مقدمة منهجية لدراسة تفسيرات المستشرقين والمتأثرين بهم للسيرة النبوية
د. محمد جلال القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن أحبه واتبع هديه، وبعد: –ذكر اللهُ العليم الخبير في كتابه أن بعضًا من المسلمين يتأثرون بخطاب الكافرين، أو يعاونون الكافرين على كفرهم وسعيهم في صدِّ الناس عن دين الله، يقول الله تعالى: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ (سورة التوبة: من الآية47) أي: «ضَعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم أو نمّامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم»(1).ومن قبل قدَّم المستشرقون والمنصّرون شبهاتهم على أنها قراءتهم-هم- للشريعة الإسلامية، وذلك حين كانوا يخاطبون من خَلْفهم من قومهم، أو-بالأحرى- حين كان مَن خلفهم لا يعرفون شيئًا عن الإسلام إلا من خلالهم هم.
وبعد أن أصبح التواصل ممكنًا بين الناس من خلال وسائل التكنولوجية الحديثة، وبعد أن تتلمذ نفرٌ من المسلمين على أيدي المستشرقين في البعثات العلمية وتعلموا من كتبهم التي انتشرت بيننا، وبعد أن شاع خطاب التنصير في الفضائيات ووسائل التواصل، راح هؤلاء (التلاميذ والمتأثرين) يقدّمون قراءة جديدة للسيرة النبوية (الوحي كتابًا وسنة) من خلال مذاهبهم العلمانية التي آمنوا بها (2).
ويمكننا وضع إطار نظري لفهم تفسيرات الكافرين والمتأثرين بهم يتكون من مقولة أساسية، وهي ادعاء «حتمية تأثير البيئة والعوامل الوراثية»، ويتفرع عن هذه المقولة مقولة أخرى فرعية وهي «التطور المعرفي».
ونرد عليهم من خلال مقولة رئيسية هي “فجائية الدعوة”. فهذه ثلاث مقولات يشكل الوعي بها إطارًا نظريًا أو مقدمة منهجية لدراسة تفسيرات المستشرقين والمتأثرين بهم للسيرة النبوية والرد عليهم.أولًا: ادعاء حتمية البيئة والعوامل الوراثية، والتطور المعرفي (3):
وانطلاقًا من هذه المقولة (حتمية البيئة، والتطور) يزعمون أن الإسلام متعدد حسب الزمان والمكان: إسلام مكة، وإسلام المدينة، وإسلام الراشدين، والأمويين، وهكذا (4)؛ ويزعمون: أن النص بعد أن صنعته البيئة الأولى تعرض لتأويلات متباينة تبعًا للزمان والمكان وتبعًا لحال من يقرأ الشريعة، فإسلام خاص بأهل السنة، وإسلام خاص بالمعتزلة، وإسلام خاص بأهل التصوف (5)!!
وانطلاقًا من هذه المقولة (حتمية البيئة، والتطور) ظهرت تفسيرات للبعثة المحمدية مثل: التفسير السياسي والاقتصادي للبعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة) (6)؛ والتفسير من خلال العبقرية والتخطيط الاستراتيجي (أو الصفات الشخصية) (7)؛ والتفسير من خلال النشاط المعرفي في بيئة الوحي (مكة والمدينة) وذلك بالزعم بأن النبي ﷺ تعلم على يد أقرانه واقتبس من اليهود والنصارى (8)؛ والزعم بأن النبوة تطور لعادات دينية وجدت قبل محمدٍ بن عبد الله ﷺ (9).
ونرد عليهم من خلال مقولة رئيسية هي “فجائية الدعوة”. فهذه ثلاث مقولات يشكل الوعي بها إطارًا نظريًا أو مقدمة منهجية لدراسة تفسيرات المستشرقين والمتأثرين بهم للسيرة النبوية والرد عليهم.
أولًا: ادعاء حتمية البيئة والعوامل الوراثية، والتطور المعرفي (3):
وتعني الزعم بأن البعثة المحمدية إفرازٌ للبيئة التي عاش فيها الرسول ﷺ أو الزعم بأن ما جاء به رسول الله ﷺ كان امتدادًا لما كان سائدًا في بيئته الصغيرة (قريش/ مكة المكرمة) خصوصًا والبيئة العربية عمومًا. والمتحدثون بحتمية البيئة يقولون بضرورة التطور المعرفي، فعندهم أن كل بيئة لها معرفة خاصة بها، وكلما تطورت (تغيرت) البيئة تطورت المعارف؛ ويعني التطور، بالضرورة، أن الواقع (البيئة) هو مصدر القيم.. أن الواقع هو الذي ينشئ الأخلاق ويؤسسها، ويعني، بالضرورة كذلك، النسبية، فما هو حرام هنا قد يكون مباحًا في بيئة أخرى!!
وانطلاقًا من هذه المقولة (حتمية البيئة، والتطور) يزعمون أن الإسلام متعدد حسب الزمان والمكان: إسلام مكة، وإسلام المدينة، وإسلام الراشدين، والأمويين، وهكذا (4)؛ ويزعمون: أن النص بعد أن صنعته البيئة الأولى تعرض لتأويلات متباينة تبعًا للزمان والمكان وتبعًا لحال من يقرأ الشريعة، فإسلام خاص بأهل السنة، وإسلام خاص بالمعتزلة، وإسلام خاص بأهل التصوف (5)!!وانطلاقًا من هذه المقولة (حتمية البيئة، والتطور) ظهرت تفسيرات للبعثة المحمدية مثل: التفسير السياسي والاقتصادي للبعثة المحمدية (الوحي كتابًا وسنة) (6)؛ والتفسير من خلال العبقرية والتخطيط الاستراتيجي (أو الصفات الشخصية) (7)؛ والتفسير من خلال النشاط المعرفي في بيئة الوحي (مكة والمدينة) وذلك بالزعم بأن النبي ﷺ تعلم على يد أقرانه واقتبس من اليهود والنصارى (8)؛ والزعم بأن النبوة تطور لعادات دينية وجدت قبل محمدٍ بن عبد الله ﷺ (9).
وإنَّ تَعَدُد التفسيرات مع تضاربها.. وإن تكرار الشبهة بعد الرد عليها؛ أمارة على أن المتكلم بالشبهة لا يريد جوابًا، وإنما يريد صرف الناس عن دين الله.
وبدهي أن ذات البيت وذات البيئة أنتجت الأضداد، فقد كان خير خلق الله ﷺ، وأبو طالب وأبو لهب، كانوا من بيئة واحدةٍ. بل ومن بيتٍ واحد «بني عبد المطلب بن هاشم»؛ ومن صلب رأس النفاق خرج ابنه «عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول»، وكان ممن يحب الله ورسوله؛ وفي بيت نبي الله نوح – عليه السلام- تربى ولده الذي كان من المغرقين؛ وفي بيت فرعون كانت آسية التي صدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين، وفي بيت نوح ولوط، عليهما الصلاة والسلام، امرأتان على غير ما عليه زوجيهما. فكيف يقال إنها البيئة وأنها العوامل الوراثية؟!
وإن التغيير الذي أحدثه الوحي لم يرتبط بمكة والمدينة، بل لم يرتبط بالجزيرة العربية، وإنما حدث في أماكن أخرى تختلف عنهم اختلافًا كبيرًا، كبلاد فارس وبلاد الترك، والمغرب العربي، والسودان، وأوروبا؛ وكذلك امتد التغيير لأزمنة مديدة ولم يقتصر على جيلٍ أو جيلين.
وإننا لم نتلق نصًا مكتوبًا يفهمه كل من شاء كيفما شاء، وإنما تلقينا نصًا بينٌ في ذاته (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) (البقرة:99)، ومبينٌ لغيره (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النور: 46)، وتم تطبيقه عمليًا في شخص الرسول ﷺ، وأصحابه -رضي الله عنهم-، وفي الحديث «كان خلقه القرآن»، وأمرنا بأن نكون على ما كان عليه الصحاب -رضي الله عنهم-، يقول الله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة: من الآية 137)، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فالنص ليس مفتوحًا لتأويلات لا نهائية كما يدّعي السماعون للكافرين (10).
أن البشرية كانت تنتظر رسولًا من الله.. يبشر به اليهود والنصارى وغيرهم. وبالبشارة بالنبي مبسوط في كتب السير والتفسير. ويعيننا هنا أن حال الناس وقتها هو التعلق بالله لإصلاح حالهم بخلاف حالهم اليوم بعد أن تحكمت العلمانية المادية (الوضعية) فأوهمت بعضهم بأن الإنسان قادر على إصلاح دنياه من تلقاء نفسه.
ومنها أن الرسول ﷺ عاش بين قومه أربعين سنة لم يفارقهم.. ظلّ بينهم حتى في المرتين اللتين سافر فيهما متاجرًا كان رفقة بعضهم؛ وخلال هذه العقود الأربعة لم يجلس لأحد متعلمًا، بمعنى أنه لم يتعرض لتطور معرفي انتهى بالرسالة.
وكذلك لم تؤثر فيه البيئة بأعرافها السائدة فقد كان مخالفًا لقريشٍ في دينها، لا يتقرب لأصنامهم، ولا يقف بمزدلفه مثلهم، ولا يلتزم بشعائرهم في الأعياد والمواسم، وذلك دون أن يكون له موجِّه أو مثيل من بينهم؛ حتى التأهيل الخلقي كان من الله كليةً (شق الصدر، وفي الحديث: أدبني ربي فأحسن تأديبي).
وفجأة بدأ يتحدث بحديثٍ آخر (القرآن الكريم) من جنس كلامهم ويخالف كلامهم صياغة (الآيات والسور)، وقراءة (الترتيل)، ومحتوى (الأخبار عن الله الخالق الكبير المتعال بغير ما يتحدثون، وعن الموت وما بعده، وعن السابقين واللاحقين، والشرائع، والتشريعات)، يقول الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48)، ويقول الله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (يونس:16).
وقل مثل هذا في حق الصحابة -رضي الله عنهم- فالذين وحدوا الجزيرة العربية تحت راية الإسلام وكسروا كسرى وأرغموا قيصر على ترك الشام وشمال أفريقيا ثم حاصروا عاصمته (القسطنطينة).. لم يتصلوا بغيرهم مطلقًا قبل فتح هذه البلدان، ولم يطوروا شيئًا من علوم الأرض. هؤلاء، الذين هم أهم حدثٍ في تاريخ البشرية، نبتوا فقط من الوحي (الكتاب والسنة)، يقول الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164).
والملاحظة الأهم، والتي تزيد من دحض الزعم بأن البيئة صنعت الوحي وأن التطور المعرفي مسلمة، استحضار أن الدعوة لم تتفاعل مع أسئلة مطروحة في البيئة التي بعث فيها رسول الله ﷺ بل أثيرت قضايا جديدة: عن الخالق سبحانه وعز وجل، وعن الخلق، وماذا يراد منهم وماذا ينتظرهم إن آمنوا أو كفروا، وعن الأنبياء، صلوات الله عليهم، والكتب المنزلة، وحال من كذب الرسل وحال من آمن واتبع؛ ووضعت تشريعات جديدة في التعامل بين الناس، وفي علاقة الناس بمن يحكمهم، فضلًا عن علاقتهم بربهم سبحانه وتعالى وعز وجل.
ألا إن معالجة الزعم بأن البيئة صانع وأن التطور حتمي عن طريق بيان فجائية الدعوة وجوهرية التغيير الذي أحدثه الوحي في الفرد والمجتمع، ومفاصلته للمناهج الأرضية حال نزوله، وهيمنته عليها بعد ذلك، من أهم المداخل لدراسة السيرة النبوية، ومن خلال هذا الإطار النظري يتم كشف كثير من المناهج الزائفة التي حاولت تحريف الكلم عن مواضعه، أو تلك التي أصغت للكافرين وتأثرت بهم وحاولت تقديم البعثة في قالب حداثي بقصد حسن أو بقصدٍ سيء.
وإن التغيير الذي أحدثه الوحي لم يرتبط بمكة والمدينة، بل لم يرتبط بالجزيرة العربية، وإنما حدث في أماكن أخرى تختلف عنهم اختلافًا كبيرًا، كبلاد فارس وبلاد الترك، والمغرب العربي، والسودان، وأوروبا؛ وكذلك امتد التغيير لأزمنة مديدة ولم يقتصر على جيلٍ أو جيلين.
وإننا لم نتلق نصًا مكتوبًا يفهمه كل من شاء كيفما شاء، وإنما تلقينا نصًا بينٌ في ذاته (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) (البقرة:99)، ومبينٌ لغيره (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النور: 46)، وتم تطبيقه عمليًا في شخص الرسول ﷺ، وأصحابه -رضي الله عنهم-، وفي الحديث «كان خلقه القرآن»، وأمرنا بأن نكون على ما كان عليه الصحاب -رضي الله عنهم-، يقول الله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) (البقرة: من الآية 137)، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فالنص ليس مفتوحًا لتأويلات لا نهائية كما يدّعي السماعون للكافرين (10).
ثانيًا: فجائية الدعوة:
حين تجمع المشهد قبل البعثة وبعدها بين يديك وتعيد النظر فيه مرة بعد مرة تستيقن من أن الله أغاث الناس بوحي منه- سبحانه وتعالى وعز وجل، أرسل به محمدًا بن عبد الله ﷺ، ولم يجتهدوا هم من تلقاء أنفسهم فخطوا الكتاب بما فيه من آيات بينات مبينات، وتشريع محكم على غير ما تعارفوا فيما بينهم، وأخبار عن ماضٍ لم يشهدوه، من أهم هذه الأمور:أن البشرية كانت تنتظر رسولًا من الله.. يبشر به اليهود والنصارى وغيرهم. وبالبشارة بالنبي مبسوط في كتب السير والتفسير. ويعيننا هنا أن حال الناس وقتها هو التعلق بالله لإصلاح حالهم بخلاف حالهم اليوم بعد أن تحكمت العلمانية المادية (الوضعية) فأوهمت بعضهم بأن الإنسان قادر على إصلاح دنياه من تلقاء نفسه.
ومنها أن الرسول ﷺ عاش بين قومه أربعين سنة لم يفارقهم.. ظلّ بينهم حتى في المرتين اللتين سافر فيهما متاجرًا كان رفقة بعضهم؛ وخلال هذه العقود الأربعة لم يجلس لأحد متعلمًا، بمعنى أنه لم يتعرض لتطور معرفي انتهى بالرسالة.
وكذلك لم تؤثر فيه البيئة بأعرافها السائدة فقد كان مخالفًا لقريشٍ في دينها، لا يتقرب لأصنامهم، ولا يقف بمزدلفه مثلهم، ولا يلتزم بشعائرهم في الأعياد والمواسم، وذلك دون أن يكون له موجِّه أو مثيل من بينهم؛ حتى التأهيل الخلقي كان من الله كليةً (شق الصدر، وفي الحديث: أدبني ربي فأحسن تأديبي).
وفجأة بدأ يتحدث بحديثٍ آخر (القرآن الكريم) من جنس كلامهم ويخالف كلامهم صياغة (الآيات والسور)، وقراءة (الترتيل)، ومحتوى (الأخبار عن الله الخالق الكبير المتعال بغير ما يتحدثون، وعن الموت وما بعده، وعن السابقين واللاحقين، والشرائع، والتشريعات)، يقول الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت:48)، ويقول الله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (يونس:16).
وقل مثل هذا في حق الصحابة -رضي الله عنهم- فالذين وحدوا الجزيرة العربية تحت راية الإسلام وكسروا كسرى وأرغموا قيصر على ترك الشام وشمال أفريقيا ثم حاصروا عاصمته (القسطنطينة).. لم يتصلوا بغيرهم مطلقًا قبل فتح هذه البلدان، ولم يطوروا شيئًا من علوم الأرض. هؤلاء، الذين هم أهم حدثٍ في تاريخ البشرية، نبتوا فقط من الوحي (الكتاب والسنة)، يقول الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164).
والملاحظة الأهم، والتي تزيد من دحض الزعم بأن البيئة صنعت الوحي وأن التطور المعرفي مسلمة، استحضار أن الدعوة لم تتفاعل مع أسئلة مطروحة في البيئة التي بعث فيها رسول الله ﷺ بل أثيرت قضايا جديدة: عن الخالق سبحانه وعز وجل، وعن الخلق، وماذا يراد منهم وماذا ينتظرهم إن آمنوا أو كفروا، وعن الأنبياء، صلوات الله عليهم، والكتب المنزلة، وحال من كذب الرسل وحال من آمن واتبع؛ ووضعت تشريعات جديدة في التعامل بين الناس، وفي علاقة الناس بمن يحكمهم، فضلًا عن علاقتهم بربهم سبحانه وتعالى وعز وجل.
ألا إن معالجة الزعم بأن البيئة صانع وأن التطور حتمي عن طريق بيان فجائية الدعوة وجوهرية التغيير الذي أحدثه الوحي في الفرد والمجتمع، ومفاصلته للمناهج الأرضية حال نزوله، وهيمنته عليها بعد ذلك، من أهم المداخل لدراسة السيرة النبوية، ومن خلال هذا الإطار النظري يتم كشف كثير من المناهج الزائفة التي حاولت تحريف الكلم عن مواضعه، أو تلك التي أصغت للكافرين وتأثرت بهم وحاولت تقديم البعثة في قالب حداثي بقصد حسن أو بقصدٍ سيء.
هوامش
(1) ينظر: «أنوار التنزيل وأسرار التأويل»، للإمام ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1418هـ)، ج3، ص83.
(2) مما ينبغي استحضاره هنا أن لكل معرفة سلطة تدعمها.. تحملها إلى عقول الناس وتمكنها من تشكيل سلوكهم، ولذا علينا أن نرصد مع الأفكار القوى الداعمة لها. ونبين للناس أن الفكر لا يتمكن إلا بقوى داعمه.. بالمعنى الواسع للقوى، ولكن هذا الأمر (السلطة الداعمة للخطاب) ليس موضوع المقال.
(3) وهذه المقولة هي قاعدة علم الاجتماع العلماني (الحديث) يتعاملون معها كمسلمة معرفية (قانون)، ومصدر الفكرة من عند ابن خلدون، يسميها “قوانين الاجتماع الإنساني”، ينظر: “ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر”، لعبد الرحمن بن خلدون، (بيروت، دار الفكر العربي، 1408هـ/1988م)، ج1، ص13.
(4) من الكتب التي ذكر فيها مثل هذا الافتراء، كتاب هشام جعيط «في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوة».
(5) جمع هذا النوع من الأقوال نصر أبو زيد في عدد من كتبه، مثل: «النص، السلطة، الحقيقة»، و«مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، و«إشكاليات القراءة وآليات التأويل»، و«فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين بن عربي»، وللوقوف على مناقشة نقدية لما قدمه “نصر أبو زيد” ينظر: “القراءة التأويلية لدى نصر حامد أبو زيد” لخالد القرني، (الرياض، وجوه للنشر والتوزيع، 1435هـ).
(6) من أمثلة الكتابات الحديثة التي ظهرت فيها هذه الأفكار كتاب “الربيع الأول” للأستاذ وضاح خنفر، وكتاب «مطلع النور» لعباس محمود العقاد، وكتاب «الحزب الهاشمي» و«حروب دولة الرسول»، لسيد محمود القمني. وهؤلاء على اختلاف ما بينهم إلا أنهم جميعًا ينطلقون من ذات النقطة (البيئة، والصفات الشخصية) ومقل ومكثر.
(7) من أشهر الأمثلة على ذلك ما خطه المؤرخ الأمريكي المشهور ديورانت في «قصة الحضارة»، وعباس العقاد في عبقرياته.
(8) ومن أشهر الأمثلة على ذلك كتابات القس الماروني «جوزيف قزي/ أبو موسى الحرير»، وخاصة الكتب الأربعة التي بدأ بها سلسلة «الحقيقة الصعبة» وهي: «قس ونبي»، و«نبي الرحمة» و«عالم المعجزات»، و«أعربي هو» كتابه «قس ونبي». وكتابات خليل عبد الكريم وخاصة كتاب «فترة التكوين» و«الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية».
(9) ظهرت هذه الأفكار جلية في كتاب توفيق فهد “الكهانة العربية قبل الإسلام: الكاهن، الكاهنة، النبي، الشاعر، الحازي، الساحر، الرائي، العراف، الرب، ذو إله، الحمس”، وظهرت أيضًا في كتابات نصر حامد أبو زيد.
(10) والمتحدثون بهذه الأقوال يطبقون، بقصدٍ أو بدون قصدٍ، مناهج الحداثيين في فهم الوحي، تحديدًا الانثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان طبيعيًا واجتماعيًا وحضاريًا) والهرمنيوطيقا (تأويل النص حسب الزمان والمكان الذي يقرأ فيه) والفينومينولوجيا (الوعي بالظواهر الاجتماعية وطريقة إدراك الشخص لها وكيفية حضور الظواهر في خبرته). وهذه المناهج تجتمع على شيء واحد وهو: إلى إلغاء المعيارية (وجود نموذج [معيار] يقاس عليه) في فهم الوحي!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق