الاثنين، 24 مارس 2025

الخطاب الصهيوني المراوغ (3 - 4)

 الخطاب الصهيوني المراوغ (3 - 4)


د. عبدالوهاب المسيري

7ـ استخدام أسماء مختلفة تشير إلى مسمَّى واحد أو إلى مسميات مختلفة توجد رقعة عريضة مشتركة بينها:

يستخدم الصهاينة اصطلاحات كثيرة مثل «الصهيونية السياسية» و«الصهيونية التصحيحية» و«الصهيونية العمالية» و«الصهيونية الدينية»... إلخ، وهي تيارات صهيونية عديدة يمكن اختزالها في نوعين اثنين: صهيونية استيطانية وصهيونية توطينية. كما يُشار إلى فلسطين المحتلة باعتبارها «اليشوف» أو «إرتس يسرائيل» أو «إسرائيل».

والأسلوبان السابقان في التعامل مع الدوال مسألة تضرب بجذورها في طريقة استخدام المصطلحات في التراث الديني اليهودي حيث نجد أن كلمة مثل «التوراة» لها عدة مسميات.

ـ استخدام مصطلحات لكل منها معنيان؛ معنى

 معجمي مباشر ظاهر ومعنى آخر حضاري كامن:

يستخدم الصهاينة عبارات تبدو بريئة وساذجة إن عُرِّفت حسب مجالها الدلالي المعجمي المباشر وحسب، ولكن معناها الحقيقي يتضح إن عُرِّف مجالها الدلالي من خلال المعجم الحضاري، فتعبيرات مثل «القانون الدولي العام» أو «القانون العام» أو «قانون الأمم» تعني في المعجم اللفظي دلالاتها الحرفية، ولكنها في المعجم الحضاري الغربي في القرن التاسع عشر تعني «قانون الدول الغربية الاستعمارية» أو «القانون الاستعماري الدولي». وينطبق الوضع نفسه على عبارة مثل «شركة ذات براءة»، فمعناها الحرفي أنها "شركة" حصلت على براءة لا أكثر ولا أقل، ولكنها في المعجم الحضاري والسياسي الغربي تعني «شركة استيطانية تشبه الدولة تقوم بنقل كتلة بشرية غربية وتوطِّنها منطقة في آسيا أو أفريقيا لاستغلالها اقتصادياً». ولذا، فإن المعنى الحقيقي (الاستعماري) لكثير من الدوال الصهيونية تتم تخبئته بعناية وراء الكلمات البريئة. ويمكننا أن ندرج مصطلح «السلام» أو «عملية السلام» تحت هذا التصنيف، فكلمة «السلام» قد تُركت مبهمة عامة، وهي يمكن أن تعني: «السلام الدائم» ـ «السلام العادل» ـ «السلام المؤسس على العدل»، ولكنها يمكن أن تعني أيضاً «السلام حسب الشروط الصهيونية/ الأمريكية». وسلوك الإسرائيليين وحلفائهم الأمريكيين يدل على أن المعنى الأخير هو المعنى المقصود.

ـ استخدام دوال تعبِّر عن مدلولات هي دون الحد الأدنى الصهيوني المعلن ولكنها تشير إليه:
لعل أهم الأمثلة على هذا الدال الذي استُخدم في مؤتمر بازل للإشارة للدولة اليهودية، فالصيغة الصهيونية الأساسية تم تعديلها في مرحلة هرتزل وبلفور وأصبحت الصيغة الشاملة بحيث أصبحت الدولة (الوظيفية) جزءاً من هذه الصيغة وهي الإطار المفترض لعملية نَقْل اليهود وتوطينهم وتوظيفهم. وهذا ما عبَّر عنه شعار المؤتمر الصهيوني الأول (1897): "تأسيس الدولة هو الحل الوحيد للمسألة اليهودية". وكان هرتزل قد دوَّن في مذكراته: "اليوم وضعت أساس دولة اليهود". ومع هذا، عند مناقشة القرارات، حاول المجتمعون أن يبتعدوا قدر الإمكان عن استخدام كلمة «دولة» في الإعلان النهائي كيلا يثيروا مخاوف السلطات العثمانية. كما أدرك واضعو البرنامج أن أكثرية اليهود لم تكن موافقة في ذلك الوقت على فكرة أمة يهودية، ومن ثم كانت ترفض فكرة الدولة اليهودية. ولذا، فقد اقترح الزعيم الصهيوني ماكس نوردو كلمة "هايمشتات Heimstatte"، وهي كلمة ألمانية مبهمة قد توحي بمعنى «الاستقلال» ولكنها لا تعني بالضرورة «دولة». ويقول نوردو نفسه إنه استخدم طريقة المواربة أو الدوران حول المعنى واقترح الكلمة المذكورة (ومعناها: بيت ـ دار ـ ملاذ ـ مأوى ـ موطن ـ منزل) كمرادف لكلمة «دولة»، ثم أضاف نوردو قائلاً: "ولكننا جميعاً فهمنا المقصود بها. وقد دلت آنذاك بالنسبة لنا على دولة يهودية كما هي الآن".

وكتب هرتزل في دي فيلت في 9 يوليه يقول: "الاحتمال الوحيد أمامي هو إنشاء «بيت» (ملجأ) بحماية «قانون الأمم» أو «قانون الشعوب" (فولكرشتليخ Volkerrechtlich) لهؤلاء اليهود الذين لا يمكنهم الحياة في مكان آخر". وحين وردت عبارة «قانون الأمم» أثناء المؤتمر، أثارت العبارة كثيراً من النقاش، فالبعض أخذ على هذه العبارة ما تتضمنه من الاعتراف بفكرة تَدخُّل الدول الغربية العظمى. ولذا، اقترح نوردو كلمة «رختليخ Rechtlich» ، أي «قانون» وحسب، فرُفض الاقتراح. وأخيراً، تم التوصل للصيغة المراوغة «أوفينتليخ ريختليخ Offentlich Rechtlich» أي «القانون العام»، فهي أوسع من كلمة «قانون» التي قد يُفهَم منها قوانين بلدية أو مدنية ولكنها لا تحمل معنى السيادة القومية أو أي شكل منها.

ويرتبط هذا الجانب من الخطاب الصهيوني بمقدرة الصهاينة على قبول الدوال (أو الحلول) المعروضة عليهم حتى لو كانت دون الحد الأدنى الصهيوني، مع تأكيد أن القبول أمر مرحلي مؤقت وأن المضمون الحقيقي للدال أو الحل يشير إلى الحد الأدنى الصهيوني الذي قد يكون من الخطر الإعلان عنه أو الإصرار عليه في مرحلة معيَّنة. وحينما أصدرت سلطات الانتداب عملة كانت هذه العملة تحمل كلمة «فلسطين» بالعربية وكلمة «بالستين Palestine» بالإنجليزية، ولكنها لم تحمل سوى حرفي إ. ي بالعبرية (وهما أول حرفين في عبارة «إرتس يسرائيل»)، فقد سُجل الحرفان تأكيداً لحقوق المستوطنين الصهاينة واكتُفي بهما دون العبارة كاملة حتى لا يتم استفزاز العرب. وقد قَبلت القيادة الصهيونية هذا الحل رغم اعتراض بعض "المتشددين"). وحينما عُرض على وايزمان قرار التقسيم (الذي أصدرته اللجنة الملكية عام 1937) فإنه لم يكن يشتمل على صحراء النقب، ولكنه قَبل القرار لأن النقب باقية في مكانها و"لن تجري" (وهو ما يعني إمكانية ضمها فيما بعد). وقد تكرَّر الموقف نفسه من قبل حين أصر بعض الصهاينة على رفض الكتاب الأبيض الأول وعلى عدم القبول إلا بميثاق يهودي، فقال وايزمان انطلاقاً من مبدأ العمل بما هو واقع بدلاً من الإلحاح على الحد الأدنى الصهيوني: "الكتاب الأبيض أمر واقع، ولكن الميثاق ليس كذلك".

وهذه حيل لفظية للمراوغة عمل بها الاستعماريون الإنجليز من قبل، فحين صدر وعد بلفور الذي ينص على أن فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، قَبله الصهاينة كتسوية مرحلية مع الإبقاء على الحد الأدنى. وهي حيلة قَبلها لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية إذ قال: "حين يأتي الوقت لمنح فلسطين مؤسسات نيابية ويصبح اليهود الأكثرية المطلقة في السكان، فإن فلسطين ستصبح كومنولث يهودياً"

كتاب "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"



الخطاب الصهيوني المراوغ ( 1 - 4)


الخطاب الصهيوني المراوغ (2 - 4)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق