ليبيا وصناعة عراق جديد
شريف عبد العزيز
الثورات الشعبية في بلدان الربيع العربي كانت أهم حدث شهدته المنطقة ، فالثورات العربية قد أعادت رسم خرائط العلاقات الدولية والإقليمية وأعادت رسم دوائر النفوذ ، وغيرت من أيديولوجيات وإستراتيجيات ، بل وغيرت من بنية تحالفات سياسية عريقة جاوز عمر بعضها الستين سنة ، ولعمق وخطورة وإستراتيجية الآثار التي أدت إليها هذه الثورات ، فقد اجتمعت كل القوى المعادية للحرية والعدل وتداول السلطة والنزاهة والديمقراطية ، من قوى دولية تريد بقاء نفوذها ،وملكيات متكلسة ترتعش من نيل الشعوب لحريتها ، وأنظمة فاسدة خائفة من ضياع ما نهبته من شعوبها ، وكيانات غاصبة تعمل بالوكالة لصالح الصهاينة ، اجتمعت من أجل إفشال هذه الثورات ، وإبقاء الشعوب رهن الطغم الحاكمة والتبعية الغربية والانبطاح أمام العدو الصهيوني .
ونظرا لأن لكل بلد خصوصياته الثقافية والاجتماعية والشعبية ، فقد تم اعتماد نموذج الانقلاب على الثورة فيها بما يتناسب مع خصوصية كل بلد ، ففي تونس كان نموذج الانقلاب على الثورة سياسيا ، ناعما ، يتماشى مع طبيعة الشخصية التونسية المنفتحة والميالة نحو التحرر والتغرب ، في حين كان نموذج الانقلاب المصري عسكريا فجا ، دمويا وحشيا ، يتماشي مع تغول المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية منذ أكثر من ستين سنة ، كما يتماشى مع الطبيعة المصرية الميالة نحو مهادنة المستبدين والسير في ركابهم ، وتقديس الفراعين ، وصناعة الطواغيت ، وفي سوريا واليمن كانت الحرب الأهلية بنكهة طائفية وتأجيج الصراعات الاثنية بأصابع إقليمية وخارجية ، هي الصيغة المناسبة لاجهاض الثورة هناك .
أما في ليبيا فالوضع كان مختلفا بدرجة كبيرة عن الوضع في باقي بلدان الربيع العربي ، فلا إثنية دينية أو طائفية في ليبيا ، فالشعب كله من المسلمين السنّة ، كما أن لييبا لا يوجد بها مؤسسات عميقة مثل مصر تستطيع أن يعوق المسار الانتقالي ، وتحيل حياة المواطنين لجحيم يترحمون بسببه على أيام ما قبل الثورة ، والأهم من ذلك أن ليبيا لا يوجد بها جيش نظامي على الحقيقة ، يستطيع تكرار نموذج السيسي هناك ، فالقذافي كان يدير ليبيا لأربعين سنة وزيادة بلا مؤسسات دولة ولا هيئات حاكمة ولا جيش نظامي ، فأي تشكيل منظم كان القذافي يرى فيه خطرا داهما على حكمه . هذه الخصوصية الليبية جعلت قوى الاستبداد والهيمنة العالمية ورعاة الطغيان في المنطقة يجربون عدة نماذج للانقلاب على الثورة فيها ، وينتقلون من نموذج لآخر حسب مقتضيات ومجريات الأحداث .
فالبداية كانت مع تجربة النموذج المصري بانقلاب عسكري يقوده الجيش ، ولكن ليبيا يسيطر على أجزاء واسعة منها المليشيات العسكرية التي تشكلت كأذرع ثورية في مواجهة كتائب ومرتزقة القذافي ، وكان من الطبيعي بعد نجاح الثورة ومقتل القذافي أن تحل هذه المليشيات أو يتم استيعابها في المكون الوطني الجديد للجيش الليبي ، ولكن كثرة المؤامرات الداخلية والخارجية ، والانفلات الأمني الكبير الحادث بسبب فشل الإدارة الليبية الجديدة في هيكلة الأجهزة الأمنية ، وإيجاد الصيغة الملائمة لمرحلة ما بعد القذافي ، فضلا عن الصراع الناشب بين القوى العلمانية المدعومة من الغرب ، والقوى الإسلامية صاحبة اليد العليا في إنهاء حكم القذافي ، كل هذه الأمور جعلت القوى الإسلامية متوجسة من مسألة إعادة هيكلة الجيش الليبي ، وتصر على الاحتفاظ بأسلحتها وتشكيلاتها القتالية ، خوفا من تكرار نموذج السيسي المصري . كل هذه المحاذير جعلت الغرب وحلفاؤه الجدد في المنطقة يفكرون في صيغة جديدة للقضاء على الثورة الليبية كما حدث مع شقيقتها المصرية، فكانت فكرة استنساخ تجربة " الصحوات العراقية " .
خليفة حفتر عميل أمريكي بامتياز يعرفه الشعب الليبي أكثر من غيره بعد تآمره مع الأمريكان أثناء حرب ليبيا مع تشاد سنة 1987 ، ثم لجؤه إلى أمريكا وإقامته لأكثر من عشرين سنة في ولاية فرجينيا على بعد 5 كيلو مترات فقط من مبني المخابرات الأمريكية في لانجي ، وقد حاولت امريكا الدفع بحفتر في صدارة المشهد السياسي بعد الثورة ، أو إسناد قيادة الجيش الليبي إليه ، لمواجهة النفوذ المتنامي للمليشيات الإسلامية خاصة السلفية منها بعد معركة تحرير طرابلس ، ولكنها تفشل في ذلك ، وفجأة يظهر حفتر للعلن عبر فضائية العربية المشبوهة في 14 فبراير الماضي ،واستمر حفتر بعدها يتحرك بحرية طيلة ثلاثة شهور يجمّع فلول نظام القذافي ويشتري ولاءات القبائل في الشرق والجنوب والوسط من أجل التحضير لهجوم جديد على شرق ليبيا خاصة درنة والمناطق الحدودية مع مصر بحجة مواجهة الجماعات الإرهابية التي تقف حجر عثرة في وجه تأسيس جيش ليبي قوي ، وبالفعل حصل حفتر على ولاءات قبائل عبيدات والمرابطين والبراعصة والحاسة والفوائد والشواعر في الشرق ، وقبائل التبو في الجنوب ، أما الغرب حيث معظم فلول القذافي فقد حصل على دعم قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة وأولاد سليمان والحسون ، وقد حصل حفتر على دعم مالي وسياسي وأمني كبير من محور الانقلاب في مصر والامارات ، في تجربة مشابهة لما قام به الأمريكان في العراق بعد معركة الفلوجة سنة 2004 ، حيث قاموا بشراء ولاء بعض القبائل العراقية السنية في منطقة الأنبار وأمدوها بالمال والسلاح والتدريب من أجل مواجهة المقاومة السنية والجماعات المجاهدة ضد الاحتلال الأمريكي .
فكرة " الصحوات " قامت في الأساس من أجل تمكين الاحتلال من تثبيت أركانه وتمرير مشاريعه في العراق بتعويق المقاومة الإسلامية من تحقيق انتصارات حاسمة على المحتل الأمريكي الذي ذاق حر سلاح المجاهدين في العراق ، فكان ضرب العراقيين بعضهم ببعض عن طريق القبائل العميلة والموالية للمحتل ، والأمريكان يحاولون استنساخ تجربة الصحوات في ليبيا لإجهاض الثورة وتفكيك القوة العسكرية للمليشيات الإسلامية بإنهاكها في مواجهات مستمرة ضد الصحوات الليبية بقيادة الصنيعة المخابراتية " حفتر " وشريكه في الخيانة والعمالة " محمود جبريل " نزيل القصر الفاخر في دبي بجوار شر خلق الله " دحلان " وشركاه ، والهدف النهائي هو تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب ، وتفتيت هذا الوطن الكبير ، ونهب ثراوته النفطية الضخمة ، وإنهاء مرحلة الثورة في هذا الوطن الذي لم ينعم بأدنى مقومات الدولة السوية ، ولكن على ما يبدو وفي ضوء التطورات الجارية على الأرض في الأيام الأخيرة ، ان فكرة الصحوات ستفشل في ليبيا ، وسيكون خيار التدخل الخارجي من وكلاء أمريكا في المنطقة ، من ناحية الشرق والغرب ، هو الخيار الأقرب للتنفيذ ، ولعل التهديدات المصرية والجزائرية الأخيرة بعدم السكوت إزاء الأحداث في ليبيا ، مؤشرا على الانتقال للمرحلة الثالثة من اجهاض الثورة الليبية ، فهل ستنجح المؤامرات الإقليمية والدولية في الانقضاض على الثورة الليبية وإلحاقها بأخواتها في مصر وتونس واليمن وسوريا ، أم سيكون لأهل ليبيا كلمة أخرى ؟ النتيجة ستظهر أسرع مما نتخيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق