الثورة السورية في مرمى الصراعات الدولية
شريف عبد العزيز الزهيري
أكثر من عامين مضت على الثورة السورية أو قل الملحمة الشامية ، مئات الآلف من القتلى والجرحى ، ملايين المهجرين والمشردين ، دمار شامل في جميع الأقاليم السورية ، مقتل وانشقاق معظم رجال بشار ، ومع ذلك كله ما زال الحسم الثوري للمعضلة السورية حلما بعيد المنال ، وكلما شعر السوريون باقتراب ساعة الحسم ، ودنو أجل الطاغية بشار وجنوده ، إذا بالأوضاع تنقلب متدهورة من جديد ، ويحقق الطاغية مكاسب ميدانية ، يحسّن بها من موقفه السياسي والعسكري والتفاوضي مع الأطراف الضاغطة ، و منذرة بعودة المسار العسكري للخلف عدة خطوات مؤثرة ، فهل أصبح من قدر السوريين أن تبقى ثورتهم تراوح بين أقدامها كل هذه الفترة الطويلة ، حتى تصل جميع أطراف المعادلة السورية إلى كلمة سواء ؟ أم كان عليهم أن يبذلوا أكثر مما بذلوه من دماء وأرواح وممتلكات ومشردين ؟ أم أنها فاتورة التوازنات الإقليمية والدولية ، وضريبة الصراع العالمي التي يجب على السوريين دفعها وتحملها ، إن هم أرادوا فكاكا من هذا الطاغية السفاح ؟
فقد تصاعدت الأحداث في سورية من يوم الخميس الماضي على أكثر من جبهة حيث استطاعت القوات الموالية للطاغية بشار من استعادة السيطرة على حي بوسط مدينة حمص ، وفصلت بين جيبين منعزلين للمعارضة المسلحة في ثالث كبرى المدن السورية. وذبحت قرابة المائة مدنيا على الأقل في بلدة البيضا ، معظمهم نساء وأطفال ، وشهدت البيضا نزوحا كبيرا لساكنها هربا من سكاكين السفاح بشار ، وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الجيش السوري يسانده ضباط إيرانيون ،ومقاتلون من حزب الله يحكم الحصار على مقاتلي المعارضة في مدينة حمص وسط سوريا ، وقد سيطرت هذه القوات المشتركة على أجزاء كبيرة من حي وادي السايح.
هذه المكاسب الميدانية الأخيرة التي حققتها في المناطق المحيطة بحمص مكنت شبيحة الأسد من القيام بأفظع مجزرة عرفتها سوريا منذ اندلاع الثورة السورية حتى كتابة هذه السطور ، فقد حاصرت هذه القوات بلدتي البيضا والمقرب ، على الطريق إلى مدينة بانياس الساحلية ، من يوم الخميس في أحدث مرحلة في حملة لتأمين الطريق ، وسيطرت على بلدة القيسا شرقي دمشق في إطار زحفها نحو الشمال من المطار على الطرف الجنوبي الشرقي ، لتكوين محور للسيطرة ، يقطع محاولات الدخول إلى المدينة من الشرق ، كما يقطع خطوط الإمداد بالسلاح عبر الحدود الأردنية ، ومن أجل تنفيذ هذه الخطة قام السفاحون بذبح قرابة ال 500 مدنيا من رجال ونساء وأطفال في البيضا وبانياس الساحلية بالسكاكين والسيوف ، في مشهد فاقت ضراوته ووحشيته كل مذابح الصليبيين والتتار والصهاينة في أمة الإسلام .
هذا التحول الميداني لصالح شبيحة الأسد ، والذي تواكب مع الدخول الفعلي والعلني لقوات حزب الله الشيعي اللبناني في معادلة الصراع ، بالإضافة لقوات الحرس الثوري الموجودة فعليا في دمشق منذ شهور طويلة ، جعل حدة الصراع على أرض سوريا تأخذ منحنى جديدا في ظل إصرار النظام الباطش السوري على إدخال الثورة نفق الطائفية البغيضة ، والتي ستجعل دائرة الصراع تمتد من نطاقها السوري إلى نطاقها الإقليمي ، وربما الدولي .
الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوري الممثل في نظام باطش دموي ، وشعب ثائر يرفض العبودية أكثر من ذلك ، منها أطراف تدخل لصالح النظام ، وأطراف أخرى لصالح الشعب ولكن بنسب متفاوتة .
روسيا والصين وإيران وحزب الله اللبناني ، وكل شيعي على وجه الأرض ، كل هذه الأطراف تعمل لصالح النظام الأسدي المستبد ، ولكل عنصر في هذا الطرف حساباته الخاصة وإستراتيجياته التي حددت دوره في منظومة هذا الصراع ، فالمشترك السياسي والاقتصادي والإستراتيجي بين روسيا والصين ، جعلهما يتبنيان نفس الموقف من الصراع السوري ، فهما يشتركان في نفس المخاوف والحسابات والإستراتيجيات ، ويشتركان أيضا في نفس الضجر من المواقف والسياسات الأمريكية . أما إيران وحزب الله والشيعة في كل مكان ، فمنطلق الانحياز مع نظام الأسد ضد شعبه منطلق عقائدي طائفي محمّل بموروثات تاريخية بالغة القتامة ، فالنظام الأسدي علويا شيعيا باطنيا ، والغالبية الساحقة من السوريين أهل السنة ، كما أنه يوجد اعتبارات أخرى سياسية وإستراتيجية تتعلق بالاحتفاظ بفراغات إستراتيجية للنفوذ الإيراني ، ومجالات للتمدد الإيراني في المنطقة ، وإبقاء حالة التوازن الإستراتيجي على وضعها القائم ، والاحتفاظ بأوراق الضغط والابتزاز لدول المنطقة .
أما الطرف الآخر من المعادلة فهو الشعب السوري الحر ، والذي يقاتل حتى آخر رمق من أجل التخلص من نير العبودية للأسد ونظامه ، ودول إقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا و الأردن تقدم دعما نوعيا وانتقائيا للثوار السوريين ، ولكنه لا يكفي وحده لردع الآلة العسكرية للأسد وحلفائه ، وهي دول لها مخاوفها واعتباراتها السياسية ، في ظل وجود أقليات شيعية منتشرة في كل دول المنطقة ، وهي أقلية قلقة موتورة تحمل كثيرا من الضغائن ، وعلى استعداد تام للثورة ونشر الفوضى في هذه البلاد ، في اللحظة يطلب منهم سادة قم ذلك . وكما يوجد أيضا دول خارجية ممثلة في أمريكا والاتحاد الأوروبي ، ترغب في التخلص من الأسد ، ولكنها في نفس الوقت تخاف من نوعية وطبيعة خلفائه ، في ظل تنامي وبروز قوة وشعبية جبهة النصرة الذراع الجهادي الإسلامي الخالص للثورة السورية ، والركيزة الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط هي الحفاظ على أمن وسلامة الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين ، وقد عبرت الإدارة الأمريكية صراحة عن هذه المخاوف بقول أحد المسئولين النافذين فيها : " لو قرر أوباما إرسال الأسلحة، فربما لن تشمل صواريخ مضادة للطائرات التي تطلق من على الكتف، وهو ما يرغب فيه الثوار بشدة ويلحون في طلبه ، لأن هناك قلق ومخاوف من عواقب هذه الخطوة، ليس أقلها أن أحد الصواريخ قد تستهدف يوما ما مطار بن جوريون في إسرائيل" .
في ظل هذه الرغبات المتباينة والسياسات المتقاطعة ، أصبحت الثورة السورية في مرمى الصراعات الدولية ، ويدفع الأبرياء والعزل من دمائهم وأرواحهم الثمن الباهظ ، في كل يوم تمضي على الثورة السورية ، دون تحقيق حسم حقيقي لها ، وقد أيقن سفاح دمشق هذه الحسابات الدقيقة لمنظومة الصراع الدولي ، فرفع سقف وحشيته للدرجة التي فاقت خيال إبليس نفسه ، وها هو يضرب شعبه بالأسلحة الكيميائية ، غير مبال بعقوبات أو تهديدات ، فأمريكا التي ضربت العراق بناء على أكذوبة امتلاك صدام لأسلحة دمار شامل ، لن تقدم على تكرار تجربتها مع بشار الأسد ، حتى تجد كرازي أو جلبي أو مالكي سوري ، ينفذ لها أهدافها ويحافظ على مصالحها ، ويقضي على قوة الإسلاميين بسوريا ، وحتى تظهر هذه الشخصية ، فلن تقدم أمريكا أو أوروبا على مساعدة السوريين ، لأن أمن الصهاينة أهم وأخطر عندهم من دم كل شعوب المنطقة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق