قمح مصر.. وكهنة المعبد!
شعبان عبد الرحمن
.. وجرَّد كهنة المعبد حملة غير مسبوقة لجمع محصول القمح من المزارعين وتخزينه بمعرفتهم؛ حتى لا تنجح خطة نبي الله يوسف، عليه السلام، في ادخار القمح؛ انتظارًا لسنوات الجدب والقحط، والتي تحدَّث عنها القرآن الكريم في سورة «يوسف»؛ {تّزًرّعٍونّ سّبًعّ سٌنٌينّ دّأّبْا فّمّا حّصّدتٍمً فّذّرٍوهٍ فٌي سٍنًبٍلٌهٌ إلاَّ قّلٌيلاْ مٌمَّا تّأًكٍلٍونّ (يوسف)، وجمع الكهنة ما أمكن جمعه من المزارعين بأضعاف سعر السوق وخزنوه في مخازنهم، بينما كان قرار يوسف توزيع بطاقات أو صكوك على كل من يبيع الدولة محصوله من القمح؛ ليسترد منه ما يشاء عندما تُقْبِل السنوات العجاف.. سنوات الجفاف.
وعندما حدث القحط، وهجمت سنوات الجفاف..
ذهب الكهنة ليُخرجوا مخزونهم فوجدوه قد افترسه السوس والعفن! فأسقط في أيديهم، وفجع المزارعون الذين باعوا لهم محاصيلهم، فقد كان الاتفاق على البيع بثمن أعلى من السعر الذي عرضه يوسف، عليه السلام، على أن يستردوا من مخازن الكهنة ما يحتاجون عند القحط، لكن ذلك كله بات هباءً منثورًا، بينما مَنْ سلَّم يوسف قمْحَه قدَّم ما معه من مستند وقت القحط فبات في مأمن، وحصل على ما يحتاج من القمح..
يومها كان الذين باعوا قمحهم للكهنة منخدعين بدعايتهم المضلّلة، وكانوا يحاولون الوقوف في صفوف صرف القمح من خزائن يوسف عليه السلام، لكنهم لا يحملون ما يثبت أحقيتهم في قمحهم، ولما استحكمت أزمتهم وكادوا يُقبِلون على مجاعة قاتلة، لم يقبل سيدنا يوسف بذلك، وأمر بمنحهم ما يحتاجون من القمح.. وتلك أخلاق النبوة.
على الجانب الآخر، أُصيب الكهنة بالصدمة، وهُزموا شرَّ هزيمة في آخر معاركهم ضمن حربهم الطويلة على يوسف الصديق.. وتخطت مصر السنوات العجاف التي تنبأ بها يوسف، وعاشت أزهى عصورها، وتبدد كيد الكهنة، وزال صولجانهم، وتهدمت معابد كذبهم، واستقرت نهايتهم في مزبلة التاريخ.. هكذا تروي القصة المستوحاة من القرآن، والتي تحولت إلى مسلسل رائع شاهده ويشاهده الملايين.
لقد طافت بي تلك المشاهد وأنا أتابع حرائق حقول محصول القمح المتتالية في مصر، وافتعال الأزمات في توريده، وسط أخبار عن ترتيبات وتهديدات من كهنة هذا الزمان لإفشال موسم حصاد هذا العام الذي وصل الإنتاج فيه إلى معدل غير مسبوق، وبما يمكن أن يقفز بمصر إلى الاقتراب من الاكتفاء الذاتي.
لقد أسفرت حملة كهنة هذا الزمان -حتى كتابة هذه السطور- عن حرق ما يقرب من 215 فدانًا يصل إجمالي إنتاجها حوالي 5590 إردبًا، باعتبار أن متوسط إنتاج الفدان يصل إلى 26 إردبًا.
ووفقًا لتسلسل الأحداث، فقد بدأت العمليات المجهولة لإحراق محصول القمح في 26/4/2013م؛ حيث أتت النيران على فدان و8 قراريط بمحافظة سوهاج..
وفي نهاية الشهر، التهم حريق 12 قيراطًا بالمنوفية، وذلك بعد يوم واحد من احتراق 7 أفدنة أخرى، ليس هذا فحسب، بل التهمت الحرائق في اليوم نفسه 5 أفدنة من القمح بقرية «صناديد» بطنطا بمحافظة الغربية، وفي 1 مايو أنقذت العناية الإلهية 10 أفدنة من الإتلاف بعدما نشب حريق في أجران القمح بقرية «الصعيدي» بالفيوم، وفي اليوم التالي (2 مايو) قام مجهولون بإحراق فدان في «أبو صوير» بمحافظة الإسماعيلية، وتسببت الحرائق في إتلاف إنتاج 26 فدانًا من بينها مزرعة بالمنيا، وإتلاف إنتاج 11 فدانًا، إضافة إلى 10 أفدنة تمت السيطرة على النيران قبل تلف القمح، وفي «مشروع الصالحية الزراعي» بمحافظة الشرقية التهمت النيران 153 فدانًا، ومازال المتهم بالحادث حتى الآن هي أبراج الضغط العالي!
تلك عيِّنة من الحرائق، ومازالت النيران تُضْرم في حقول جديدة خلال كتابة هذه السطور، وأعتقد أن تلك الجريمة لن تتوقف حتى تأتي على أكبر مساحة من القمح؛ لإفشال مصر من الاقتراب من الاكتفاء الذاتي من هذا الغذاء الحيوي.
والذين يخططون لتلك الجريمة وينفذونها لا يسعون فقط لإفشال الرئيس وإسقاط الحكومة، وإنما يسعون للبقاء على مصر وشعبها رهينة للغرب وسطوته في أهم طعامها، فرغيف الخبز هو سيد الطعام في مصر؛ ولذلك فهو يساوي في أهميته أسلحة الجيوش، وقد ظل احتياج مصر له سيفًا مصلتًا على رقاب الشعب يسوقه إلى التبعية الذليلة لسياسات الغرب بواسطة حكومات فاسدة وفاشلة، ولذا فإن تحول مصر من أكبر مستورد للقمح في العالم إلى الاكتفاء الذاتي يكسر هذا السيف، ويرفع سطوة التبعية عن كاهل شعبها.. هي إذن معركة تحرير جديدة للإرادة والقرار، وذلك ما يفجِّر غضب الغرب من جانب، ويحرِّك أحقاد كبار المستوردين الذين امتلأت كروشهم بمليارات السمسرة، وامتلأت كروشهم بمليارات القمح المغشوش الذي ملأ أجساد المصريين بأمراض فتَّاكة، وإن شاء الله تعالى ستتحول هذه المليارات نارًا في كروشهم يوم القيامة.
ولقد تابعنا خلال العقود الماضية ضغوط الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي على مصر؛ حتى لا تفكر في الاقتراب من تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وقد كشف الراحل يوسف إدريس في مقال له بـ«الأهرام» في تسعينيات القرن الماضي عن خطاب رسمي من صندوق النقد الدولي للنظام المصري آنذاك؛ يحذر من زراعة مساحات إضافية من القمح وإلا ستتوقف المساعدات، وخضع النظام للتهديد، وتحولت تلك المساحات لزراعة الفراولة والكنتالوب!
إن القمح يعدُّ أمْنًا قوميًا بالنسبة لمصر، والاكتفاء الذاتي منه لا يقل أهمية عن حماية الأرض والحدود من أي عدوان؛ ولذلك فأنا أستغرب لماذا لم تضع الحكومة المصرية، وهي تحقق إنجازها الكبير بالاقتراب من الاكتفاء الذاتي، لماذا لم تضع خطة تأمين مُحْكَمة لمزارع القمح وعمليات توريده وتخزينه بمشاركة الجيش والشرطة واللجان الشعبية؟
فكهنة العصر لن يتوقف مكرهم، ولن تتوقف محاولتهم لتدمير ما يستطيعون من ذلك المحصول، وأسأل الله تعالى أن يحبط مكرهم (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
Shaban1212@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق