السبت، 29 مارس 2025

لن يضرّوكم إلا أذى

لن يضرّوكم إلا أذى


. قـلـم الـتحـرير


وكما تجاهلت حماس تهديدات ترامب؛ فقد عاد الرئيس المطرود دون التوقيع على الاتفاقية، واستمر ترامب في توقيع الأوامر التنفيذية المثيرة للجدل والاضطراب؛ مثل تشديد إجراءات الدخول، وإلغاء وزارة التعليم، والحبل على الجرار؛ حتى أصبح الداخل الأمريكي بين خيارين؛ فإما


الحمد لله قاصم الجبارين، وفاضح المنافقين، وناصر المستضعفين.

فنحن بين هذه الآيات العظيمة؛ ﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٥]، ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30]، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5]؛ فخيبة هذا الجبار الخبيث محتومة، على الرغم من عناده وتكرار محاولاته وكيده، وأما إرادة الله فنافذة، والمسكوت عنه هنا هو الزمن، ولذا فقد أمرنا الله بالصبر والمصابرة والرباط، مع تقوى الله واليقين بوعده ووعيده.
ولذا فلا يمكن فَهْم الحدث الجزئي بدون أن يُوضَع في سياقه؛ ففي قصة يوسف كانت الرؤيا الدالة على تمكين يوسف أساسًا في اقتناع يعقوب -عليه السلام- بحياة يوسف، وكذلك هي أساس في صبر يوسف -عليه السلام- على الابتلاء؛ من الاستعباد، والسجن، ومعرفته أنها لا تُمثِّل نهاية مسيرة، بل هي محطات في الطريق المؤدي إلى النهاية السعيدة.

وفي خِضَمّ الأحداث التي تحصل أمامنا لا يمكننا

 تحليلها إلا بوضع نهايات متيقَّنة، وربطها بالأحداث

 الجارية. فمن النهايات المتيقَّنة: انتصار الطائفة

 القائمة بالحق والجهاد في سبيل الله الموجودة في

 أكناف بيت المقدس، كما بشَّر بذلك نبينا الكريم محمد

 صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تزال طائفة من أُمتي

 قائمة بأمر الله، لا يضرهم مَن خذلهم أو خالفهم، حتى

 يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس».[1]


وأما الأحداث الحالية ففيها الكثير من المُثبّطات والألم، وقد يصل الأمر بكثير من الناس إلى اليأس، وهذا كله من علامات قرب الفرج؛ فقد قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤].

ولكن هناك أيضًا ملامح لبروز مُبشِّرات من الضروري إلقاء الضوء عليها، ومن أهمها:

أولاً: على الرغم من الهالة التي أُحيط بها ترامب الذي كان يُكرِّر كثيرًا: «لو كنت في السلطة لما كانت هناك حرب لا في أوكرانيا ولا في غزة، وأنه سيُوقف الحروب العبثية فورًا»، ولكن وصوله للحكم أدخل العالم في دوامة محاولة فَهْم تصرفاته؛ فقد بدأ بتحرُّش غير مفهوم بأقرب حلفائه: كندا والمكسيك، وكذلك مع أكبر أعدائه، وهي الصين. ومن جانب آخر فقد كان التقارب مع بوتين مُريبًا، وأوقع أوروبا في حالة من القلق الشديد.

وعندما ندقّق النظر في شخصية ترامب، وطبيعة المحيطين به؛ نجد أننا أمام شخص استعراضي مُعتدّ بنفسه، مُحاط بمجموعة من الصهاينة والرأسماليين المؤيدين بشدة للكيان الصهيوني. وأما نائبه فهو مجرد شخص سطحي ساذج.

ومن القضايا التي يجب الوقوف أمامها: قضيتان مُهمتان؛ هما غزة وأوكرانيا. فقد طرح ترامب مشروعه لحل مشكلة غزة، والذي يتلخص في إجلاء أهل غزة إلى دول الجوار، وذكر الأردن ومصر. وأما غزة فسيُحوّلها إلى منتجع سياحي. وفي الحقيقة لا ندري، هل هي خطة مدروسة أم خواطر ذهنية؟! ولكن في فورة الزوبعة التي أثارتها الخطة استدعى ملك الأردن الذي صُدِمَ بطريقة الاستقبال، وحاول التخلُّص من الزاوية التي وُضِعَ فيها، والتي أصابته باضطراب لا تخطئه العين.

ومن ناحية أخرى، فقد فرض ترامب وقف إطلاق النار في غزة، وتم توقيع اتفاق من ثلاث مراحل، لم يُطبّق حتى أولها، ولكن عنوان المرحلة هو تهديد ترامب بفتح أبواب الجحيم؛ وهي «لازمة» كرَّرها نتنياهو ووزير دفاعه وكبار رجالاته.

وفي خِضَمّ نجاح المقاومة في إعادة قضية الأسرى للواجهة، ودق «إسفين» كبير في جسم الدولة والمجتمع اليهودي، ومع تشبُّث نتنياهو بالعودة للحرب كمَخْرج لأزمته؛ تتنامى المعارضة، فقد استُبعِدَت قيادات الجيش من وزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة كبار، وحاليًّا تتفاعل قضية عزل رئيس الشاباك والمستشارة القضائية للحكومة، وزاد الحراك في الشارع، وعاد الزخم للمظاهرات.

والذي يجري حاليًّا هو تخبُّط نتنياهو «الداهية» الذي نجح في سحب البساط من ترامب، ولكنه في الحقيقة لا يملك تصورًا لخطة عملية يمكن أن ترغب أمريكا في فَرْضها؛ فمبعوث ترامب للشرق الأوسط «ويتكوف» سارَع بإجراء مقابلة مع المذيع «تاكر كارلسون»، على منصة «إكس»؛ لتوصيل عدة رسائل؛ أهمها أن نظامَي الأردن ومصر مُهدَّدان بسبب تفاعل الشعوب مع غزة، وأن مصر تعاني من البطالة التي تصل إلى 45% بين الشباب، وحذَّر من أن تغيير النظام يعني أن أمريكا ستخسر مصر وضياع جهد سنوات طويلة، وهذا يعني أنّ قضية التهجير وُضِعَت على الرفّ، وبقي ترتيب غزة، وهي معضلة.

وفي توافُق عجيب أُعلِن أن الرئيس الأوكراني سيزور أمريكا لتوقيع اتفاق استيلاء أمريكا على نصف ثروات أوكرانيا المعدنية؛ للتعويض عن شحنات الأسلحة الأمريكية ودعمها لأوكرانيا في مواجهة روسيا، ولكن المقابلة كانت فضيحة؛ فترامب أرادها أمام الإعلام ليُذِلّ زيلنسكي، ويُظهِر عظمة أمريكا، ولكنّ الممثل الساخر زيلنسكي قلب الطاولة، وتبيَّن للجميع نَزق الرئيس وسذاجة نائبه، وخرق القواعد الدبلوماسية بعد طرد الرئيس الأوكراني من البيت الأبيض.

وبعدها صرَّحت الخارجية الروسية بـ«أن ترامب كان ينبغي له صفع زيلنسكي!»؛ في لفتة تجمع بين التشفّي بالرئيس الأوكراني والاستهزاء بترامب. ولكنّ محصلة المشهدين الواضحة التي فهمها زعماء العالم أن زيارة أمريكا المعتادة لمبايعة سيد أمريكا لم تَعُد رحلة مريحة.

وكما تجاهلت حماس تهديدات ترامب؛ فقد عاد الرئيس المطرود دون التوقيع على الاتفاقية، واستمر ترامب في توقيع الأوامر التنفيذية المثيرة للجدل والاضطراب؛ مثل تشديد إجراءات الدخول، وإلغاء وزارة التعليم، والحبل على الجرار؛ حتى أصبح الداخل الأمريكي بين خيارين؛ فإما تجاهل القرارات والالتفاف عليها، أو الدخول في صدام مستمر مع الإدارة الفيدرالية.

ثانيًا: من الواضح أن تصرُّفات الإدارة الأمريكية التي تحمل الكثير من الابتزاز المادي والحرب التجارية والتهديد، بل وشنّ ضربات عسكرية استعراضية على اليمن؛ قد دفعت إلى تشكيل واقع جديد؛ فزيلنسكي «الطريد» استقبلته أوروبا في لندن، وعرضوا عليه أن يعود برفقتهم لمقابلة ترامب والتصالح معه وإعطائه ما يريد، ولكنه فضَّل الذهاب لأنقرة، ومقابلة أردوغان؛ مما يعني الكثير لما تُمثّله تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي، خاصةً بعد دورها في إسقاط الأسد وبداية استقرار سوريا الجديدة؛ فرسالة بوتين وزيارة وزيرة الخارجية الألمانية وافتتاحها لسفارة بلادها؛ علامات لتسليم دول كبرى بالواقع الجديد، وعودة أوروبا مع تغيُّر السياسة الأمريكية إلى مرحلة الدول القومية، وأُفُول الاتحاد الأوروبي، وتوقُّع انقسام أوروبا بحسب تقديرها لأسلوب التعامل مع الروس الذين يحاولون تحقيق أكبر قَدْر من المكاسب قبل أن يُغيِّر ترامب موقفه.

ثالثًا: لقد أدَّى الاحتكاك الأمريكي الصيني إلى إعلان الصين -ردًّا على مقترح ترامب- على لسان وزير خارجيتها بقوله: «إن قطاع غزة مِلْك للشعب الفلسطيني، وجزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية»، وأضاف: «إن تغيير الوضع في غزة بالقوة لن يُحقّق السلام، ولكنه سيخلق فوضى جديدة»، مضيفًا بـ«أنه لا يجوز تحدّي إرادة الشعب أو نَبْذ مبدأ السلام». وهذا موقف مُهِمّ إذا أُضيف إلى طلب وزير الخارجية الروسي من نظيره الأمريكي الوقف الفوري لاستخدام القوة ضد الحوثيين.

مما سبق يتبين أن المنطقة شهدت تغيُّرات إستراتيجية؛ فبعد التفرُّد الغربي بأوراق اللعبة، جاء طوفان الأقصى ليُعيد قضية فلسطين إلى الواجهة، ويقلب الطاولة على مشروع سيادة الكيان اللقيط على المنطقة الذي رغم كثرة الحديث عنه إلا أنه يلفظ أنفاسه، وكذلك تهشيم مشروعَي كردستان الكبرى والتمدد الشيعي الإيراني، مع بروز كيان سُنّي جديد في الشام، سيتعاظم دوره في المنطقة بتجاوزه المؤامرات والعراقيل، وانشغال أمريكا بمحاولة التحكم في وليدها المشاكس، وكذلك إعادة فتح باب المندب، وهي مهام صعبة؛ حتى إنها لن تسمح لأمريكا والغرب المُفكّك الضعيف بالتدخل لمنع استكمال تصفية النفوذ العلوي في تركيا التي تشهد تغيُّرات هائلة؛ بدأت بإعلان عبدالله أوجلان -زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون- تبنّيه لمبادرة إلقاء السلاح، وهي خطوة مهمَّة، من أهم نتائجها: تفكّك الحزب، وإضعاف القيادات الكردية العلوية التي تسيطر على التنظيم، وبذلك فقد حزب الشعب الأتاتوركي المعارض أهم حليف له، وهو ما سمح بإطلاق حملة ضد رموز الحزب بدأت بأكرم إمام أوغلو.

ويبدو أن هذه الحملة يُقصَد بها كشف السيطرة العلوية، ومِن ثَم تقزيمها، وهذا مشروع مصيري لمستقبل تركيا، ولمستقبل الحراك السُّني في المنطقة؛ فخوف أمريكا من فقدان مصر والأردن أدَّى لعرقلة جهود «إسرائيل» ومنعها من المُضي قُدمًا في مشاريع التهجير التي لا يمكن تنفيذها بمعزل عن تغيير خرائط المنطقة، وهو ما يُمثّل مغامرة غربية خطيرة قد تكون نتائجها كارثية على النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ خاصةً مع التربص التركي الروسي الصيني الذي يُضاف إليه بعض الأطراف الأوروبية المتمردة، ولذا فخيارات نتنياهو في التعامل مع غزة محدودة، وسيقف عند حصارها، وما يتبعه من عمليات اغتيال وقتل جماعي، وهي أعمال لا يمكن أن تستمر، وسيتوقف هذا العبث بالمسلمين -بإذن الله-.

ونُبشِّر إخواننا الصامدين الصابرين بأنه لم ينتصر اليهود على المسلمين قط؛ فقد وصف ربنا حالنا معهم بقوله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ  ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 111 - 112]؛ فهذه هي العاقبة، وعلى أساسها ينبغي أن نَفْهم الأحداث الجزئية التي يُدبِّرها الله لتحقيق الوعد لنا والوعيد لأعدائنا.


[1] صحيح مسلم (١٠٣٧).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق