الاثنين، 3 فبراير 2014

عن أسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن

عن أسطورة الصراع بين القاهرة وواشنطن

من الأساطير التي يروج لها البعض في وسائل الإعلام أن ثمة صراعا بين القاهرة وواشنطن، وأن الأخيرة تحيك المؤامرات ضد النظام القائم في مصر.
(1)
يوم 27 يناير/كانون الثاني الماضي أصدرت وزارة الدفاع الأميركية بيانا ذكرت فيه أن اتصالا هاتفيا تم بين وزير الدفاع تشاك هيجل والمشير عبد الفتاح السيسي، تناول ثلاثة أمور، هي: الوضع بعد الاستفتاء على الدستور الجديد، ومظاهرات ذكرى 25 يناير التي تخللها بعض أعمال العنف، والخطوات القادمة في العملية الانتقالية.

وأضاف البيان أن الوزير الأميركي قدم للمشير السيسي العزاء في ضحايا العمليات الإرهابية وعرض مساعدة بلاده للإدارة المصرية في مواجهتها الإرهابيين.

هذا الاتصال لم يكن الأول من نوعه كما أنه ليس الأخير، ولكنه يحمل رقم 34 في الحوارات المستمرة بين الوزيرين منذ شهر يوليو/تموز الماضي، والتي باتت تتم بمعدل مرة كل أسبوع تقريبا.

لم يكن الاتصال بين وزيري الدفاع الأميركي والمصري الأول وليس الأخير من نوعه، لكنه يحمل رقم 34 في الحوارات المستمرة بين الوزيرين منذ شهر يوليو/تموز الماضي، والتي باتت تتم بمعدل مرة كل أسبوع تقريبا
ومن قراءة البيانات التي تعلنها وزارة الدفاع الأميركية، نلاحظ أن الموضوع الأساسي في تلك الاتصالات هو تطورات الوضع السياسي الداخلي في مصر، الأمر الذى ينفى الأخبار التي تروج لها وسائل الإعلام المصرية، التي تتحدث عن تآمر أميركي على مصر، ذلك أنه من غير المعقول أن تستمر الاتصالات وتنتظم على ذلك النحو في حين تمضى الإدارة الأميركية في تآمرها على النظام الذى يتصدر المشير السيسي مقدمته.

إزاء ذلك فإنني أزعم أن العلاقة المصرية الأميركية أعمق وأكثر تعقيدا مما تصوره وسائل الإعلام المصرية، التي كثيرا ما تعمد إلى اختزال المشهد وخلط أوراقه لأسباب متعلقة بحسابات الاستهلاك الداخلي.

(2)
أحتفظ بمقالة نشرتها مجلة تايم الأميركية (في 18/8/2013) عنوانها "مصر لم تعد مهمة"، وفيه نقل الكاتب بوبي جوش عن جنرال أميركي رفيع المستوى قوله إن مصر كانت بلدا مهما في الستينيات والسبعينيات لكنها لم تعد كذلك الآن، إذ كانت وقتذاك نقطة ارتكاز العالم العربي وأهم بلد فيه دون جدال.

وأضاف أنه إلى جانب كونها شكلت تهديدا لإسرائيل فإن الشرق الأوسط تغير بعد ذلك، لكن مصر لم تتغير، حيث تراجع أداؤها السياسي والثقافي، وكانت نتيجة ذلك أن فائدة مصر بالنسبة للولايات المتحدة كمحاور عن العالم العربي تقلصت كثيرا، إضافة إلى أنها لم تعد تمثل تهديدا جديدا لإسرائيل.

هذا الكلام صدر بعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في النصف الثاني من عام 2011 عن التزام بلاده إستراتيجية "المحور الآسيوي"، التي في ظلها تركز الولايات المتحدة على التحديات والتهديدات التي تمثلها الصين بمؤشرات نموها المتصاعدة، التي ترشحها لأن تصبح القوة الاقتصادية العظمى في العالم بحلول عام 2017 (الاقتصاد الصيني ينمو بنسبة تتراوح بين 7% و10% سنويا في حين ينمو الاقتصاد الأميركي بنسبة تقل عن 3٪ سنويا).

في خلفية الكلام يكمن أيضا تقرير وكالة الطاقة الدولية الصادر نهاية عام 2012، الذى توقع اقتراب الولايات المتحدة من بلوغ الاكتفاء الذاتي النفطي عام 2030، وذلك الاكتفاء يمهد لتراجع أهمية الشرق الأوسط في سلم أولويات الإستراتيجية الأميركية.

إلا أن فكرة استغناء الولايات المتحدة عن نفط الشرق الأوسط والتركيز على المحور الآسيوي ليست محسومة تماما في التفكير الأميركي، حتى أن "فورين بوليسي" تحدثت عن "ذبولها"، بعدما تبين أن التكلفة الباهظة للنفط غير التقليدي قد تقوض فرص إحلاله محل نفط الخليج.

يؤيد ذلك أن وزارة الدفاع الأميركية تبنت إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط أعادته إلى بؤرة الاهتمام إلى جانب المحور الآسيوي، وتجلى ذلك في الإعلان عن إقامة مشروع قاعدة "درون" (الطائرات بدون طيار) الفخمة في صحراء النيجر، إلى جانب إنشاء سلسلة قواعد عسكرية استخباراتية أميركية في جيبوتي وجزر سيشيل وإثيوبيا وكينيا وأوغندا وموريتانيا وبوركينا فاسو.

هذا الاتجاه الأميركي الأخير صوب تعزيز الاحتياطات الأمنية في المنطقة يبدو تحسبا لاحتمالات انطلاق شرارات العنف والتطرف في الشرق الأوسط وفى مصر بوجه أخص.

على الأقل، فذلك ما عبرت عنه مقالة نشرتها نيويورك تايمز في 6/1/2014 لاثنين من الخبراء الأميركيين البارزين، هما: دانيال بنجامين مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في الخارجية الأميركية، وستيفين سيمون مدير مركز أبحاث الشرق الأوسط السابق بمجلس الأمن القومي الأميركي.

ويذكر الخبيران أن الحرب المعلنة في مصر ضد الإخوان الذين نبذوا العنف منذ سبعينيات القرن الماضي تنذر بتجدد العنف في المنطقة وانتشاره في أقطارها، الأمر الذى من شأنه أن يستهدف المصالح الغربية والأميركية ويقوض أمن إسرائيل.

(3)
في تحرير العلاقات المصرية الأميركية التي تنسج من حولها العديد من الأساطير والأوهام، سأعرض خلاصة لشهادات ثلاثة من الخبراء المصريين الذين ضاع صوتهم وسط المزايدات والهرج السائد في الساحة الإعلامية المصرية.
في الإستراتيجية الأميركية هناك خطان أحمران يحكمان علاقات واشنطن بالقاهرة: أولهما التعاون العسكري بين البلدين، والثاني التزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل
والثلاثة -وهم السفير إيهاب وهبة مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأميركية، والدكتورة منار الشوربجي أستاذة العلوم السياسية المتخصصة في الشأن الأميركي، والسيد محمد المنشاوي مراسل جريدة الشروق في واشنطن- أوردوا في شهاداتهم المعلومات التالية:

- في الإستراتيجية الأميركية هناك خطان أحمران يحكمان علاقات واشنطن بالقاهرة:
أولهما التعاون العسكري الذى يعد حجر الأساس للتصورات الأمنية الأميركية في علاقاتها بأحد أهم أقاليم العالم.

وفى ظل التعاون تتمتع الولايات المتحدة بوضع خاص على مستويات ثلاثة، هي: المرور في قناة السويس، واستخدام المجال الجوي المصري، والتعاون الاستخباراتي.

والمعونات التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر هي بمثابة إسهام من جانبها في استقرار أوضاعها بما يسمح بالحفاظ على استمرار المصالح سابقة الذكر.

الخط الأحمر الثاني
-الذى تحدث عنه الرئيس أوباما صراحة- يتمثل في التزام مصر بمعاهدة السلام مع إسرائيل. وفى حديثه عن هذه المسألة قال إن أي اهتزاز لمعاهدة السلام يضع أمن إسرائيل بل أمن الولايات المتحدة على المحك.

- من هذه الزاوية، يعد التعاون والتسهيلات العسكرية ومعاهدة السلام من الأصول التي لا تحتمل الاختلاف أو الاجتهاد في علاقات البلدين في ظل موازين القوة الراهنة، وكل ما عدا ذلك يعد فروعا قابلة للاختلاف والاجتهاد بما في ذلك من يحكم مصر أو السياسات الداخلية التي يتبعها الطرف الحاكم.

بكلام آخر، فإن استحقاقات الأصول في علاقات البلدين تعد من التكاليف الضرورية، أما ما عدا ذلك فهي أمور تحتمل التناصح، فضلا عن أنها تظل من الأمور "التحسينية" إذا استخدمنا لغة الأصوليين.

- في الأمور الفرعية والتحسينية تلتزم الولايات المتحدة بقوانينها وحساباتها السياسية ويهمها استقرار الأوضاع في مصر، بصرف النظر عمن يحكمها، وليس ذلك حبا في سواد عيون المصريين بطبيعة الحال، ولكن لأنها تعتبر أن ذلك الاستقرار يؤمن مصالحها المتمثلة في التعاون العسكري وأمن إسرائيل.

- ليس صحيحا أن الإدارة الأميركية انحازت للدكتور محمد مرسى أو تعاطفت مع حكم الإخوان، وكل ما قيل في هذا الصدد هو مجرد خيالات من صنع أصحابها (العبارة للزميل محمد المنشاوي في مقال له بتاريخ 1/7/2013)، بل إن الإدارة الأميركية لم تبدِ أي ترحيب بفكرة اجتماع مرسى مع الرئيس الأميركي، الذى لم يحرص على لقائه حين زار نيويورك في سبتمبر/أيلول 2012 لإلقاء كلمة مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمرة الوحيدة التي كال فيها أوباما المديح للدكتور مرسى كانت بعد نجاح الأخير في تحقيق وقف إطلاق النار بعد الاعتداء الإسرائيلي على غزة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012.

فيما عدا ذلك، فإن الإدارة الأميركية دأبت على دعوة الرئيس المصري إلى تحقيق التوافق مع مختلف القوى والتيارات السياسية الأخرى، هذا في الوقت الذى ظل فيه الكونجرس أكثر المؤسسات الأميركية عداء للإخوان ونظامهم.

- إقدام واشنطن على تقليص المساعدات أو تأجيل تسليم الطائرات للجيش المصري لم يكن موقفا مناهضا لنظام الثالث من يوليو بقدر ما كان تطبيقا للقانون الأميركي الذى يقضى بحظر تقديم المساعدات لأى دولة تتم الإطاحة برئيسها المنتخب من خلال الانقلاب العسكري.

وقد جاملت واشنطن النظام الجديد حين ترددت في اعتباره انقلابا عسكريا، وانتظرت ثلاثة أشهر، لكى تنفذ قانونها الخاص بقطع المعونة، ثم سعت لتعديل القانون من خلال الكونجرس للاستمرار في إرسال المساعدات للدول الحليفة، وهذا ما حدث مع دول أخرى مثل باكستان وشيلي وهندوراس.

بالتالي، فليس صحيحا أن الإدارة الأميركية ناصبت مصر العداء حين أوقفت المساعدات، ولا هي عادت إلى رشدها حين استأنفتها، لأن لها في النهاية مصالح عليا تريد أن تستمر في الحفاظ عليها، وفى مقابل ذلك فهي ستظل تدعم من يحكم مصر، أيا كانت هويته ما دام أنه لم يمس تلك المصالح (منار الشوربجى-المصري اليوم 23/1/2014).

إن ما بين القاهرة وواشنطن الآن ليس معركة حقيقية، وإنما هو مجرد خلاف في الفروع يتم في إطار التحالف الإستراتيجي بين البلدين، والادعاء بغير ذلك يعد ترويجا لأسطورة تخدع الجماهير وتدغدغ مشاعرها
(4)
أدرى أن ثمة خلافات بين مصر والولايات المتحدة في الوقت الراهن، لكنها تظل في حدود الأمور التحسينية والفروع وليس الأصول المتمثلة في جوهر التحالف الإستراتيجي. إلا أنه يحلو للبعض من المتحمسين والمهرجين السياسيين أن يصوروا الأمر باعتباره تحديا من جانب مصر للإدارة الأميركية، يستعيدون به في الأذهان نموذج المرحلة الناصرية ورمزها التاريخي.

وهم في ذلك ينسون أن معركة عبد الناصر انصبت على الأصول وليس الفروع، حيث كان رافضا للتحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة من الأساس، وهو ما تورطت فيه مصر في عهد السادات ثم مبارك ولا يزال يكبل مصر إلى الآن.

ولا ننسى أن ضم مصر إلى الدول الداخلة ضمن القيادة المركزية الأميركية تم عام 1983، بعد معاهدة السلام مع إسرائيل وأثناء حكم السادات.

إن ما بين القاهرة وواشنطن الآن ليس معركة حقيقية، وإنما هو مجرد خلاف في الفروع يتم في إطار التحالف الإستراتيجي بين البلدين، والادعاء بغير ذلك يعد ترويجا لأسطورة تخدع الجماهير وتدغدغ مشاعرها.

وبالتالي، فإن الحديث عن شخص عبد الناصر وتجربته في الوقت الراهن يعد بمثابة كذبة كبرى، لأن ذلك الحديث لا يجوز ما دامت مصر داخل ذلك التحالف المشؤوم، الذى لن تستطيع أن تتحلل منه إلا إذا كانت تملك شجاعة تجاوز الخطوط الحمراء.

وتلك جولة لها شروط عدة لا أرى أيا منها متوفرا في الوقت الراهن إلا على ألسنة المزايدين وأغاني المطربين والمنشدين.
المصدر:الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق