لغة الصحافة والتحليل السياسي
أ.د. حلمي القاعود
من الطبيعي أن تجري خلافات بين الدول وبعضها، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو إستراتيجية أو غيرها، فيسعى كل طرف لعرض وجهة نظره مدعومة بالأدلة والبراهين، وإقناع الطرف الآخر، والأطراف الدولية بسلامة موقفه، ويستخدم لغة تقترب من العقول والقلوب، وتبتعد عن السباب والشتائم والبذاءات وتقوم على البرهان والإقناع، لكسب الرأي العام على المستويين المحلي والخارجي.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وفي ظل الخلافات التي كانت مشتعلة بين ما يسمى الدول العربية التقدمية والأخرى الرجعية، هبطت لغة الصحافة والإذاعة إلى مستوى متدنٍّ للغاية، وكان الموقف المحرج عندما تتصالح هذه الحكومات، ويحضر الصحفيون والإذاعيون اللقاءات الرسمية ويلتقي المسؤول بمن شتمه وسبّه ووصفه بصفات بذيئة، وصوّره بصور قبيحة تظل محفورة في آذان القراء والمستمعين.
وفي إطار التلاحي البغيض بين بعض القوى التي تضع الإسلام في خانة العداء والخصومة، وترى أن كل من ينتسب إلى الإسلام «داعشي» ومتطرف وظلامي ينبغي محاربته وهجاؤه والنيل منه بكل الأساليب والوسائل، واستباحة التاريخ والجغرافيا لإلصاق الهجائيات البذيئة، والإهانات التي لا يسوغها مسوغ علمي أو فكري أو خلقي بشخصه وحياته.
كتب أحدهم أخيراً معلقاً على كلمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بمناسبة العدوان النازي اليهودي على غزة والضفة الغربية، وجهها لجماعة أمريكية، وأدان فيها أردوغان العدوان والقتلة النازيين اليهود، ولكن ذلك لم يرض الكاتب، ولم يدفعه للمقارنة بين الرئيس التركي والحكام العرب والمسلمين الذين لم ينطق كثير منهم بكلمة في قوة كلمة أردوغان ولم يقم منهم واحد بواجبه، بل كانوا عوناً للعدو، بالخذلان والضغط على الشعب الشقيق المظلوم، واستخدام الكلمات الناعمة في الحديث عن القتلة النازيين اليهود، والكلمات الخشنة عند الحديث عن المقاومة الباسلة، وكانوا صهاينة أشد وحشية من صهاينة اليهود الغزاة.
بدأ الصحفي المذكور تعليقه هكذا: «هجوم الحاكم التركي الآن على «إسرائيل» وأمريكا، ودفاعه عن الإسلام والأرض الفلسطينية، والخلافة الإسلامية، وإدارته لبلاده يذكرني -وليعذرني القارئ العزيز فيما أذهب إليه- باللص الذي يتحدث عن الأمانة، والعاهر الذي يعطي محاضرات عن الشرف، ورجل الدين الذي يرتكب جميع الفواحش في نفس الوقت الذي يقف فيه على خشبة المنبر ليعظ المصلين!
أكتب عن هذا السفه، وهذا العُهر بعدما ألقى الرئيس التركي كلمة معادية لـ«إسرائيل» ومؤيدة للفلسطينيين عبر رسالة فيديو موجهة لجمهور محدد، من مسلمي الولايات المتحدة، فالحرب بين البلدين الحليفين أقرب إلى الخيال»! بحسب ما جاء في موقع «روسيا اليوم».
كل هذه الصفات مرة واحدة يلصقها الكاتب بالرئيس التركي: «اللص غير الأمين، العاهر الذي يحاضر في الشرف، وعالم الدين الفاسد، السفيه، العلاقة بين تركيا وأمريكا أقرب إلى الخيال».
أردوغان الذي حارب اللصوص ورثة أتاتورك، وطهر بلاده من القطط السمان، وجعل العدالة تفرض نفسها على الكبار قبل الصغار.
كانت تركيا قد ورثت عن عهد العلمانية الأتاتوركية فتح الخمارات والملاهي، ودور البغاء وقانون القيافة الذي يفرض على المواطنين خلع الطربوش والعمامة، وضرورة ارتداء الزي الأوروبي، وإلغاء الحجاب بالنسبة للنساء، وفتح المساجد لمدة دقائق، ومنع الأذان وأداء خطبة الجمعة باللغة التركية بدلاً من العربية.. قام أردوغان بإنهاء هذه المظاهر العلمانية عملياً.
ولا أظن منصفاً يصف الرجل الذي أعاد روح الإسلام إلى الشعب التركي، يمكن أن يتهمه باللصوصية والعهر أو يشبهه برجال الكنيسة في انحرافهم وفسادهم، ويعلم الأتراك المعارضون قبل المؤيدين، أن أردوغان ابن الإسلام الذي يصلي ويصوم ويتلو القرآن الكريم، ويعيش حياة عائلية بسيطة، في ظل الوضوح والشفافية، ولم يخص نفسه بمبان فارهة ولا سيارات فخمة، ولا طائرات مذهبة!
ثم كان التغيير الأكبر بتحقيق نظام تداول السلطة، وإطلاق الحريات العامة، وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وإتاحة المنافسة بين الأطراف السياسية من خلال انتخابات نزيهة وشفافة يشاهد العالم نتائجها على الهواء مباشرة، ويخفق فيها رئيس وزراء سابق، أمام منافس معارض.
وحين يتهم المنافس المعارض بالفساد والتزوير؛ تخرج المظاهرات الصاخبة مؤيدة له يحرسها الأمن، وتعود إلى بيتها سالمة!
من المؤكد أن أردوغان ليس عاهراً ولا لصاً ولا فاجراً كما وصفه الأخ الصحفي، بل هو محب لوطنه وشعبه، ويعمل من أجل تقدمه علمياً واقتصادياً وصناعياً واجتماعياً وعسكرياً وسياسياً، هل سمعتم الآن عن قدرات تركيا الإنتاجية والتصديرية والتفوق والابتكارات في المجال العسكري خاصة؟
زرت إسطنبول عام 1993م، كانت القمامة تملأ ميدان تقسيم وشارع الاستقلال، أشهر شوارع المدينة، وكان المليونيرات يسيطرون على الإدارة والسياسة، ويستمتعون بالقصور الفخمة والسفن الفاخرة والزوارق الثمينة، وكانت الرشوة أمراً مشروعاً في المصالح الحكومية، لدرجة أنه كان يجب عليك أن تدفع لتصوّر مخطوطة في المكتبة الرسمية، أو لمجرد أن تطلع عليها، وقبل ذلك وبعده، وكان أصحاب العصا الغليظة يهيمنون على كل شيء!
ثم زرتها بعد 15 عاماً؛ فرأيت الدنيا تتغير تماماً وتتقدم، وسائق التاكسي يرفض البقشيش، والشوارع السريعة مزروعة بالزهور.
رجل يبحث عن مصالح بلاده، ويرفع من قيمة شعبه، ومن أجل ذلك لا يتأخر عن اتخاذ أي خطوة في سبيل رقي الوطن، حتى لو كان التعامل مع أمريكا.
ويعلم الناس أن حكوماتنا العلية من المحيط الأطلسي حتى تركستان، تلتمس ودّ رعاة البقر، وتسعى إلى الحصول على رضاهم، ودعمهم في مواجهة خصومهم ومنافسيهم، فما العجب أن تقوم تركيا بالبحث عن مصالحها مع رعاة البقر دون أن تفرّط في استقلالها أو سيادتها؟!
ثم إن أردوغان مهما كانت الآراء فيه والمآخذ عليه، جعل من بلاده رقماً صعباً في المجال الإقليمي، يؤثر ويفرض وجوده السياسي والدبلوماسي، من أجل بلاده، وكان تركيزه على المجال الاقتصادي تعبيراً عن ذكائه الفطري وفلسفته العملية (البراجماتية) التي تضيف إلى خزانة دولته بالإنتاج والتصنيع، ولا تخصم منها بالإنفاق السفيه، أو الاقتراض المذلّ.
يصرّ الأخ الصحفي على هجاء أردوغان فيصفه بالكذاب الأشر عندما وصف مكانة القدس في حديثه الموجه إلى القيادة الأمريكية بالخط الذي لا يسمح لأحد بعبوره، والسؤال: ماذا تكون القدس إن لم تكن خطاً لا يمكن عبوره؟ وهل قال علماء الأمه وفقهاؤها ومن يؤمنون بأوطانهم ومقدساتهم غير ذلك؟
هل يكذب أردوغان في حديثه عن القدس؟ لقد قال ما تعارفت عليه الأمة وآمنت به أن القدس وفلسطين وقف إسلامي لا يجوز التنازل عنه أو التفريط فيه مهما بلغت قوة العدو ووحشيته.
لماذا لا يوجه الأخ الصحفي انتقاده إلى من يجب عليهم مواجهة القتلة النازيين اليهود، ويطلب من الحكام العرب أن يجاهدوا بالمال والنفس والسلاح؟
أردوغان لا يتكلم العربية وشعبه يتكلم التركية، والأولى أن يتوجه الخطاب إلى من يعنيهم الأمر، ويتكلمون لغة القرآن، فالكارثة في بيتهم والحريق على أسطحهم، وحتى الآن لم ينهض جيش عربي واحد ليشارك في وقف المجزرة داخل غزة أو الضفة الغربية، مع أن العدو أعلنها بكل اللغات أن الكارثة ستمتد إلى كل البيوت المحيطة، وأن الحريق سيشمل كل الأسطح والسقوف، وأنه بالعربي الفصيح سيحتل معظم البيوت المحيطة.
كلمة الصحفي أمانة وهداية ورشد، تساعد الشعوب والأوطان على اكتشاف الطريق الصواب، وحين تنزع الأمانة من كلمة الصحفي نفاقاً، وتدليساً، وتضليلاً، فإن النتيجة لا تكون جيدة، ولا حسنة.
لا يكتفي الأخ الصحفي بإهانة أردوغان، ولكنه يحقر من الدولة التركية، ويذهب إلى تاريخها البعيد ليثبت وراثة أردوغان لأسلافه خلقاً وسلوكاً، وهذا لعمري أمر عجيب! أليس هذا ما يدعيه اليهود الغزاة القتلة في فسطين المحتلة؟
ولأن الأخ الصحفي لديه فيما يبدو قصور في قراء التاريخ، فإنه يتجاهل أن الغرب الصليبي واليهود والأرمن والشيوعيين والماسون عملوا على تمزيق الوحدة الجامعة للمسلمين، وكان قرارهم بعد الحرب العالمية الأولى إلغاء الخلافة، وتحويل تركيا إلى دولة علمانية تشطب الإسلام عملياً وتبقي على بعد رموزه، ويصبح أتاتورك عميلاً للغرب، لدرجة أن يوصي وهو يحتضر بتفويض السفير البريطاني في إسطنبول ليحكم الجمهورية التركية بعد رحيله.
لقد كان السلطان عبدالحميد يرحمه الله أول من تنبه للمخطط الشيطاني اليهودي، ورفض أن يكون لهم وطن في الأرض المقدسة، وكان ذلك سبباً في الإطاحة به وإلغاء الخلافة.
نحن في حاجة إلى قراءة التاريخ بعيون إسلامية وليس بعيون غربية أو يهودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق