب التي تجعل إسبانيا تتبنى موقفًا داعمًا بشكل ملحوظ مقارنةً بالدول العربية التي يُفترض أنْ تقيم الدنيا ولا تقعدها.
في السنوات الأخيرة شهدنا تصريحات رسمية من مدريد تدين «العنف ضد الفلسطينيين».. وصولاً إلى اعترافها بدولة فلسطين في مايو 2024م وهو قرار لاقى ترحيبًا واسعًا من الفلسطينيين وانتقادات من إسرائيل.. في المقابل يبدو أنَّ بعض الدول العربية تتخذ مواقف مخزية أكثر تحفظًا أو صمتًا حيال الإبادة الجماعية في غزة.
يطرح البعض فرضية أنَّ هذا الموقف الإسباني قد يكون مرتبطًا بتاريخ طويل من التواصل الثقافي والتاريخي بين الإسبان والمسلمين خلال فترة حضارة الأندلس (711-1492م)..
فهل يمكن أن يكون هذا التاريخ الذي يجعل الإسبان «أحفاد المسلمين» بشكل رمزي.. هو الدافع وراء هذا الدعم؟
لقرون طويلة كانت شبه الجزيرة الإيبيرية مركزًا لحضارة إسلامية مزدهرة تحت حكم الأمويين والطوائف والمرابطين والموحدين..
خلال هذه الفترة التي امتدت مِن القرن الثامن إلى أواخر القرن الخامس عشر.. شهدت الأندلس تفاعلًا ثقافيًا وعلميًا بين المسلمين والمسيحيين واليهود.. أنتج تراثًا مشتركًا ما زال واضحًا في العمارة (مثل قصر الحمراء) واللغة (مع وجود آلاف الكلمات العربية في الإسبانية) والفنون..
وبعد سقوط غرناطة عام 1492م بدأت مرحلة محاكم التفتيش الكاثوليكية - التحول الديني القسري للمسلمين (المعروفين لاحقًا بالموريسكيين) - وانتهت بطردهم النهائي بين 1609 و1614م.
رغم هذا التاريخ المُظلم لمحاكم التفتيش الصليبية.. يرى بعض المؤرخين أنَّ الإرث الإسلامي ترك بصمة عميقة في الهوية الإسبانية..
على سبيل المثال يُشير الدكتور خوسيه ميجيل بويرتا أستاذ جامعة غرناطة.. إلى أنَّ العمارة والأدب والفكر الأندلسي يغذيان شعورًا بالحنين لدى الإسبان تجاه هذا الماضي المشترك..
لكن هل يمكن أن يمتد هذا الإرث الثقافي ليؤثر على السياسة المعاصرة؟
في سياق الحرب النازية على غزة اتخذت الحكومة الإسبانية بقيادة رئيس الوزراء «بيدرو سانشيز» مواقفَ بارزة..
ففي نوفمبر 2023م، زار سانشيز الشرق الأوسط وأدان بشدة العنف ضد المدنيين في غزة، داعيًا إلى وقف إطلاق النار.. كما أنَّ قرار الاعتراف بدولة فلسطين في 2024م جاء كخطوة رمزية وعملية لدعم الحقوق الفلسطينية..
هذه المواقف لاقت صدى واسعًا في الشارع الإسباني.. حيث خرجت مظاهرات حاشدة تضامنًا مع غزة..خاصة في مدن مثل برشلونة ومدريد.
في المقابل تباينت مواقف الدول العربية.. بينما أدانت دول مثل الأردن وقطر والمغرب العدوان على غزة بقوة..اتسمت مواقف دول أخرى بالتحفظ أو التركيز على الحلول الدبلوماسية دون ضغط مباشر على إسرائيل.. هذا التباين أثار تساؤلات حول لماذا تبدو إسبانيا وهي دولة أوروبية بعيدة جغرافيًا عن الصراع أكثر جرأة في دعم غزة من بعض جيرانها العرب.
الفرضية القائلة إنَّ الإسبان «أحفاد المسلمين» ولذلك يدعمون غزة تستند إلى فكرة أنَّ الإرث الثقافي والتاريخي قد يشكل هوية سياسية معاصرة.. من الناحية الچينية.. هناك بالفعل دراسات (مثل تلك التي نشرت في American Journal of Human Genetics عام 2008) تشير إلى أنَّ حوالي 10-20% مِن الحمض النووي للإسبان الحديثين يحمل آثارًا مِن شمال إفريقيا.. نتيجة قرون مِن الاختلاط في الأندلس.. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنَّ هناك «چينات عروبة» تؤثر على المواقف السياسية..
يُمكن تفسير الموقف الإسباني بعوامل أكثر واقعية:
- الضغط الشعبي: الإسبان لديهم تاريخ مِن التضامن مع القضايا الإنسانية.. كما يظهر في دعمهم للاجئين ولحركات التحرر. مظاهرات غزة تعكس هذا الشعور العام الذي يضغط على الحكومة لاتخاذ مواقف قوية.
- السياسة الداخلية: الحكومة الائتلافية اليسارية بقيادة سانشيز التي تضم حزب العمال الاشتراكي وحزب بوديموس تميل إلى تبني مواقف تقدمية تدعم حقوق الشعوب المضطهدة.
- التمايز الأوروبي: إسبانيا تسعى للتميّز عن دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا اللتين تتبنيان مواقف إجرامية انحيازًا لإسرائيل مما يعزز صورة إسبانيا كمدافعة عن العدالة.
في المقابل يمكن تفسير مواقف بعض الدول العربية المخزية بأسباب سياسية واقتصادية:
- الاعتماد على الغرب: دول عربية كبرى لها علاقات اقتصادية واستراتيچية مع الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بقوة..
الأولويات الشريرة: العديد مِن الدول العربية لا تأبه بالقضية الفلسطينية وتركز على تنفيذ سياسات أمريكا.
- التشتت السياسي: غياب وحدة عربية فعّالة يُضعف القدرة على تبني موقف جماعي قوي.
المفارقة التي تبدو في دفاع إسبانيا عن غزة أكثر من بعض العرب قد تعود إلى فرضية كون الإسبان «أحفاد المسلمين» بمعنى وراثي أو ثقافي مباشر.. ولعل هذا جعل الإرث الأندلسي يلعب دورًا رمزيًا في تعزيز التعاطف الشعبي..
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للتاريخ المشترك أنْ يظل مُحركًا خفيًا للتضامن الإسباني أم أنَّ السياسة الحديثة هي المفتاح الوحيد لفهم هذه المفارقة الإسبانية؟
في 20 مارس 2025م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق