التخبط الأمريكي في غزة
هل تملك إدارة ترامب رؤية موحدة متماسكة تجاه العدوان على غزة، وهل تتعامل مع منطقة الشرق الأوسط وفق رؤية استراتيجية متكاملة أم تتطور تصريحات إدارة ترامب بحسب تطور الأحداث ومستوى الضغوط الصهيونية عليها؟
مخطئ من يظن أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جاءت بتصورات واضحة وحاسمة لحرب غزة.
نعم.. قد يكون لترامب مشروع متكامل يتضمن مستقبلا للمنطقة يأتي عبر خطوات معينة للتطبيع بين دوله، وهذا ما يصرح به دائمًا ترامب ويكرره مستشاروه ومساعدوه، ولكن التعامل مع الحرب في غزة لا يزال يربك حسابات ترامب للوضع الذي يخططه لمستقبل المنطقة.
بل المتأمل قليلا في سلوك هذه الإدارة يلحظ التخبط والتضارب في تصرفاتها وقراراتها تجاه الحرب في القطاع، وذلك من أول يوم في استلامها القرار السياسي الأمريكي في أواخر يناير الماضي، خاصة أنها ليست مثل الإدارات السابقة التي كانت دائمًا تأخذ فترة من الوقت لاختيار المناصب والمساعدين، والتدقيق في الخطط والاستراتيجيات التي سطرتها الإدارة السابقة لها، بل إن هذه الإدارة متفردة في أنها قد صورت لنا أن استراتيجيتها معدة مسبقًا، وأنها ستشرع في تطبيقها فورًا، والمثير في الأمر أنها تفتخر بأنها بدأت بتنفيذ تلك الاستراتيجية المزعومة بالفعل قبل أن تبدأ ولايتها.
ولكي نلاحظ الاضطراب الذي تعاني منه إدارة ترامب في معالجتها لأزمة الشرق الأوسط وفي مقدمتها الحرب في غزة، يجب في البداية مقارنة أدائها بأداء الإدارة السابقة برئاسة الرئيس السابق جو بايدن ومواقفها من حرب غزة.
بايدن وحرب غزة
في أعقاب طوفان الأقصى، أبدى الرئيس الأمريكي تعاطفه وتضامنه الكامل مع الكيان الصهيوني بشكل عنيف وصارم، حتى أنه زار الكيان خصيصًا لإعلان تضامنه التام إزاء التصرفات الوحشية على تعبيره.
حيث أعاد بايدن تأكيد التزام واشنطن طويل الأمد بأمن إسرائيل، مؤكدا استمرار المظلة العسكرية الأمريكية وتقديم المساعدات المالية والمادية الكبيرة لها.
لقد تميزت استراتيجية بايدن بالتماسك، فهي من جهة تقدم الدعم الكلي للكيان في مواجهته لحماس، وفي نفس الوقت إدانة لفظية علنية لقتل المدنيين، بالرغم من إمداد الكيان بالقذائف ذات وزن الطن والطنين والتي تساعد على قتل أكبر عدد من الناس فضلا عن تخريب البنية الأساسية للقطاع، وعندما أبدى نتانياهو تعنتا تجاه نصائح بايدن بأن من مصلحة الكيان أن تأخذ الحرب على حماس شكلا آخر، بدلا من حرب العصابات، اضطر بايدن إلى إيقاف تصدير القذائف الكبيرة للكيان كنوع من الضغط.
ولكن في النهاية فإن الاستراتيجية التي اتبعتها إدارة بايدن، فشلت في تحقيق كل من الأهداف الصهيونية والأمريكية في تلك الحرب: فأهداف دولة الكيان والتي وضعتها في أعقاب طوفان الأقصى، والتي تتمثل في القضاء على حماس، واستعادة الأسرى، لم يستطع نتانياهو تحقيق أي منهما، فعجزت عن الوصول إلى أماكن الأسرى وبالتالي تحريرهم، كما أن الخسائر التي ألحقتها بالمقاومة، سرعان ما استطاعت المقاومة تجديدها سواء من حيث العتاد والأفراد.
من قبل وصول ترامب إلى الرئاسة في أمريكا للمرة الثانية، ومواقفه وتصريحاته متضاربة، وامتدت تلك الخصائص حتى بعد تسلمه المهام الرئاسية وقسمه اليمين. وبرصد بسيط نستطيع أن نكتشف كما كبيرا من تصريحاته المترددة |
أما الأهداف الأمريكية فهي الأخرى قد انهارت في عهد بايدن، والذي كان وراء مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج العربي وأوروبا، والذي تم عرض مسودته الأولى قبل الطوفان بشهر، وكان الممر المقترح سيمتد عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم يعبر إلى الأردن والكيان قبل أن يصل إلى أوروبا. ويشمل المشروع أيضاً كابلاً بحرياً جديداً وبنية تحتية لنقل الطاقة.
كما انهار هدف بايدن أيضًا المتعلق بالحرب والذي كان يرمي إلى وقف الحرب وإيجاد بديل لحماس من السلطة الفلسطينية.
وهناك ثلاثة أسباب رئيسة ساهمت في إفشال استراتيجية بايدن:
السبب الأول صمود المقاومة وقدراتها، فبايدن أيقن أن جيش الكيان لن يستطيع تحقيق أهدافه في حرب عصابات مريرة في أنفاق غزة، وقد عبر عن ذلك في مقابلة معه في مقابلة على شبكة "إم إس إن بي سي" الأمريكية قبيل مغادرته البيض الأبيض بأيام قليلة بعد فوز ترامب فقال: إن "الأنفاق التي أنشأتها حركة (حماس) مذهلة، حيث يصل عمقها أحيانًا إلى 60 مترًا، ولم تكن لدى أي شخص فكرة عن ذلك". وأضاف بايدن أنه "طالب رئيس الوزراء في حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لأول مرة بوقف إطلاق النار في غزة حينما تمادى كثيرا في محور فيلادلفيا وفي تدميره للمستشفيات".
أما السبب الثاني فيتعلق بنتانياهو، والذي كان ينتظر وصول ترامب إلى السلطة في البيت الأبيض، لأنه يعتقد أنه يمكن أن يسير في صفقة معه، بحيث يعطيه مقابل إذا أوقف الحرب في غزة، يتمثل في الاعتراف بالسيادة الصهيونية على الضفة الغربية، فعمد نتانياهو إلى عدم الانصياع لتوجيهات بايدن.
والسبب الثالث يتعلق أيضًا بنتانياهو، لأنه يدرك أن إنهاء الحرب معناه انهيار حكومته وتعرضه للمحاكمة ومن ثم انهاء حياته السياسية بفضائح.
والسؤال الآن هل هذه الأسباب لاتزال موجودة في عصر ترامب وبسببها سيتكرر الفشل؟
ترامب وسيناريو الفشل
من قبل وصول ترامب إلى الرئاسة في أمريكا للمرة الثانية، ومواقفه وتصريحاته متضاربة، وامتدت تلك الخصائص حتى بعد تسلمه المهام الرئاسية وقسمه اليمين. وبرصد بسيط نستطيع أن نكتشف كما كبيرا من تصريحاته المترددة
فبرصد خطاباته المتعددة، نجد أنه بخلاف حديثه الروتيني بأن هجمات حماس في 7 أكتوبر لم تكن لتحدث أبدًا لو كان رئيسًا، وأنه سيُوقف الفوضى في الشرق الأوسط، توالت تصريحاته المتضاربة.
ففي كلمة له ألقاها ترامب أمام تجمُّع يهودي في ولاية لاس فيغاس بعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، وصف ترامب الحرب بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة، بأنها معركة بين الحضارة والتوحُّش، وبين الأدب والفجور، وبين الخير والشر، وأنه في حال أُعيد انتخابه مرة أخرى للرئاسة، سنُبقي الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين (على حد تعبيره) بعيدًا جدًّا عن بلدنا، ثم مضى قائلاً: تذكرون حظر السفر؟ في اليوم الأول سأُعيده.
كذلك تعهَّد ترامب بأن يتم إلغاء تأشيرات الأشخاص الذي أظهروا تعاطفًا مع حركة حماس، وقال: وسنُخرجهم من جامعاتنا ومدننا، وسنُخرجهم من بلدنا، وقد بدأ بتنفيذ تلك الخطة بالفعل.
ولكن بعد تواصل القصف والاجتياح الصهيوني لغزة، أبدى ترامب تعاطفًا مع القتلى المدنيين في غزة، واندهش من كثرة الضحايا، ويُنقَل عنه قوله لرئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو: عليك أن تُنهيها، وتفعل ذلك بسرعة، وأضاف احصل على انتصارك وتجاوزه، الحرب يجب أن تتوقف، يجب أن يتوقف القتل.
وأشارت تقارير في الصحافة الأمريكية، إلى مطالبة ترامب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بإنهاء الحرب قبل حلول موعد تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير المقبل.
وعندما سُئل نائب ترامب جي دي فانس، حول ما إذا كانت الإدارة الجديدة ستدعم قرار إسرائيل حظر منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، أو إرسال مساعدات إنسانية أكبر إلى غزة؟ فأجاب: دعونا ننقذ أكبر عدد ممكن من أرواح الفلسطينيين، ولكن دعونا لا نُمكِّن الإرهابيين الذين يقتلون الإسرائيليين الأبرياء. يمكننا القيام بهذين الأمرين في الوقت نفسه.
ثم لم يلبث أن يعود ترامب وفي موضع آخر، وفي أول مناظرة إعلامية بينه وبين الرئيس بايدن قبل انسحاب الأخير من السباق، قال: إن إسرائيل هي مَن تريد أن تستمر في الحرب، ويجب السماح لهم بإنهاء عملها.
وفي سياق انتقادات وجَّهها لمنافسته كاميلا هاريس، قال: منذ البداية، عملت هاريس على تقييد يد إسرائيل بمطالبتها بوقف فوري لإطلاق النار، وهذا لن يمنح حماس سوى الوقت لإعادة تجميع صفوفها وشنّ هجوم جديد، على غرار هجوم السابع من أكتوبر.
ثم انتقل في مرحلة أخرى من تصريحاته، والتي يتم وصفها بأنها الأخطر، حين قال: إنه يتعاطف مع إسرائيل لكون مساحتها صغيرة! وأنه سيعمل على توسيع خارطتها.
وترجم ترامب كلامه هذا بإلقائه قنبلة تهجير أهل غزة وتحويل القطاع إلى ريفيرا بعد تهجير أهله.
ثم لم يلبث أن بدا متراجعًا، بعد صدور المبادرة المصرية والتي تبنتها الجامعة العربية.
وبعد أن جلس مبعوث ترامب للأسرى، آدم بولر، وكبار قادة حماس في أول لقاء مباشر بين قادة الحركة ومسئول أمريكي، تم الاتفاق على حل مبدئي بوقف إطلاق النار لمدة من خمس إلى عشر سنوات تلتزم فيها الحركة عدم مهاجمة الكيان الصهيوني، نظير إطلاق سراح الأسرى لديها، وانسحاب جيش الاحتلال من كامل القطاع.
ولكن ضغوط اللوبي الصهيوني أرغمت ترامب على التراجع مرة أخرى، وعاد الهجوم من قبل ويتكوف مستشار ترامب لشئون الشرق الأوسط على حماس وتحميلها المسئولية عن ما جرى.
وأعطت إدارة ترامب لنتانياهو الضوء الأخضر بمعاودة الهجوم على غزة، حيث سقط المئات من النساء والأطفال.
وفي اليومين الأخيرين عاد ويتكوف لينتقد نتانياهو ضمنيا، في مقابلة مع الإعلامي تاكر كارلسون مساء الجمعة الماضية.
وشدد يتكوف على إن السمعة التي يتحصل عليها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو هي أنه مهتم بالقتال أكثر من المحتجزين في قطاع غزة، وأضاف أنه يعتقد أن نتنياهو يريد استعادة الأسرى إذا كان ذلك ممكنا لكنه يعتقد أن الضغط على (حركة المقاومة الإسلامية) حماس هو السبيل الوحيد لذلك.
كما قال إن نتنياهو "يعتقد أنه يفعل الشيء الصحيح وهو يعارض في ذلك الرأي العام لأن الرأي العام هناك (داخل الكيان) يريد استعادة الرهائن"
وأضاف "إننا في مفاوضات الآن ربما لوقف بعض هذه الغارات الإسرائيلية وربما حل هذا الصراع عبر الحوار".
ويبدو أن الحكومة الصهيونية قد استاءت من تصريحات المسئول الأمريكي واعتبرته موقفا جديدا للولايات المتحدة، فقد أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت، بأن تصريحات المبعوث الأمريكي ويتكوف الأخيرة أثارت مفاجأة في الأوساط الإسرائيلية، إذ أظهرت أن الإدارة الأميركية لم تعد تتبنى رؤية نتنياهو حيال تطورات الملف الفلسطيني، وهو ما يشير إلى اتساع الفجوة في المواقف بين الجانبين.
ولكن بعد تصريحات ويتكوف بيومين، عادت أمريكا ترامب لتغيير موقفها ربما للمرة السادسة وتعود لتصريحات تهجير أهل غزة، وهذه المرة على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي في تصريحات لفوكس نيوز، حيث قال: أعتقد أن نقل الفلسطينيين خارج غزة فكرة عملية للغاية، ومن الجنون أن ننفق مليارات لإعادة إعمار غزة ثم نرى "إرهابيين" يهاجمون مجددا.
الواقع أن مواقف ترامب المترددة والمتغيرة والمتقلبة، تثبت افتقاده إلى استراتيجية متماسكة، وأن الرهان الوحيد لأهل غزة ومقاومتها، هو الثبات والصمود، والتي على صخرته ستنكسر بإذن الله غطرسة أمريكا وربيبتها الصهيونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق