لمن يعاديها ويحاربها ويحاصرها: غزة لن ترفع الراية البيضاء

بقلم: محمد منادي إدريسي
 كاتب مغربي

1. مغالطة: يستكثر البعض على الناس تضامنهم مع غزة مذكرين إياهم بأن لكل منطقة من مناطق أوطاننا غزَّته، وأن هذه الأصوات المتضامنة مع غزة لا تسمع نهائيا عند وقوع نكبات غزاوية في أوطاننا.

والنتيجة المضمرة في هذا الموقف هي الآتية: لا شأن لنا بما يجري في غزة، لننشغل بغزاتنا الخاصة.
منطقيا هذا كلام مهزوز: لا ريب في أن أوطاننا منكوبة، وأن جزءا من ساكنيها يعيش أوضاعا مشابهة لأوضاع سكان غزة، لكن المقارنة لا تستقيم، فالأمر يتعلق في القطاع باحتلال غاشم يحاصر أكثر من مليون من البشر سبق له أن أخرجهم من ديارهم غصبا وشردهم سنة 1948 و1967، ثم حشرهم في سجن كبير يمارس عليهم فيه العقاب الجماعي والحصار ساعيا من ذلك إلى كسر إرادتهم وإجبارهم على قبول الحياة وفق الشروط التي يحددها هو.

أما غزاتنا فليست بأيدي أعداء خارجيين، بل بأيدي مصاصي دماء من بني جلدتنا.

بغض النظر عن الانتماءات العرقية والدينية والطائفية والإيديولوجية لنجرب أن نفكر كبشر لا غير: جماعة دينية مشتتة في العالم منكمشة على نفسها ومتشبثة بأساطيرها الضاربة في القدم تعاني الهوان والذل، يحيي بعض أفرادها حلما دينيا بإقامة دولة لهم على أرض شعب آخر تحت ذريعة أن هذه الأرض وعد الله بها جماعتهم الدينية.

في ظروف خاصة تنتشر هذه الإيديولوجيا وتجد دعما ممن مارسوا الجرم على هذه الجماعة فتغتصب الأرض من أهلها ويجلون ويشردون، وبعض من أبناء المشردين يقيمون لهم مخيمات فيحاصرهم الغاصب ويحول بينهم وبين أن يعيشوا أبسط مقومات الحياة الكريمة.

يقرر المشردون أن لا يرفعوا الراية البيضاء فيقاومون ويستبسلون ذودا عن حماهم ويخوضون بأبسط ما يملكون معارك مشرفة.
 يقتل العدو أطفالهم ونساءهم وكبارهم بأسلحة لا يفكر مقاتل آدمي في أن يضرب بها إنسانا أو منزلا متهاويا، بينما هم يقتلون جنود عدوهم ويرهبون الغاصبين ويلجئونهم إلى الاختباء في الملاجئ المنيعة.

لنكن عادلين في أحكامنا ومشاعرنا: الحرب شأن بشري خاص، ولا وجود لها في عالم أقربائنا البيولوجيين (الحيوانات). إنها بشعة وهمجية، ولكن فيها جلال إن خيضت بشرف.

في حالة غزة يبوء الغاصب القاتل بالخزي والعار، أما المقاتل ذودا عن بقية من أرض ومكان وحضارة فيستحق الاحترام على الأقل أيا يكن دينه أو مذهبه أو إيديولوجيته.

من يلوم الضحية على الأعداد الهائلة من القتلى الذين سقطوا إما خصي مهزوم يقبل مقايضة الحرية بالخبز، وإما دعيٌّ أعمته المذهبية السياسية أو الإيديولوجية عن أن يكون إنسانا وكفى.

أحترم كل من يقاوم عدوا أو خصما يغصبه على أن يعيش كما يريد له هو أو يحرمه من حق من حقوقه. وإنه لخزي ما بعده خزي أن يجلس أحدنا في بيته آمنا مطمئنا ثم يطالب الضحايا بأن يلقوا السلاح ويلومهم على عدم حصافتهم إذ قرروا مواجهة غاصبهم، والأدهى من ذلك أن يتضامن من يدعوا النضال باسم الدفاع عن قضية عادلة مع القتلة الغاصبين.

2. في الحاجة إلى سكن: ليس السكن مجرد جدران عازلة عن المحيط الخارجي، بل هو أيضا سكينة. السكن شرط مادي للشعور بالسكينة، وفي غياب هذا الشرط يشعر الإنسان بالضياع، وهو شعور فظيع يصاحبه الشعور بعدم الأمان ولا جدوى السعي والإقدام.

يسعى الكائن الحي عموما طيلة اليوم طالبا تأمين حاجاته، وهو لا يفعل ذلك إلا لأن له مكانا يأوي إليه ويأمن فيه على نفسه وذويه. المسكن شرط للتوجه في المكان، نغادره لنعود إليه.

إنه إحداثية مرجعية على ضوئها نتحرك ونفعل بل ونحلم، وعندما نجده أصغر من أحلامنا يصبح خناقا فنسعى إلى تغييره بسكن أفضل منه كي نجد السكينة التي نبحث عنها. السكن باختصار شرط من شروط آدميتنا.

أقرباؤنا البيولوجيون كلهم يتخذون لهم مساكن. السكن حاجة حيوية، وفي حالتنا يجب أن نتكلم عن الحق في السكن. حتى المشردون يسيجون أمكنة ويعتبرونها خاصة بهم ويعلمون غيرهم بأنها عائدة لهم، وأي انتهاك لها يعدونه اعتداء عليهم.

مرأى البيوت الكثيرة المهدمة في غزة يشعر كل من يحترم الإنسان بأنه هو نفسه معتدى عليه. لقد حرم الغاصبون آلاف الأسر المكلومة من السكن، وبحصارهم وحيلولتهم دون دخول مواد البناء إلى القطاع المنكوب يسرفون في الجرم فيحرمون أهل القطاع من أن يأملوا في الحصول على السكن. هم بذلك يجبرونهم على أن يظلوا فريسة ينهشها القلق.

أي حال سيكون عليه أطفال وآباء لا يجدون فضاء خاصا يسكن فيه بعضهم إلى بعض ويتناجون بما يجدونه في نفوسهم. إسرائيل تحرم المحتلين من إنسانيتهم.

الأمر نفسه أشعر به عند مشاهدة قوافل المهجرين الذين أجبرتهم الحرب الأهلية أو الطائفية البغيضة في العراق وسوريا على مغادرة منازلهم. تهجير الناس من مساكنهم أو هدمها أو غصبها منهم إرهاب شنيع واعتداء على الحق في السكن والسكينة، وهو إرهاب يستوي في ذلك أن ترتكبه دولة محتلة أو نظام متسلط غاشم أو مصاصو دماء.