تحطمت الطائرات عند الفجر – جزء 6
الترجمة العربية للكتاب
آيات عرابي
كتاب ( تحطَمت الطائرات عند الفجر )
الجزء السادس
قمت بتصوير الرسالة وتصغيرها حتى أصبحت عبارة عن نقطة سوداء بحجم رأس الدبوس. والصقت هذه النقطة (الرسالة الصغيرة ) على المغلف الذي عنونته الى ( زيجفريد لاها ) وكيل بورصتي في زوريخ. والصقت على النقطة الصغيرة طابعا مصريا وأدخلت المغلف في درج طاولتي. لو جاء واحد وأزال الطوابع وقام بتكبير النقطة السوداء 200 مرة يستطيع أن يرى فيها مجموعة من الارقام وكل منهما يتكون من أربعة أعداد. ولو عاد أحد الى الورقة التي كتبت عليها الرموز السرية لاستطاع أن يؤلف من تلك الارقام جملة كاملة مفيدة هذا معناها :
الى – المسؤول . في – روما.
يبدو أن سلاح الجو المصري قد فشل في أستيعاب الطائرات النفاثة. أن 60 طائرة فقط في حالة جاهزة للعمل. طائرة الميج 15 لا تصلع للمعارك الجوية مع الطائرات المقاتلة الاخرى, وأنما هي تصلح لمقاتلة القاذفات. القوات العاملة تشمل سرب طائرات اليوشن وسربي ميج 15 وسرب فامباير وسرب ميتيور. طائرات الميج موزعة في مطارات الماظة . . كبريت . . وأبو صوير . . طائرات النقل موزعة في مطارات الماظة والقاهرة غرب الاقصر.
يجري توسيع مطارات الماظة, والقاهرةغرب, وأنشاص ليكون باستطاعتها أستقبال النفاثات. الطائرات البريطانية بوخنا موزعة في مطاري فايد والماظة. سيناء خالية من الطائرات يجري اعداد مطار بيرحمة لاستقبال طائرات الميج. واعداد مطاري العريش وبير جفجافة لطائرات بوخنا البريطانية.
لا أعتقد أن بوسع المصريين استيعاب الطائرات النفاثة قبل سنتين.
كانت الاشهر الثلاثة التي أمضيتها حتى الآن في القاهرة حققت جميع رغبات فيشل الطويل.
تركت مصر مرة واحدة فقط قبل حوالي شهر وسافرت الى فرنسا, وما أن وصلت فرنسا حتى قابلت صديقي الموظف الكبير بوزارة الخارجية الفرنسية واستطعت بمساعدته أن أحصل على تصريح بنقل آخر دفعة من الآسلحة التي أشتريتها من فرنسا الى مصر, وكانت تلك الصفقة عبارة عن عشرات الدبابات الحديثة والمدافع المضادة للطائرات التي تحولت فيما بعد الى خردوات حينما قصفتها الطائرات النفاثة الفرنسية بالقرب من مطار الفرنسية واستطعت بمساعدته أن أحصل على تصريح بنقل الساعة بين الضباط المصريين.
ووضع محمد صدقي محمود يده الواسعة علي كأنه يخشى أن يسلبني منه ضابط كبير غيره. وصارت تتوالى الدعوات علي الحضور الحفلات في بيوت ضباط سلاح الجو وفي نواديهم الراقية.
كان الضباط في منازلهم يمثلون عائلات محترمة, يتحدثون عن مستقبل بلادهم التي نجحت في أن تضع نفسها في مركز أهتمام العالم كله. وكانوا يتحدثون عن السد العالي الذي سيغير معالم البلاد وعن الاسلحة الحديثة التي تتدفق من الاصدقاء الجدد – الاتحاد السوفياتي – والتي جعلت من الجيش المصري قوة عالمية.
وكان ضباط سلاح الجو يتحدثون مع زوجاتهم عن آخر الكتب التي صدرت في السوق وعن الادباء القدماء, مثل توفيق الحكيم وطه حسين ويوسف السباعي ذلك الضابط الذي تحول الى كاتب فذ. وعن زوجة محمد مندور العزيز التي اكتشفت فجأة أنها شاعرة موهوبة.
كان هذا في المنازل, أما في النوادي العسكرية حيث كنا نمضي الايام اللذيذة والليالي الحمراء, فكانت تحضر نساء أخريات وبصحبتهن كان الضباط غيرهم في منازلهم. كان بينهن نجوم السينما. كنا نجلس مجموعات مجموعات حول الموائد نشرب شرابا يطلقون عليه عصير فواكه ولكنه خمرا لاذعة, وكانت فرق الفنانات تظهر أمامنا تسخر من المجتمع القديم وتغني لنظام الثورة. وما كانت الفنانة تنتهي من وصلتها الغنائية أو الراقصة حتي تأتي الينا, أن قوة الجاذبية في الملابس العسكرية هناك كانت تأسر قلوب جميع الفتيات الطالبات من الاسر المحترمة فيتدفقن علينا.
أن سكان أكواخ اللبن المترامية على ضفاف النيل لم يحصلوا تحت ظل الثورة التي قامت باسمهم على أي شئ, ولكن هؤلاء الضباط في النوادي الراقية التي تحيطها الحدائق الغناء حصلوا على كل شئ. وكان قائدهم قائد سلاح الجو المصري محمد صدقي محمود يشجعهم ويدفعهم للمزيد من المتعة.
قال لي صدقي محمود مرة بعد عودتي من فرنسا, بينما الطيارون يرقصون مع فتياتهم في الانوار الخافتة على أنغام الموسيقى الشرقية, أن الطيار الماهر هو عاشق ماهر, فالطائرات تماما مثل النساء ولا تكون جميلة الا في العمل الذي من أجله وجدت المراة التي تقوم باعمال الطبخ, تكون في منتهى المثالية, ولكن حين ترتدي فستانا عصريا مشدود الاطراف مكشوف الجوانب, وتشرب كاسا من الويسكي ترتمي على صدر طيار شاب, نجدها تغيرت تماما, نجدها أكثر جاذبية رونقا فلماذا ؟ لانها تكون تنفذ عملها الخاص بها, عملها الذي خلقت من أجله, أنها على وشك ان تنام مع الرجل, ومن أجل ذلك خلقت وهكذا هي الطائرة.
كانت عيني قائد سلاح الجو المصري تتقدان بنار غريبة, وجهه الاسمر يعلوه الاحمرار, كنت أصغي اليه باهتمام حقيقي, ربما ينجح صدقي محمود في أن تقيم سلاحا جويا مشهورا ولكنه أحب مهنته, بل كانت له فلسفة خاصة به أزاء السلاح الذي يقوده.
قال لي صدقي محمود في ذلك الوقت : الطائرة التي تلقي قذيفة على الهدف مثلها مثل الرجل الذي يركب أمرأة, وبما أن هذا العمل كله يفعله الطيار, فلذلك يجب ان يكون رجلا حقيقيا أعني عاشقا مدلها.
قلت لصدقي : أرجو ذلك, وآمل أن لا يلقي طياروك جميع قذائفهم على الاهداف ساعة التمرين, بل يحتفظوا ببعضها للفنات والطالبات الموجودات هنا.
وعض صدقي على شفته السفلي بشهوة وقال . . أنظر اليهم هل ينقصهم أى شئ ؟ والواقع أن الطيارين المصريين كانوا شبابا يتمتعون بالوسامة, صحيح أن قاماتهم قصيرة, كبقية أبناء الشعب المصري وأجسامهم ممتلئة قليلا كعادة أهل الشرق, ولكنهم شباب فيهم الوسامة ويفاخرون بمهنتهم ومراكزهم. يرقصون مع خيرة نساء بلاد النيل, يعرفون أنهم سيأخذونهن الليلة الى الفراش, ليبرهنوا على نجاحهم في الامتحان الذي وصفه لهم قائدهم.
كنا نجلس حول أحدى الموائد, أنا وقائد سلاح الجو وضابطين كل منهما برتبة رائد, من المقربين الى صدقي محمود, وهما صديقي ( عبد السلام دغيرى ) و( اسماعيل محمد لبيب ) الذي كان كما عرفت تلك الليلة خبيرا في الدفاع الجوي.
كنا نجلس وبجانب كل واحد فتاته, وبما أنني كنت تلك الليلة ضيف الشرف, وبما أن الرائد (لبيب ) أعتبرني ضيفه الخاص, تقديرا على خدماتي باحضار المدافع المضادة للطائرات, قدم لي فتاة جميلة, واحدة من نجمات السينما تدعى ( دنيا ).
ورأت (دنيا ) هذه أن من واجبها أن تعلمني كيف أحب المصريين وأحب أنوثتها, وفعلت كل ما أرادت تلك الليلة . . بين الحين والحين كنا نقوم نرقص, وكانت دنيا تعلمني أن الرقص معناه الالتصاق جسدا بجسد. حرصت ألا أكثر من الشراب, ولكني شعرت في آخر الليل أن زمام لساني قد أفلت وكذلك كان حال جميع الموجودين, وخاصة الطيارين وفتياتهم, فقد بلغ الجميع ذروة النشوة والضخب, ولم يكن هناك داع لحذرى. في احدى الرقصات اصطدام بنا ضابط طويل برتبة كولونيل, سرعان ما جاء يعتذر ثم عرفني على نفسه قائلا : قائد الجناح صلاح عبد النبي من مطار الاقصر, وبما أنه لم يكن داع لأعرفه على نفسي, أذ المفروض أن الجميع يعرفونني فقد جرى التعارف بين الفتاتين وجلسنا نحن الاربعة الى أحدى الموائد لنستريح, ونتناول كأسا من الشراب. سألت قائد الجناح صالح بعد ان استلقينا على الكرسي : هل جئت من الاقصر حتى هنا من أجل هذه الحفلة ؟ كلا – قالها مبتسما بسبب السكر والتأدب معا, لقد جئت للاشتراك في دورة طائرات اليوشن فسنستلمها قريبا, كان هذا يتكلم بحرية لانه يعرف أنه يتكلم الى صديق القائد, الى المورد الرئيسي لسلاح الجو المصري. قلت له : فهمت من خلال أحاديثي في القيادة أن هذا المطار سيكون من أكبر المطارات ؟ قال. . بل اليوم يعتبر هذا المطار هو الثاني بمساحته بعد مطار الماظة, فقد جرى توسيع المدرجات الى أكثر من كيلو مترين ونعمل باستمرار باضافة مدرجات جديدة اليه, أدعوك لزيارة المطار والمحطة الجديدة, فلدينا طائرات نقل روسية تستطيع أن تحمل سرية جنود كاملة دفعة واحدة. وسالته متظاهرا بان سؤالي عابر, كيف يجد رجالكم التدريب على الطائرات الروسية النفاثة ؟ فهي تعتبر جديدة عليكم بالنسبة لطائرات الفامباير و الميتيور, وأنحنى قائد الجناح صالح نحوى ليقول :
اننا لا نتدرب ما فيه الكفاية, ولكن هذا هو شعوري الخاص بالطبع ربما من المتعذر زيادة التدريب أكثر. لايسمح لنا بالطيران سوى2- 3 ساعات في الشهر فقط. ولكن لا داعي للطيران أكثر من ذلك. دعوته لنعود الى الرقص, شكرني وسألني بأدب محاولا أن يدلل على محبته لي : هل ترقص معها وأشار الى صاحبته ؟ تبادلنا الفتيات طوال الرقصة ثم عدت مع دنيا الى مائدة القائد, الذي أبتدرنى قائلا : رأيتك تتحدث مع قائد الجناح عبد النبي, فما هو رأيك فيه ؟ كنت مضطرا أن أتعلم كيف أحترم صديقي محمود, كان يعرف رجاله, يحبهم ويهتم بأمورهم. قلت مجيبا على سؤاله ضابط جدي, يسير في الطليعة, ونظر الي القائد وابتسامة خفيفة أمتدت بين تجاعيد وجهه ثم قال – أن لك نظرة لا تخيب يا آرام – فعبد النبي هو من خيرة رجالنا. ولكنه دائما متسرع. أن الطيار الممتاز يا آرام مثل العاشق الممتاز يجب أن يعرف متى يعمل ببطء رويدا رويدا.
افترقنا في ساعة متأخرة ما في الليل, وصحبني الرائد لبيب بسيارته حتى المنزل الذي اشتريته قبل بضعة أيام في طرف حي (هليوبولس ) ودعته أنا ودنيا وسرت معها الى المنزل الذي تحيط به وتغطيه الاشجار. وفجاة أستدارت دنيا والتصقت بي وقالت هامسة : أن احدا في الحديقة : والصحيح أنني شاهدت شبح رجل يهرب من الحديقة ويقفز عن السياج ويتوارى, وقلت لدنيا: لاتخافي, أنه واحد من الحراس الذين أرسلهم صديقي صلاح نصر ليهتموا بسلامتي. ومررت بيدى بخفة على أردفها الممتلئة وفتحت الباب, كنت آمل أن يكون رجال صلاح نصر قد تمكنوا من أجراء تفتيش دقيق في المنزل.
القسم الثالث عشر
المخبأ الامين
3يوليو 1956
الساعة 15.07 حتى 30.10
نادى المؤذن من فوق المسجد, آرام أنور – آرام أنور, وصحوت من النوم. وأختفى صوت المؤذن, ولكن جرس التلفون ظل يدق. استدرت في الظلمة ورفعت السماعة قائلا : صباح الخير, من أنت ؟ أنا محمد لبيب, هل سمعت الاخبار ؟ نظرت حولي, كانت دنيا بجانبي تتلوى تحت الغطاء, تشد صدرها العامر الذي يشتهيه المصريين ويرونه بأحلامهم في قصور القاهرة وفي الاكواخ الممتدة على النيل. قلت أية أخبار يا عزيزي ؟ اننا لم نستيقظ بعد. قال أرجو المعذرة, ولكن الامر مستعجل جدا, أن القوات الفرنسية على وشك أن تنزل في بور سعيد. وطلبت السفارة من جميع الرعايا الفرنسيين أن يغادروا البلاد خلال يومين. أفاقت دنيا مذعورة, وضعت يدي اليسرى على جسدها العاري وأمسكت السماعة بيمناي وكانت دنيا تتململ تحت يدي, ثم وخزتني باصبعها تحت أبطي, وأنفجرت ضاحكا. وهنا قال لبيب غاضبا : ما الذي يضحكك في هذا ؟ كلا كلا قلت, وطلبت من دنيا أن تكف عن مزاجها. وسألني لبيب, ما الذي تنشغل فيه في مثل هذا الصباح, الايمكنك أن تكون جديا مرة واحدة ؟ اننا في حالة يائسة يا آرام, سيهاجموننا من الجو والبحر. قلت مستغربا : ولماذا تقول لي ذلك أنا بالذات ؟ الم تستعدوا لمثل هذه الحالة منذ أن أعلن الرئيس عبد الناصر تاميم قناة السويس ؟ وقال لبيب واليأس يبدو عليه : يا أنور بك, أنا المسؤول عن الدفاع الجوي في منطقة القناة. لقد وعدتنا بأن تشتري لنا أجهزه رادار من تركيا. قلت له : سنلتقي عندك في المكتب بعد ساعة, مجرد أن أرتدي ملابسي فقط.تناولنا طعام الفطور في شرفة منزلي, وكان مطار الماظة يتراءى أمامنا بعيدا في الافق, كما كانت تبدوأمامنا جدران مصنع الصواريخ الجديد الذي أقيم عند طرف (هليوبولس ). بالقرب من هناك يوجد معسكر القيادة المصرية وبجانبة سفارة الشقيقة الكبرى (( الاتحاد السوفيتي )) ووجود جميع هذه المنشآت الهامة في تلك المنطقة جعلت من شراء منزلي فيها عملا تجاريا كبيرا. وعلاوة على ذلك كانت للمنزل ميزات اخرى جعلته ملائما لطبيعة عملي الحقيقي, كأن صاحبه بناه خصيصا لي.
اشتريت ذلك المنزل في فصل الربيع بعد وصولي القاهرة بمدة قصيرة من شخص يدعى (طارق ) وكيل تاجرأنجليزي للمواد الكيماوية, وقد قرر ذلك الوكيل مغادرة مصر وبيع المنزل. وأثناء المفاوضات التي أجريتها معه في صالة الاستقبال المكيفة الهواء أكد لي ضرورة دفع الثمن بواسطة شيك مسحوب على أحد البنوك السوسرية, وقال : أن أموالي التي كنت أخفيها في الفجوة السفلى لم أكن أستطيع دائما أخرجها من مصر, ولذلك لا أحب أن تدفع لي ثمن المنزل هنا, فتبقى أموالي داخل مصر دون أن أستطيع إخراجها. والصحيح ان الفجوة السفلى التي تحدث عنها هي التي دفعتي أكثر من أى شئ أخر لشراء المنزل. وحينما ترددت ازاء السعر المرتفع الذي طلبه قادني الى غرفة عمله, ومن على أحد الجدران أزاح صورة كبيرة, وظهر تحتها ثقب, أدخل فيه مفتاحا, ثم جذب بابا صغيرا من الفولاذ كان مستويا مع الجدار ولايمكن تمييزه بالعين. وخلف هذا الباب الصغير أراد جهاز فتح صغير, وعندها فتح باب مصفح يغطي قاعة فولاذية كبيرة داخلة كلها في وسط الجدار : ما رأيك ؟ سألني وأضاف : الا تحتاج لمثل هذا ؟ وأستمر يقول كأنه يكشف سرا : أنني اعلم بماذا تشتغل, ضحكت وقلت له : وهل تعتقد أن الرجل المحترف الذي سيجري تفتيشا عن مبالغ كبيرة من المال محفوظة داخل هذه الخزانة سيعجز عن كسرها أو معالجتها بأية طريقة ؟
قال طارق : تفحصها جيدا, إن فيها شيئا خاصا. أثار ذلك أهتمامي, ورحت أتفحص الخزانة من كل جانب وتحسست مكان اتصالها بالجدار ومررت بأصابعي على جدرانها الداخلية وعلى سقفها وأرضيتها, فلم أجد شيئا خاصا بها.
ورمقني طارق بنظرة غاضبة, ثم تقدم من طاولة, وأخرج من درجها جسما أشبه ما يكون بازميل حاد, ثم أخذه وانحنى داخل الخزانة وغرس الازميل فيها وبعد جهد بسيط ارتفعت قطعة فولاذ مربعة صغيرة من أرضية القاعة, ومرة أخرى سحب طارق مفتاحا صغيرا من جيبه وأدخله في الثقب الذي نجم عن خروج قطعة الفولاذ المربعة ورأيت ارضية الخزانة ترتفع من احد جوانبها.
ثم قام طارق برفع الأرضية كلها, وظهرت تحتها فجوة كبيرة, عبارة عن خزانة أخرى. ثم عاد طارج وأغلق الخزانة ثم قال لي : يا مستر أنور إن أعمالك لا شك تعود عليك من حين لآخر بمبالغ كبيرة لا تحب أن يعلم بها أحد غيرك. وكل رجل أعمال تتوفر لديه مثل تلك المبالغ, حتي أنا كنت أحتفظ هنا دائما برزمات كبيرة من الجنية الانجليزى والدولار. إن الرجل الذي صنع هذه الخزانة موجود في أنجلترا وسأكون أنا هناك قريبا, وبذلك لا يظل في مصر أي أنسان يعلم بأمر الخزانة سواك أنت. ما رأيك كم تستحق هذه الصفقة ؟ قلت : لابأس سأشتري المنزل. كنت أحمل معي دائما مبالغ كبيرة من العملة الاجنية تحرمها قوانين الجمهورية المصرية, كما كنت أحتفظ بنسخ من الرسائل التي أبعت بها الى أبعث بها إلى وكيلي في سويسرة ( زيجفريد لاها ) اخبره فيها كيف يتصرف بالاموال. وكانت عندي فواتير ومستندات توضح بسهولة أن المبالغ التي ربحتها من تجارة السلاح مع المصريين هي أكبر بكثير مما كنت أعترف به لهم. كانت عندي بلا شك معلومات وافية تهم صلاح نصر, حتى لوأستطاعوا ان يصلوا ألى الخزانة الجديدة, فسأضع هذه المبالغ كلها في الخزانة العليا, أما السفلى فوضعت أشياء أخرى آلة تصوير خاصة – ميكرو فيلم – وأدوات صغيرة لتحميض وطبع الصور, وتحويل الوثائق الى صور صغيرة في حجم عين الذبابة, وعلبة معدنية تحتوي على سائل يحول الاوراق عند سكبه عليها الى ماده لزجة على الفور. وفي علبة أخرى كانت لاسلكية صالحة للاستخدام مرة واحدة فقط. وكان في الخزانة السفلى أيضا صحن صغير يحتوي على عدد من الحبوب الصغيرة البيضاء وكل حبة منها تقتل رجلا سليما خلال 2-3 دقائق. كنت أنا ذلك الرجل السليم الذي خصصت له تلك الحبوب البيضاء وكان لايزال في الخزانة السفلى مكان كبير يتسع لاخفاء جهاز لاسلكي يعمل على قصيرة وبقوة عالية. أنهينا طعام الفطور – أنا ودنيا – وهنا وصلت الخادمة العجوز التي كانت تتولى تنظيف المنزل يوميا.
قلت لدنيا : يجب عليك أن تبحثي لك عن صديق آخر, فان علاقاتك معي لن تفيدك بشئ فاليوم أنا هنا, وبعد سنة حيث تنشب حرب في جزء آخر من العالم سأطير الى هناك الى البرازيل أو السويد مثلا . . وراء تجارتي, كانت الصحراء على بعد مئة خطوة من منزلي. وكان وهج الشمس الحار يلفح وجوهنا, مع أننا لانزال في بداية النهار. وعلى بعد قليل منا كانت قناة الاسماعيلية المؤدية الى بحيرة التمساح حيث تتسع هناك قناة السويس, تلك القناة التي تربط المحيطات والبلدان والتي تقرر مصائر شعوب ودول لايبعد مكانها عنا أكثر من مسيرة أسبوع واحد في سفينة سريعة.
وفي الجراج, الكائن عند نهاية حديقة المنزل, كانت تقف السيارة التي استأجرتها مؤخرا لتنقلاتي. استأجرتها ولم أشتريها لاؤكد لمعارفي بأن اقامتي في القاهرة مؤقتة وليست دائمة. وكنت بها انتقل أنا ودنيا, بين الصالات الكبيرة وضواحي القاهرة ثم أعود الى هليوبولس التي يطلق عليها مصر الجديدة.
عدت الى المنزل بعد ساعتين, وأعطيت الخادمة إجازة لاسبوع ثم فتحت الخزانة وحشوت محفظتي بالنقود, ثم فتحت الخزانة السفلى, واحرقت نسخ الشيفرة اللاسلكية وحملت حبة بيضاء لففتها بقطعة من الورق وأغلقت الخزانتين ثم الصقت الحبة البيضاء بمادة لاصقة على جانب الطاولة. وقلت في نفسي أذا أكتشفوا هويتي الحقيقية أثناء غيابي, فسينتظرونني هنا, عندها, سأجد بلا شك الفرصة لاصل الى الطاولة وأنزع الحبة البيضاء وأبتلعها وبعد لحظات يكون (آرام أنور ) في عالم أخر. أغلقت المنزل وتوجهت الى المطار وكانت القيادة المصرية قد حجزت أجهزة رادار حديثة لحساب سلاح الجو المصري, وهي نفس أجهزة الرادار التي كانت قبل بضعة سنوات منصوبة على الحدود بين تركيا والاتحاد السوفياتي. أما اليوم فلم تعد قيمة لتلك الاجهزة في تركيا بعد أن وضعت على حدودها شبكة رادار واسعة وحديثة أكثر بالتعاون مع الدول المشتركة في حلف بغداد. وكانت أجهزة الرادار التركية السابقة لازمة لمصر لتكمل حزام الرادار على طول قناة السويس ومنطقة الدلتا. وكانت القوات الانجليزية قد تركت في مصر بعد جلائها أجهزة رادار محلية فقط, بينما رفضت الشقيقة الكبرى – الاتحاد السوفيتي – تزويد مصر بأجهزة الرادار بحجة أنه لاتوجد في مصر القوى البشرية المؤهلة والمدربة على أستخدام اجهزة الرادار الحديثة.
وصلت المطار في نهاية الوقت المحدد لاقلاع الطائرة, ووصلت في أعقابي سيارة أخرى. وخرج منها تاجر ممتلئ البدن وقطع تذكرة للسفر الى تركيا, وصعدنا معا الى الطائرة, وجلس كل منا في مكانه وفجاة شعرت أن هذا التاجر البدين سيكون بلا شك الظل الذي سيتبعني في كل مكان أزوره في تركيا, وحتى عودتي الى مصر. وكان علي أن أقوم بالسفر الى أسرائيل من تركيا لمقابلة المسئولين عني فكيف افعل وهذا الظل التاجر البدين يتبعني في كل مكان. وكانت الرسالة الاخيرة التي وصلتني الى مصر من وكيل أعمالي ( زيجفريد لاها ) من سويسرا تتضمن نقطة صغيرة سوداء بحجم عين الذبابة, ولما قمت بتكبير النقطة وحل رموزها علمت أن المسئولين عني يطلبون عودتي الى أسرائيل حالا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق