برنامج يفكّك رواية قتل المستوطنين الثلاثة والعدوان على غزّة
مقتل المستوطنين الثلاثة استُغلّ بشكل مدروس (موقع ZDF)
شهدت حلقة أخيرة من برنامج "المجلة الدولية"، والتي بُثّت على قناة "تسي دي اف" الألمانية، رواجاً على وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب التقرير الذي أثار موضوع العدوان الإسرائيلي على غزّة عقب حادثة اختطاف ثلاثة مستوطنين ومقتلهم، شمال الخليل، نهاية حزيران/ يونيو الماضي، ومساءلة الحكومة الإسرائيلية عن الرواية الرسمية التي تقوم على ربط الحادثة بالعدوان على قطاع غزّة وحركة حماس.
وكان التقرير نموذجَ البرنامج الاستقصائي التلفزيوني الذي يعيد تفكيك الأحداث ويبني المشهد من جديد، بحثاً عن الحقيقة وبعيداً عن أي تحيّز سياسي مسبق، وكل ذلك في سبع دقائق فقط.
يؤكّد الرواج الذي رافق هذا التداول، على شجاعة معدّيه مع الصحافي الألماني كريستيان سيفيرز، ويزيد بأنّ التقرير يحمل إثباتات تؤكّد بأن ما جرى ليس إلا في اطار "مؤامرة" إسرائيلية للهجوم على القطاع.
التقرير المذكور كان بعنوان: "الهجوم الإسرائيلي على غزّة:
انتقام أم خطّة مسبقة؟"، وجاء ثالثاً بترتيب العرض، سبقته لمحة قصيرة من مقدمة البرنامج نوّهت فيها الى الحادثة وأثرها في نفوس الإسرائيليين، وما تبعها من مواجهات إثر مقتل الشاب الفلسطيني، واصفة الموضوع على أنّه حلقة أخرى من "دوامة العنف" في تلك البقعة من العالم، مضيفة بأنّ "التقرير الذي سنعرضه سيظهر أيضاً بأنّ هذا الصراع لا يمكن إرجاعه الى عقود من السنوات فقط، وإنما الى عوامل أخرى تتداخل فيها قوى أجهزة الاستخبارات، الإعلام وسياسات غير مسؤولة للحكومات".
يُستهلّ التقرير بمقاطع تمثيلية عن الحادثة مذكّراً بأن المستوطنين الثلاثة قد صعدوا على متن سيارة عابرة في ذلك اليوم لسبب اعتباطي، وذلك لعدم وجود حافلات عمومية في تلك الساعة المتأخرة. ثم يعرّج مباشرة الى تغطية بعض وسائل الإعلام المتلفزة والمطبوعة لخبر "الاختطاف"، من غير أن تكون لدى تلك الوسائل المعلومات الكافية.
يشير التقرير الى أن الحكومة الإسرائيلية كانت هي الوحيدة التي ذهبت عكس ذلك وعرفت مبكراً مَن يتحمّل مسؤولية الحادثة.
ثم تسجيل قصير لبنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، يقول فيه: "حماس هي التي خطفت أبناءنا، هي نفسها حماس التي يريد الرئيس الفلسطيني أن يعمل معها حكومة، وهذا سيكون له عواقب".
يمضي التقرير في القول بأن الإسرائيليين شعروا بالصدمة من الحادثة وأعربوا عن أملهم في عودة الشبان أحياء سالمين، ولكن ما لم يكونوا يعرفوه هو أن أجهزة الأمن الإسرائيلية كانت تعرف ما هو أكثر من ذلك.
الرقيب في قناة المستوطنين
يذكر التقرير، في معرض سرده، تلك السيارة المحروقة التي وجدتها الشرطة على بعد كيلومترات من مكان الاختطاف، وكانت تبدو عليها آثار عيارات نارية وبقايا دماء. ويعرض بعد ذلك للتسجيل الذي حصلت عليه شرطة الاحتلال الاسرائيلي عن المحادثة القصيرة التي اتصل فيها أحد الشبان وطلب العون قائلاً: "لقد تعرّضنا للخطف"، ثم يُسمع صوت يقول: "الرؤوس إلى أسفل"، قبل أن تُسمع 10 طلقات.
يقول المعلّق إنه كان على المحققين أن يعرفوا بأن الموضوع لم يكن "حادثة خطف" وإنما "حادثة قتل" على الأغلب. لكنّ كل هذا جرى التكتّم عليه، إذ قامت سلطات الأمن الإسرائيلية بإعطاء أمر تمنع بموجبه نشر أية معلومة عن الواقعة. التقرير يقدّم مثالاً على ذلك من التلفزة الإسرائيلية العاشرة (قناة المستوطنين)، حيث لا يعمل المحررون والصحافيون فقط وإنما يعمل معهم طرف آخر: "الرقيب".
يتواصل التقرير مع أحد الإعلاميين في إسرائيل، مقدم البرامج ديفيد دروكر، الذي يؤكد على وجود نوع من "الحوار" بين الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام في إسرائيل، وذلك ضمن حالات استثنائية يمكن إرجاعها إلى ضرورات أمنية معينة، إذ تكون هناك سيطرة ومراقبة للمعلومات والأخبار ولا يتم السماح بنشرها إلا بعد فحصها. يؤكد التقرير على أنّ هذا الإعلامي يبدو أنه كانت لديه معلومات أكبر عن الحادثة بعد وقت قصير ولكن لم يتمكن من نشرها.
يمضي التقرير في عرضه مشيراً إلى مسألة جديرة بالانتباه وهي أنه بينما كان عدد كبير من رجال الجيش والشرطة وقوى الأمن الإسرائيلية تقوم بحملات تفتيش ومداهمات واسعة بحثاً عن المستوطنين الثلاثة في الضفة الغربية، كان الجيش يتلقّى أوامر واضحة بإظهار أكبر قدر من القوة والتركيز على حركة حماس وأعضائها.
التقرير عرض أيضاً ما قاله المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (كان يتحدث اللغة الألمانية) حول تبريره لعمليات الجيش وكأنها إحدى عمليات الشرطة في سبيل إرجاع الفتية الى أهاليهم سالمين. كما عرض أيضاً مشاهد لتدخّلات الجيش الإسرائيلي العنيفة أثناء عمليات البحث وكيفية اقتياد المدنيين في الليل نحو الاعتقال، مرفقاً المشاهد ببعض صور الفلسطينيين وهم لا حول لهم ولا قوة، ومشيراً الى حالة الغضب التي تتملّكهم.
تصعيد الحملة
ثم يمضي التقرير في تتبّع الرواية، فيُشير لاحقاً الى الحملة الدعائية الكبيرة التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية، داخلياً ودولياً، حول واقعة الخطف، حيث كان هناك "هاشتاغ" بعنوان: "أعيدوا لنا أبناءنا" جرى تناقله ملايين المرات عبر وسائط التواصل الإجتماعي. لم يكن هذا فحسب، بل فجأة بدأت تظهر عناوين الحملة على واجهات الباصات العمومية في تل أبيب. أما الإسرائيلون، فقد باتوا يتظاهرون بكثافة واضحة، حيث تشكّل عمليات الخطف "صدمة" حقيقية داخل المجتمع الإسرائيلي. لذلك، كما يشير التقرير، غالباً ما يُعتبر سلوك الحكومة أمراً لا يمكن الشك فيه.
يعود التقرير إلى الإعلامي الشهير، دروكر، الذي يقول: "كان الناس يأملون عودة سريعة لأبنائهم أحياء، وكانوا يعبّرون عن أملهم بذلك بالضغط على الجيش والحكومة لفعل المزيد. وهكذا بدأت الأمور تجري باتجاه يفضّل أن يبدو كذلك. وهذا مناسب تماماً لما يحدث الآن في غزّة. لن أقول بأن ما يحدث الآن كان بسبب منع/ رقابة معلومات معيّنة، ولكن أعتقد بأن الجيش والحكومة قد قاما بارتكاب خطأ كبير".
بعد نحو أسبوعين ونصف الاسبوع، وجدت جثث الشبان. وهنا، حدث تحوّل واضح في الشارع الإسرائيلي: إذ بعد مشاعر الحداد والحزن، جاءت مشاعر الغضب والكراهية. يعرض التقرير لأحد المتظاهرين الحانقين قائلاً: "لقد جرى قتل يهود هنا، لماذا لا يقوم رئيس وزرائنا بتسوية غزّة بالأرض! أنا فعلاً غاضب جدّاً".
ثم تتابع الأحداث وتبدأ المواجهات. جرى قتل شاب فلسطيني على يد متطرفين إسرائيليين هذه المرة. حتى في شبكات التواصل كان هناك كمّ هائل من عمليات التحريض، إذ استبدل شعار: "أعيدوا لنا أبناءنا" بدعوات الانتقام (عرض التقرير بعضاً منها، واحدة تدعو لطرد العرب، مكتوبة بالعبرية والإنكليزية والعربية، مع أخطاء واضحة). هنا يقول أحد المعلقين السياسيين الذي يبدو ناقداً لما آلت إليه الأوضاع: "نعم، الأجواء مكهربة وغاية في التوتر. السؤال الأهم ليس إن كانت هناك "مؤامرة"، ولكن إن كان ذلك التصعيد يمكن تفاديه لو كانت الحكومة والإعلام قد تصرفوا بشيء من المسؤولية. جوابي على ذلك هو نعم، لقد كان ذلك ممكناً".
في نهايته، ينوّه التقرير بصواريخ حماس التي تنزل على المدن الإسرائيلية وبالقصف العنيف الذي تقوم به إسرائيل على أحياء غزّة. ثم ينتهي بفقرة مترافقة مع مشهد قصفٍ إسرائيليٍ عنيف: "معظم الإسرائيليين لديهم ثقة عمياء بالأجهزة الأمنية، لأنهم يعتقدون بأن بلادهم ستكون في خطر كبير بدون عمل تلك الأجهزة. ولكن هناك مَن بدأ أيضاً يسائل نفسه إن كان بالضبط عمل تلك الأجهزة هو فعلاً ما أفضى لما نحن فيه الآن".
خلاصة التقرير
من خلال تتبّعنا للتفاصيل الواردة في التقرير، يمكننا الذهاب بثقة إلى أنه يقدم استقصاءً مهمّاً للرواية الرسمية الإسرائيلية بكل جوانبها وتداخلاتها بين أطراف الحكومة، ممثلة ببنيامين نتنياهو وأجهزة الأمن والاستخبارات والجيش والإعلام بشكل عام.
التقرير يشكّك صراحةً في أسباب الحرب المعلنة على قطاع غزّة وحماس، ويُشير بشكل فيه الكثير من المؤشرات على أن حادثة مقتل الفتية الثلاثة في الضفة الغربية قد جرى استغلالها بشكل واضح ومدروس، إعلامياً وسياسياً واجرائياً، على الأرض، وذلك من أجل شنّ هجوم كبير على حماس في غزّة، يبدو أنّه كان مبيّتاً.
التقرير جاء متميّزاً من حيث دقة المعلومات والقدرة على ربط الأحداث والوقائع مدعوماً ببعض الآراء الناقدة من داخل إسرئيل. أيضاً من خلال عرضه لمشاهد حيّة ولصور مختلفة مرفقة بخلفية موسيقية موفّقة، استطاع هذا التقرير على مدى دقائق سبع، تدعيم النقطة الأساسية التي يتناولها بشيء كبير من الموثوقية والتأثير، خلافاً لبعض القراءات التي يبدو أنها لم تطلع عليه بالتفصيل الذي أوردناه.
لم يذكر التقرير أي اتهام لأي طرف بالحادثة، وقدمها على أنّها قد تكون فعلاً جريمة "قتلٍ" عابرة، وليست عملية "اختطاف"، كمّا جرى الترويج لها.
ولم يقدم التقرير معطياته على أنها حقائق، ولكن حاول بشكل استقرائي جدير أن يفنّد الرواية الرسمية الإسرائيلية بكثير من الاستحقاق وأن يعرضها هزيلة، تأخذها أهواء الأجهزة الأمنية وقادة جيش الاحتلال.
التقرير المميّز "قام عليه" صحافي ألماني شجاع، وهو تقرير مثير لأنّه يعرض في قناة تلفزيونية ألمانية بطريقة مغايرة لما نعرف.
تقرير مثل هذا لم تكن ممكنة مشاهدته منذ 20 سنة في الإعلام الألماني. وإن كان علينا أن نتعلّم شيئاً منه، فهو تلك النظرة النقدية التي يجب أن لا تحيد عن أذهاننا، بغضّ النظر عن السياسات وما تخفي وراءها. وهذا ما يحتاجه فعلاً وقولاً الإعلام العربي بقضّه وقضيضه.
معلومات عن قناة "تسي دي اف"
تعتبر قناة تسي دي اف (ZDF)، إحدى أهم القنوات الألمانية التي تتبع القطاع الرسمي/ الحكومي وهي مموّلة بجزء كبير منها من قبل دافعي الضرائب في ألمانيا. كما أنّها تتميّز بنسبة مشاهدة عالية تختلف من برنامج إلى آخر ومن وقت الى سواه. أمّا برنامج "المجلة الدولية" فهو أحد أكثر برامج القناة شهرة ويحظى بنسب مشاهدة لا بأس بها، ويتناول موضوعات شتّى من مجالات مختلفةٍ، سياسيةٍ وثقافيةٍ وفنيةٍ ورياضية، من مراسلي القناة حول العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق