إما مقاومة أو خيانة
من جنين المحتلة، تداول مواطنون وناشطون مقطعاً مصوّراً للمواطن الفلسطيني المحترم رائد طوالبة
صاح فيه جندي صهيوني: "اشلح البنطلون" فردّ رائد: "مش شالح، وإذا كنت راجل طخني"، مفضّلاً الموت على ذلك. ... يلخّص هذا المشهد قصّة غزّة ومقاومتها الاحتلال بكلّ الدقة والصدق، إذ المطلوب من الشعب الفلسطيني في غزّة أن يشلح ملابسه، ويخلع مقاومته، ويتخلّى عن شرفه كي يعيش كما يطلب منه العدو.
مُخطئ من يتصوّر أنّ ما تعيشه غزّة، وكلّ فلسطين اليوم، نتاج طوفان الأقصى، 7 أكتوبر (2023)، ذلك أنّ الطوفان كان نتيجة منطقية للردّ على ما تراه يتحرّك أمامنا الآن من تسارع في تنفيذ مشروع الهيمنة الصهيونية على المنطقة.
في كلّ عصر وفي كلّ مكان، المقاومة هي النتيجة المنطقية للاحتلال، وليس الاحتلال وتوسّعه نتيجة المقاومة كما يحاول أن يقنعك أبو مازن، وأتباعه الذين يرون أنّ المقاومة دمّرت غزّة، وليس عدوان الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أميركيًا وعرب واشنطن من أنظمة تنفّذ ما يطلبه نتنياهو بالحرف.
لم يذهب الفلسطينيون إلى "طوفان الأقصى" إلا بعدما رأوا أنّ مشروعاً عربيّاً صهيونيّاً مشتركاً أخذ في التحرّك الفعلي بعد التوافق عليه في أوّل قمّة تترأسّها إسرائيل وتحضرها دول عربية، في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، وبالتحديد في 28 من مارس/ آذار 2022 في مدينة النقب الفلسطينية المحتلة، التي اختارت تل أبيب لحضورها وزراء خارجية مصر والإمارات والمغرب والبحرين، ومعهم الولايات المتحدة، حيث وصفها رئيس حكومة الاحتلال في ذلك الوقت بأنها يوم تاريخي ومؤثّر جدّاً لإسرائيل التي أدرك العرب أخيراً أنها في خندق واحد معهم.
كانت فرحة وزير خارجية مصر، سامح شكري، بالتطبيع، وكلامه الرومانسي عنه بعد عودته من النقب الفلسطينية المحتلة، وتبتّل وزير خارجية الإمارات إلى العلاقة الإسرائيلية الحميمة، وندمه على كلّ ما ضاع من عمره وعمر الإمارات من غير تطبيع كامل ودافئ، وانتعاشة وزير خارجية المغرب، وكأنّه عائد للتو من المشاعر المقدّسة وقد اغتسلت روحه بماء التطبيع، وبهجة وزير خارجية البحرين بالعودة إلى الحضن الإسرائيلي... كانت كلّ هذه المشاهد تقطع بأننا دخلنا بالفعل مرحلة القيادة الإسرائيلية للشرق الأوسط، التي تُتيح لها فرصة القضاء نهائيّاً على المقاومة الفلسطينية.
خرجت قمّة النقب بمجموعةٍ من القرارات كان أبرزها تشكيل جبهة سياسية وأمنية موحّدة لمواجهة إيران، وتشكيل مجموعاتٍ في مجالات الأمن القومي، مكافحة الإرهاب، التعليم، الصحة، الطاقة، السياحة، والأمن الغذائي والمائي و... إدانة الإرهاب الذي صار تعريفُه المُعتمد عن الحلف الصهيوني العربي الجديد هو المقاومة، إذ تزامن انعقاد المؤتمر مع تنفيذ مقاومين فلسطينيين عملية الخضيرة البطولية، فلم ينس المجتمعون إدانتها وتأكيد التزامهم بمكافحة هذا "الإرهاب".
خرج الاحتلال بعد قمّة النقب في حالة سُعار استيطاني شملت الضفة الغربية والقدس المحتلة، وبدأ تنفيذ مشروع التهويد الكامل للمسجد الأقصى، وانطلق المستوطنون مسلّحين عن طريق حكومتهم في مهاجمة منازل الفلسطينيين لطردهم منها والاستيلاء عليها، مع ارتفاع أصوات الصهيونية الدينية معلنةً البدء بطرد ما بقي من الشعب الفلسطيني إلى خارج حدود فلسطين.
تلك كانت المقدّمات المنطقية لعملية طوفان الأقصى الباسلة، التي كانت النتيجة الحتمية لمخطّط يتمدّد لابتلاع كلّ فلسطين، وهي العملية التي لو لم تحدُث لكان ذلك هو غير المنطقي وغير الطبيعي وغير الإنساني، الأمر الذي أزعج معسكر قمّة النقب بقدر ما أصاب الكيان الصهيوني بالرعب، فكانت الخطيئة العربية الأولى إدانة الطوفان، ثم تراكمت الخطايا والخذلانات والخيانات حتى وصلنا إلى ما يشبه مشروعًا عربيّاً لفرض الحصار على غزّة حتى تستسلم وتسلّم سلاحها وتلعن مقاوميها، وهو ما تراه أمامك الآن على شاشاتٍ عربية.
هذا النوع من النضال "الفتحاوي" الجديد من أجل تكفير الشعب الفلسطيني بمقاومته وتصويرها أنها العدو، وليس الاحتلال، لن تجد له مثيلًا في التاريخين، القديم والحديث، إلا في قصص الأنبياء والرسل، الذين واجهوا حروباً ومؤامرات ودسائس وخيانات من الطغاة وعبدة الأوثان ومعدومي الشرف والمروءة، مع ملاحظة أنّ عرب الجاهلية في قريش بقيادة أبي جهل وأبي لهب كانوا أكثر مروءة ورجولة في عدائهم دعوة التحرّر من العبودية، من أحفادهم في عام 2025 في عدائهم دعوة التحرّر من الاحتلال.
كنّا نظن أنه عندما يكون الوطن محتلًا فإنّ المادة الأولى في دستور حياته هي المقاومة، حتى جاء زمن أبي مازن بمعادلة جديدة تقول عندما يكون الوطن محتلًا سلّم سلاحك ولا تقاوم عدوّك حتى لو أمرك بخلع ملابسك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق