الأحد، 30 نوفمبر 2014

كيف قاومت الدولة العراقية الانهيار منذ 1920؟

كيف قاومت الدولة العراقية الانهيار منذ 1920؟

أوريون XXI – التقرير
الوضع العراقي هو تعبير عن أزمة أوسع لدول المنطقة. عواقب الغزو الأمريكي سنة 2003 والانتفاضات العربيّة منذ 2011 التقت حول الحشد ضدّ السلطة المركزية الّتي يُنظر إليها كمستبدّة. وفي العراق، المظاهرات متطرّفة في العنف وتلت ثلاثة عقود من الحرب. النظام الحكومي قد جُرّم دون أن يستبدل بأي نظام حكم آخر، والسياقات المحلية المعقّدة جدًّا تمّ تعزيزها.

وضعف الهياكل الحكومية عزّز إنشاء جماعات قتالية، خاصة جهاديي تنظيم الدولة الإسلامية. ووُضع الإطار الحكومي ضمن منافسات رمزية قويّة حيث الطوائف المحلية تقف كخصوم وتقوم على السجل الطائفي. والمعارضون الحاليون للسلطة يشاركون في هذه المناسبة. ولكن، على الرغم من اجتماع العوامل المستنزفة لموارد الدولة، يبدو من الصعب قتلها.

ولايات في إطار وحدة وطنية

كمثل أغلبية الشرق الأوسط، ولد العراق غداة الحرب العالمية الأولى من الهزيمة العثمانية أمام قوى الحلفاء والمفاوضات الدبلوماسية لإعادة رسم المنطقة. ومنذ 1920، الولايات الثلاث الموصل وبغداد والبصرة والتي ستشكّل العراق تمّ تخصيصها لحكم الانتداب البريطاني.

وما كادت تسيطر على الأراضي حتّى واجهت القوّة الاستعمارية الجديدة انتفاضة واسعة من السكان المحليين بقيادة ممثلين من رجال الدين الشيعة ـ الناشطين بقوّة في الحركة الدستورية في منذ أواخر القرن التاسع عشر ـ وزعماء العشائر. وأُعيد الهدوء إلى البلاد نتيجة عملية قمع واسعة.

هذه الوضعية فرضت على لندن حلًّا سياسيا: تفويض الإدارة إلى السلطات المحلية مع ربط مستقبل البلاد بمعاهدة. والسلطات المحلية لقبول التعاون مع البريطانيين طالب بإعادة وعد الاستقلال القادم وبعض الخطوط الإقليمية. وفي سنة 1920، دفع البريطانيون بفيصل، ابن الشريف حسين الّذي أصبح ملكًا على الحجاز ليكون ملكًا على العراق. وأبصرت المملكة العراقية النور في 1921 وأقرّت دستورًا واتّخذت من بغداد عاصمة لها.

الفترة الزمنية بين 1932 و1958

ورغم حصولها على الاستقلال في سنة 1932، لم تتمكّن المملكة الهاشمية العراقية من التخلّص من الشروط الّتي سبقت ولادتها. السمة الأولى اللافتة، كانت حول مركز العاصمة، بغداد، الّذي يتشكّل في إطار معارضة طرفين جغرافيًا ومذهبيًا: في الشمال كردستان وفي الجنوب المناطق الشيعية.

وخلال سنة 1930، شهدت هذان المحيطان حركات احتجاجية مهمّة مرتبطة بالصراع من أجل السلطة. في كردستان مثلًا، جزء من الشعب يطالب بالحكم الذاتي أو حتّى الاستقلال، في حين أن الآخر يسعى إلى اتّفاق مع المركز الوطني. هذا النزاع الحيّ تطوّرإلى تحوّل في معاملة الأقليّات ضمن الإطار الدستوري للمملكة.

ومن 1946 إلى 1958 ـ وضع فريد نسبيًّا ـ “عقد طويل من الصمت” اجتاح العراق، حيث الحشد على أسس طائفية أو عرقية ترك المجال إلى حركات اجتماعية اتّخذت مكانة في العاصمة واقترح إصلاحًا ـ أكثر من إسقاط ـ للنظام الدستوري.

السمة اللافتة الأخرى، تمثّلت في تبني ممارسات سياسية موجودة قبل إنشاء الدولة. المؤسسات الجديدة -المتركّزة على البرلمان حيث يتمّ تعيين إحدى الغرفتين وانتخاب الأخرى- تشجّع على ديناميكية الإدماج من خلال استقطاب الوجهاء الّذين يتفاوضون على الموارد مع النظام المركز من أجل الحفاظ على السلم الأهلي بين الطوائف الّتي ينتمون إليها. تمّ الحديث إذن عن الزعامة ـ أسلوب إدارة حيث يلعب الوجهاء دورًا حاسمًا في حلّ الصراعات المحتملة. ثمّ تمّ اللجوء بانتظام إلى قوانين الطوارئ لمواجهة الانتفاضات الّتي جرت في العاصمة.

خلال هذه الفترة، لم يمنع القمع من التعبير العلني والتعبئة الحزبية وإنشاء مجتمع مدني معارض؛ إذ إنّ حركات سياسية سرية جديدة قد أنشئت من بينها الحزب الشيوعي العراقي. مطالب إصلاحات الإطار الدستوري الحاكم في العراق تكرّرت حتى سنة 1958، وجميعها تدعو إلى دولة ليبرالية ودستورية حقيقية.

انقلاب باسم الدولة

يوم 14 يوليو 1958، تمّ إسقاط المملكة الهاشمية واستولى عبد الكريم قاسم على الحكم من أجل بناء الجمهورية. وخلال السنوات الخمس الأولى الّتي فصلت نهاية الحكم الهاشمي والانقلاب البعثي الأول (يوم 9 فبراير 1963)، تمّ إرساء ديناميكية مركزية الدولة في تحدّ للأطراف.

السجل ثوري ومناهض للإمبريالية. ومن أجل الدفاع عن الأفكار المحايدة والقومية، على الدولة أن تقوم بتغيير جذري للهياكل الاجتماعية ولا يمكنها التسامح مع الانقسام. النظام الدستوري صار انتقاليًا وتكريس الحريّات السياسية لم يتوقّف عن التأجيل. بعض الجماعات السياسية تمّ التسامح معها دون تقنينها، من بينها الحزب الشيوعي الّذي يضم آنذاك آلاف المناضلين.

حقبة قاسم كانت زاخرة رغم محدودية الحريات السياسية، ورفض أي قوّة جديدة والإلغاء الفظّ، لكن آليات التفاوض التقليدية حرمت فجأة الطوائف المحلية من دعم الوساطة مع النظام المركزي وفتحت الطريق أمام العنف السياسي.

وفي مارس 1959، عندما انتفضت مدينتا الموصل وكركوك ضدّ العاصمة كان يكفي لبغداد أن ترسل بعض الطائرات لتغيّر منحى الاحتجاجات نهائيًا وتفادي امتدادها إلى أقاليم أخرى. وكانت أيضًا الحقبة الّتي تعزّزت فيها فكرة العراق “تماسك الدولة الوطنية كاف لتفادي تفكّك الإقليم وانهيار أدوات الدولة”.

خلال سنة 1960 و1970، تضاعفت الانقلابات مخلّفة التقلّب السريع لفرق الحكم وتطهير الأجهزة المؤيدة وانهيار أي دعم قانوني. عدم الاستقرار هذا على رأس الدولة أظهر جماعة الحزب البعث المنصهرين حول صدام حسين الّذي أحاط نفسه بأقارب من العشائر السنية في مدينة تكريت مسقط رأسه، وانتهى بإجبار حسن البكر على تقديم استقالته في 1979 والاستيلاء على مجمل السلطات.

تغيير عميق حدث منذ ذلك الحين في أجهزة الدولة؛ إذ إن الدولة العراقية تُدار من خلال العديد من مراكز القوى (بكفاءة ملزمة) تتنافس فيما بينها وتخضع إلى سيطرة الرئيس. ساعد هذا الجهاز على المعاملة الوحشية للمعارضة الحقيقية أو المفترضة، السياسية أو العرقية أو المذهبية. أصبح شمال البلاد تدريجيًا مسرحًا لتجريم أدوات الحرب من قبل النظام الّذي ذهب حتّى استعمال الغاز. الأمر نفسه بالنسبة لطائرات الهيلكوبتر الحربية الّتي سحقت بلا رحمة المظاهرات السلمية الخارجة من المدن الشيعية المقدّسة في 1977. وكلّما تحوّل النظام نحو الكليانية كلّما تطرّفت المعارضات.

حروب صدام حسين

منذ 1980، يمكن تقسيم التاريخ العراقي إلى ثلاثة تسلسلات، تلك المتعلّقة بالحروب الّتي فرضها صدام حسين على البلاد.

أول تسلسل، الحرب على إيران. قرار صدام حسين غزو إيران يوم 22 سبتمبر 1980، أضعف موارد النظام واستهلك ثروة النفط، خرجت الدولة مفكّكة وبلا شرعية بعد ثماني سنوات دامية من الصراع. والحاجة إلى استعادة شعار الدولة تفسّر في جزء ما غزو الكويت في أغسطس 1990 من قبل ديكتاتور متقهقر.

هذا القرار خلّف تشكّل تحالف دولي ضدّ العراق وفشلًا عسكريًا ثقيلًا علّق الدولة “العراق”، وتلته انتفاضة واسعة للسكان أغلبهم من الشيعة جنوب العراق الّذين تمكّنوا من تجريم نظام صدام حسين، ولكن هذه الانتفاضة لم تكن ضمن أجندة التحالف الدولي آنذاك ليسمح للديكتاتور بقمعهم بطريقة وحشية جدًّا. الأرقام اليوم تتحدّث عن 200 ألف قتيل.

التسلسل الثاني، يمتدّ بين 1991 و2003. تحوّلت الدولة العراقية لثلاثة منحنيات: الاستيلاء عليها من قبل شرائح أقلية سنية، والعنف المذهبي في مواجهة الطوائف الشيعية والكردية، الإرهاق المالي بسبب الحصار الّذي أعاد تركيز الإدارة حول المركز الحاكم، وأخيرًا إعادة العشائرية للعراق وإضعاف طرق التسويات الحكومية، بسبب تخلي صدام عن أي أيديولوجيا لتعزيز سيطرة البلاد على القبائل.

خلال الحصار ولأول مرة منذ 1921 لا يعتمد الإقليم السياسي في العراق على سيادة بغداد. لأسباب سياسية في الأساس، حكم الشمال نفسه أسرع من الجنوب المجروح بسبب قمع 1991 ونتائجه. والحصار في باقي البلاد قلّم كل أشكال التضامن مخالفًا للبدائي.

ومع ذلك لم يكن أحد قادرًا على معارضة نظام الدولة؛ لأنّ المركز الديكتاتوري يمكنه اللعب على الانقسامات الجهوية للتدخّل والسيطرة على هذه الأراضي، مثلما حدث خلال التدخّل في كردستان عام 1996.

الساعة الأمريكية

ولكن، هذه الهندسة الهشّة للسلطات قطعت في مارس 2003 من خلال غزو العراق من قبل التحالف البريطاني الأمريكي. حقبة جديدة بدأت خلالها شهدنا انهيار هياكل الدولة الّتي تمّ إضعافها بعقد من الحرب وعقد من الحصار واحتلال خارجي.

المنتصرون السياسيون من بين العراقيين استولوا على عجلة السلطة وعملوا على حرمان المكوّنات الأخرى. استفادوا في هذا الاستيلاء من الدعم الخفي للبرنامج الأمريكي لإعادة بناء العراق الّذي قام أساسًا على المذهبية لصالح وضع ديمقراطية تفترض تقاسم السلطة بين المكوّنات الطائفية الممثلة للشعب. ووكلاء سياسيون استفادوا من التمثيل الطائفي واستحوذوا على مجمل الأصوات لصالحهم بدعم وأيضًا تشجيع من قوّة الوصاية الأمريكية.

وعلى الفائزين في هذه الاضطرابات أن يواجهوا بسرعة القوى المتلوّنة الّتي تعارض هذا الترتيب للسلطة، وهي تأتي من داخل الطائفة الحاكمة، مثل حالة الحركة الصدرية للشيعة المعارضة للوزير الأول نوري المالكي، أو من الشرائح المقصاة من التمثيل الوطني، مثل مختلف الجماعات الموالية للقاعدة.

ولكن، إضعاف هياكل الدولة وجاذبيتها الرمزية لم يدفع الأقاليم السياسية للانفصال. وشمال العراق حول منطقة الحكم الذاتي في كردستان أسمى مثال على ذلك، بعيدًا عن الانفصال عن الإطار العراق يفاوض الزعماء على تعزيز الحكم الذاتي الّذي يمثّل ميزة لإرساء اقتصاد مستقل قد يكون مكلفًا مع الاستفادة من مواردها الجديدة.

رفض السلطة المركزية

هذا الإطار رغم هشاشته، هل يعزّز من دخول مجموعة حشد جديدة على الساحة، تنظيم الدولة الإسلامية؟ هذا اللاعب الجديد -جزء منه ينحدر من حركات القاعدة في العراق وآخر من وحدات عسكرية جذبها التمرّد السوري- يبدو أنّه قد أتى في نقطة محددة من اللعبة السياسية العراقية.

في الواقع، حكومة المالكي كان عليها التفاوض على مدّ سلطتها بمناسبة ميثاق أربيل في 2010، ولكن ولايته شهدت معارضة قويّة بسبب ممارسات حكومته تجاه حركات المعارضة الأخرى، خاصّة السنيّة الّتي سعى إلى إبعادها. الخطر الجهادي الجديد له تأثير معاكس، فقد مثّل تهديدًا كبيرًا لدرجة انصهار الطائفة الشيعية تحت زعامة المالكي وحشد تحالف دولي واسع حوله، يجمع الولايات المتّحدة وإيران.

علاوة على ذلك، تنظيم الدولة الإسلامية تعبير عميق عن رفض سلطات بغداد من قبل الجماعات السنية المتزايدة. كغمزة في التاريخ، في الربيع العربي، الاستيلاء على الموصل خلّف صدمة وطنية، أصيبت بغداد بشلل فوري وترك المالكي منصبه كرئيس وزراء. وفي الأسابيع القادمة قد تقرّر السلطات الكردية تنظيم استفتاء حول الاستقلال. فهل تعلن هاتان الحركتان نهاية الدولة العراقية؟

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق