الأربعاء، 29 يوليو 2015

الاتفاق النووي: قُبلة الموت للثورة الإيرانية

الاتفاق النووي: قُبلة الموت للثورة الإيرانية

الاتفاق النووي: قُبلة الموت للثورة الإيرانية

د. محمد الأحمري
مدير منتدى العلاقات العربية والدولية

* إيران من الإمام الغائب إلى الغرب الحاضر

من أسباب التوتر الطويل بين إيران والغرب، أن الثورة أخرجت إيران من كونها مستعمرة خالصة لهم أيام الشاه وتابعة لمراداتهم، إلى دولة مستقلة تعمل لمصالحها أو ترى بحسب رؤية الثوار أو بعضهم على الأصح للعالم، ولكونها خرجت بالثورة من تحت أقدام التبعية للغرب، وهزت مستقبل بقية المستعمرات، وكذا الكيان الصهيوني.

وأيدت الثورة استقلال فلسطين بلا تحفظ، وسلمت السفارة الإيرانية لعرفات أو لمنظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت المقاومة الفلسطينية، وهذا دعم تراجع الآن أو ربما انتهى وسينقطع بعد الاتفاق وتتحول إيران لعلاقة أحسن مع منظمة التحرير ومع من يتصالح مع اليهود، وقد تتحول كما فعلت حكومات عربية لتكون ضد المقاومة.

ولأن العلاقات السابقة مع المقاومة حولت اللوبي الصهيوني والأمريكي إلى أعداء متطرفين لإيران هيجوا العالم ضدها، فسيكون للاتفاق ما بعده على مستوى القضايا العربية والإسلامية عموما، وما الاتفاق إلا بداية خطوة انحياز مضاد سيتجلى أكثر مستقبلا، وهناك قوى هائلة في داخل إيران تدفع بالبلاد لتتجه هذا الاتجاه.

الكراهية المتبادلة بين أوباما ونتن ياهو كان لها دور كبير في تجاهل الأخير وعدم إعطائه قيمة علما بأن المصالح الصهيونية مرعية في الاتفاق، وهناك موافقة صهيونية حقيقية على الاتفاق، وأوباما تعامل مع مكايدة نتن ياهو باحتقار متواصل، مما جعل نتن ياهو يحاول تجنيد اللوبي الصهيوني واليمين المتطرف والعرب الأليفة ضد شخصية وسياسة أوباما، وخسر الرهان الشخصي ولم تخسر بلاده بل ربحت وستحاول البحث عن أثمان أكثر، على طريقة التاجر اليهودي شيلوك، ومن الثمن الإفراج عن بولارد الجاسوي الصهيوني المسجون في أمريكا لأكثر من عشرين عاما، رغم أنه حقق أخطر اختراق للبحرية الأمريكية في تاريخها، وعشية تجسس الصهاينة على المحادثات.

وكان مما يثير السخرية أن جواسيس اليهود في المحادثات خطب فيهم كيري محذرا من اختراق الموساد للمحادثات ونقلوا حتى تحذيراته.

الاتفاق سيساعد في إنجاز "إيران المُنتظرة" التي خرجت وسيخرجها الاتفاق من انتظار الإمام الغائب إلى إنجاز دولة "قومية علمانية" تتحرك بحجة الإصلاحيين نحو الخلاص من المؤسسة الدينية النافذة وستؤدي للغرب مصالح أكثر من تجارية لكونها البلد الموازي والمزعج الدائم لتركيا -القريبة من الغرب والمكروهة في الوقت نفسه بسبب التاريخ المستعاد دائما- وكون طهران ضد كيانات السنة الطموحة، وضد أغلبية المسلمين، وضد مخاوف التطرف الموجود في المشرق والمغرب العربي وباكستان وأفغانستان وبقية وسط آسيا وتعطي التوازن المضاد للإسلاميين كما هو مطلوب.

وسوف تُبقي إيران العلمانية القومية القادمة على ضرورات التواصل الشعبوي والغلاف الديني المفيد ولاء ونفوذا، كما فعلت سلفيات أخرى من قبل.

كان من أهداف الغرب الراسخة تدمير الثورة وإنهاء طموحات إيران بالاستقلال وإعادتها إلى بيت الطاعة، وتحقق جزء من هذا بهذا الاتفاق وخسرت به إيران الكثير من استقلالها وسيادتها، مما سوف يؤسس به الاتفاق صراعا داخليا قادما ومزايدات مستمرة.

السلوك الذرائعي الذي أسس له الخميني يغيب مع المتشددين ويعود للظهور مع المعتدلين كروحاني، فإذا كان الخميني قد ابتلع السم وقبل بإنهاء الحرب مع صدام فإن هؤلاء لا يقلون ذرائعية عنه، وذلك بخلاف التصلب القاتل والأعمى الدكتاتوري لدى الذي يقل فهمه للسياسة الدولية والنفوذ الغربي.

كان لجهل أغلب قيادات الثورة الإيرانية وبخاصة المتدينين بحقيقة العالم من حولهم، وقلة تواصلهم، وقضائهم على الخط الليبرالي الإيراني الذي كان وسيطا ووسطا بين إيران والغرب وبين الإسلام والمسيحية أو بين الشرق والغرب. وصنعوا قطيعة فأصبح الغرب بلا أصدقاء نافذين في الحكم، حتى صعد فريق من الشباب المتعلم في الغرب والوفي للثورة وأصبح بيده دور دبلوماسي كبير.

وتقدم لقيادة الدبلوماسية الإيرانية قيادة مبتسمة وخط ناعم محب للكثير في الغرب ومظاهر حياته وأفكاره مع ممارسة ذرائعية ومرونة ومعايشة وحس وطني ووضوح غاية مثّلها الفريق التفاوضي الإيراني، وعلاقات وثيقة وقريبة جدا بين المرشد والمفاوضين.

وقد كان الرئيس روحاني عضوا في مفاوضات من عام 2003 إلى 2005، وقد قدم بنفسه للمرشد مشروع المصالحة مع الغرب قبل الانتخابات، فلعله من خطط المرشد لتخفيف ما تعانيه البلاد.

وقد سبق أن عرضت إيران مع الغرب اتفاقا مسبقا كان أحسن للغرب من هذا الجديد "بحسب مقال كريس باتن" لكن تشدد جماعة بوش تشيني لنيل ما هو أحسن منه خسرهم، وخرجوا الآن باتفاق أسوأ ولم يعد بالإمكان الحصول مع إيران على أحسن منه.

الدبلوماسية الإيرانية تمثل مصالح وشعب إيران، عرف العالم منهم شخصيات متشددة ولينة ولكنهم في النهاية على دراية وعمق وتقديم لمصالح بلادهم وثورتهم، فيما البلدان الدكتاتورية لا تمثل دبلوماسيتها مصالح شعبها، لذا تفشل غالبا، ولأن العنصر الأساسي فيها تنفيذ رغبة شخص بواسطة شخص آخر. بينما يتغير وزراء خارجية إيران كل أربع سنوات تقريبا، ومع ذلك يبقون في الفريق الدبلوماسي متعاونين.

هذه الدبلوماسية تستخدم ما بيدها وأحيانا ما لا تملك ببراعة، فحتى في الأسابيع الأولى لسيطرة الحوثي على صنعاء تجرأت إيران وأشار مفاوضوها إلى أن بأيديهم عاصمة جديدة وعدوها ورقة جديدة في المفاوضات.

كما إن لدى طهران دعم دبلوماسي ثقافي كبير داخل أمريكا من اللوبي الإيراني والشيعي، وخرجت قيادات ذات أهمية بالغة من أبناء الإيرانيين المهاجرين بعد الثورة، ممن يحملون جنسيات أمريكية، ومن بعض شيعة هنود، يؤمنون بسقوط تطرف إيران الديني، وهم متعصبون لها قوميا أو مذهبيا.

* أمريكا .. هل كان لديها خيار:

صرح كيري في مقابلاته ومحاجاته في الكونجرس وفي مجلس العلاقات الخارجية بأن عدم الموافقة على هذا الاتفاق سوف تعني عزلة لأمريكا، لأنه أصبح يعرف هو وكبار الساسة أن أوربا وغيرها من دول العالم لن تبقي الحصار لزمن طويل وأنه سينكسر من جهات عديدة سرا وجهرا، ولن يبقى لزمن طويل فاستبق سقوطه بجلب فوائد كبيرة من إنهائه.

علما بأن كثيرا من دول العالم تكره حكومة إيران، إذ لم تقدم ما يجعلها محبوبة ولا مقبولة، ففيها حكم قاس متشدد دينيا وسياسيا، متفلت من القيود، وكما يُؤمِّن فهو أيضا يعكر الاحتلال الأمريكي في العراق وأفغانستان ويطالب بمزيد من القرار والنفوذ، ويحسم النزاعات الصغيرة دمويا أحيانا كما فعل سليماني بقتل أمريكيين ليستخرج دبلوماسييه المخطوفين عند الأمريكان، ويسرق أمريكا عيانا "راجع كتاب أوليفر نورث–تحت النار"، ويفجر جنودها كما في لبنان والدمام، ويحاورها ويعاملها بالمثل، وهذا ما لم تتعوده أمريكا منذ أيام الاتحاد السوفيتي.

عرفت الدبلوماسية الإيرانية أن أمريكا تعاني من تراجع حقيقي في العالم، ولكنها ما زالت تحشده ضدهم، وأدركت أن قدارت أمريكا تواجه مشكلات عالمية أخرى قادمة وتحالفات بديلة كظاهرة البركس "البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا"، وقد أقامت الصين بنكا دوليا جديدا في آسيا وهذا خطر ماحق للصندوق والبنك الدوليين في أمريكا، وعلاقات أمريكا مع روسيا سيئة، وأوربا تتململ من خسائرها من محاصرة إيران، وهي تشهد أزمات مالية هائلة.

وفي حال زادت المشكلات والملاحظات على السياسة الأمريكية تجاه إيران، فقد ينفرط نظام الهيمنة السياسية الأمريكية على آخرين ويجد المتمردون عليها بدائل كثيرة تستعد، وليست تلك البدائل صغيرة ولا هامشية.

* تبدل التوجهات:

ظهر في المنطقة خريطة قادمة مخيفة وغير معروفة، فالعالم السني يتشكل بشكل جديد، وإيران أصبحت مهمة كدولة مستقرة وعاصمة لمذهب ديني وسياسي، حكومتها علنا تواجه المصالح الصهيونية في الماضي على الأقل، ولكن شعبها يكن مودة للصهيونية، بينما ظهرت في المقابل تركيا تقوم بدور قيادي للسنة وشعبها يكره الصهيونية بعمق، رغم مهادنة حكومتها الظاهرة.

وهذا خطر يهدد يهود جاء من حيث لم يحتسب الصهاينة، هذا التخوف الكبير من تحولات تركيا كممثل للسنة المعادين للصهاينة جعل بيريز يفرح بتراجع أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة ويقول لقد تخلصت تركيا من أن تكون خمينية!

إسرائيل قد تجد في الاتفاق فرصة جديدة لاستعادة نفوذها في إيران، وستعمل على تعميق الخلاف الفلسطيني الإيراني، والتركي الإيراني.

كيف وقد خربت إيران علاقاتها مع حماس والجهاد بسبب موقف الحركتين من بشار وتأييدهما للثورة السورية، وقد سارعت إيران في إنشاء بدائل وموالين لها في فلسطين من خلال أفراد فلسطينيين تشيعوا، وسمّتهم "الصابرين" ورفعوا في غزة رايات مستنسخة من راية حزب الله، وأطلقوا بعض الصواريخ. أرادت جعلهم بديلا يضايق حماس والجهاد ولتستغني عنهم أو ليعودوا لها تحت ضغط جناح جديد تام الولاء لها.

إسرائيل في واقع الأمر تَحن كثيرا للعلاقة مع إيران وتهمها جدا أكثر من غالب الدول العربية، بسبب تاريخ سابق ومودة منذ أيام الشاه، وكونهما قوميتين تعاديان العرب، ووجود جالية إيرانية يهودية كبيرة هاجرت من إيران إلى فلسطين، ووصل بعضهم إلى رئاسة الجمهورية وإلى وزارة الدفاع.

الصلح يعني خلاص إيران من حصار طويل، واستعادة أموال ومبلغ مائة مليار-مع خلاف حول الرقم الحقيقي- تسلم مباشرة لإيران من أموالها المجمدة وهذا مبلغ كبير لبلد يعاني حصارا وحاجة، فمثلا سكان إيران حوالي ثلاثة أضعاف حكومات الخليج بينما ميزانيته تقل عن ثلث دخل الخليج، مع فقر وتعطل في مشاريع الزراعة والصناعة مستمر منذ خمسة وثلاثين عاما، ولكن عائدات الانفتاح هي الأهم من الأرصدة.

ويعني الصلح أن تفتح البنوك والشركات الغربية والشرقية بنوكها ومكاتبها في طهران ومدنا أخرى وهي سوق واعدة وغرب عنده الخبرة والمخترعات ويعاني، وهناك إمكانات هائلة لإيران تتلمظ شركات فرنسا وبريطانيا وأمريكا وألمانيا لاستعادتها.

قطاع النقل مثلا كالطائرات يفتح شهية فرنسا "أيرباص، وبوينج أمريكا، كما أن أسبانيا وألمانيا واليابان والصين تسعى لتجديد سكك الحديد وتحديث آبار النفط وحتى صناعة السلاح.

هناك مودة خاصة للإيرانيين في الغرب تختلف عن العرب، فهناك قصة النسب المشترك "كونهم من الجنس الآري كالألمان"، وهناك الغرائبية والحنين لماضي فارس البعيد، ولجمالها وأساطيرها في الثقافة الغربية بطريقة وقلّ في الشرق من يتمتع بسمعتها منذ العصور القديمة، وتجددت محبتها بعد المواجهات مع العرب والترك المستمرة، فهي الصديق البعيد في علاقة "يدي المقصّ" الفارسي الغربي ضد العدو القريب.

المعاهدة ليست نجاحا خالصا بل فيها ما يشبه نصوص استسلام وتجريد من السيادة فيما يخص السلاح والتفتيش الدائم والانتهاك المستمر.

*ا لمصالحة ومستقبل الخليج:


أما حال حكومات الخليج مع الاتفاق، فإن حكومات الخليج تعاني أمراضا مزمنة في سياستها مع الخارج، فهي تابعة مطيعة أو خائفة تسترضي الخارج وتتملقه بتلبية جميع شهواته وتمويل مصانع سلاحه وبنوكه وإعادة دولارات النفط له وتمويل خدماته حتى القذرة منها، وقد لحقت إسرائيل بالمعسكر الغربي في استتباع وتخويف الخليج، وكان الاتفاق وتجسس اليهود على المحادثات وتسريبها لبعض حكومات الخليج فرصة إذلال جديدة على حكومات الخليج بحجة امتلاك معلومات لا يعرفونها ولا يصلون لمثلها، وكلما حدث في الخارج حدث كشف زاوية مظلمة من هذا الواقع التعيس، وعُقد حكومات الخليج الثابتة كالانتفاش والتكبر في الداخل والهوان والتبعية للخارج.

لا تمثل الاتفاقية خطرا محيقا بحكومات ولا شعوب الخليج، فهي خطوة في طريق طويل ولم يتحقق منه إلى الآن إنجازات كبرى، وستأخذ الاتفاقية أثرها على مدى أطول، ونتائجها مقسّطة بطريقة نكدة، لتستكمل ذل الإيرانيين وتعلقهم بوعود بعيدة، ولن ترمي بإيران إلى واجهة كل قوة وتجديد كما يتوهم كثيرون، ولكن يبقى هناك فرق بين حكومات مكونة من شعوبها وتخطط لها وبين من يشعر أنه مختلف أو وسيط بين شعوب مكونة من غرباء مستضعفين وبين الأجانب الأحباب.

وقد آن لحكومات الخليج أن تقلع عن تعلقها سياسة إفقار الجيران المختلفين وإذلالهم، ولتبقى هي محظية للغرب وإسرائيل مدللة وغنية، فقد فشلت هذه السياسة، وثارت نتائجها بوجهها في العراق وإيران واليمن، ولتنظر لمثال السياسة الأوربية التي تنقذ اليونان بأي طريقة، وكذا أمريكا وكندا مع المكسيك، فأن يكون لك جار مستغن عنك ومتكامل معك، خير من جار تضره وتذله بثروتك ويستعد ليوم النقمة.

* قبلة الموت:


هذه الاتفاقية أشبه بـ: "قُبلة الموت"التي قَبّل بها الغرب الثورة فهي موت لكثير من جوانب سيادتها وقيمها واستقلالها إن التواصل الكبير الذي ستحققه المصالحة، أو كما سماه ظريف في مقابلته مع نيويوركر: "التفاعل والتكامل"، سوف يجعل شعبا ملّ التزمت والثورة والانغلاق يقبل على قرب وتفاعل عام مع الغرب، وهذا يعني تنازل واقعي عن كثير من خطاب الثورة الديني ولكنه لن يلغي المكاسب الوطنية، والتي قال عنها ظريف أيضا: "كانت المقاطعة نعمة على إيران" لعله تبرير ولكن إيران كسبت بعزلتها الكثير وهو التماسك والاعتماد على الذات، وترسخ فكرتها الداخلية وتبيّن هوية كانت تريدها الثورة ولكن هذه الأمور بعضها في مهب الريح، وهناك عواصف ستهدمها.

إيران هشة ثقافيا وليس كما يلوح لكثيرين، والتعليم واللغة الدينية قد لا تستمر نافذة في الجيل الجديد، ومشاعر التفوق موجودة والكراهية للعرب كبيرة، بسبب حرب صدام القومية، ثم الحروب العقائدية بين التشيع والتسنن، والملل من قضايا العرب أصبحت راسخة عند الحكومة والآيات فضلا عن عامة الشعب، مما يعني رفع اليد عن كثير من قضايا العرب، ولعل المواجهة تقلّ في الخارج ويسود الاهتمام بالذات.

ولذا، فسوف تفتح الاتفاقية على الحكومة الإيرانية نيران الداخل ومطالبه الإصلاحية والاقتصادية والسياسية وسوف تنشغل إيران بداخلها كما لم يحدث من قبل، فالحكومات تعلم أن الهدوء في الخارج يعني انشغال إن لم يكن اشتعال أسئلة الداخل، وستواجه تحديات وتمردات على نهجها؛ أدناها ستقول كيف حاصرتمونا وأفقرتمونا كل هذه السنين ثم انتهيتم بالاستسلام!

خسرت إيران الكثير في هذه المعاهدة، وانتقصت سيادتها بطريقة غير مسبوقة، وباستجابتها للتفتيش المستمر والمفاجئ، ورهنت أرضها لرغبة الدول الكبار ومتابعتهم الدائمة.

التعليم العالي راق في إيران رغم الحصار، والطاقة العملية هائلة، وتجاوزت البلاد حصارا نفطيا وتجاريا وحاربت في كل مكان، دون مجاعة ولا هوانوإذا انفتحت لها السبل فهي أمام فرص عظيمة لا تقل عن فرصة الأتراك في النمو لكن هذا بشرط أن تتراجع العقائد "الزميتة" للوراء كثيرا.

خطة ظريف القادمة ولعلها خطة حكومته تحسين العلاقات مع دول الخليج، وفتح التجارة معها، ولا يستبعد تسويات في اليمن وسوريا، مع التمسك بالهيمنة على عراق إلى أقصى حد، وكذا اهتماما تجارة ونفوذا في القوقاز وباكستان وتركيا وأفغانستان، وإستراتيجية إيران القادمة ستنصب على الحفاظ على ما كسبت وترسيخ نفوذها الاقتصادي والثقافي والصناعي وتحسين أوضاع شعبها المثقل بالفقر والقطيعة مع العالم.

هناك دعايات تحرص على نشرها أطراف إيرانية ومفادها تحريض للغرب وتهم ضد حكومة خليجية تختلف معها؛ إذ تزعم إيران أنها تدعم أو تمول داعش والنصرة وطالبان والقاعدة وتقلق العراق، وإنها وراء الخراب في المنطقة. وليس اليمن فقط بل وإنها تدعم المنظمات الإرهابية التي خطفت دبلوماسيين إيرانيين وقتلتهم في بيروت وفي شرق إيران، راجع مقابلة ظريف، نيويوركر: 16\7\2015.

وتستغل هذه الأصوات موقف أوباما من الخليج، فلديه عدم ثقة بحكومات الخليج ومستقبلها وقالها لهم في مقابلته مع فريدمان في النيويورك تايمز و"متلفزة" وهو يرى الخطر على تلك الحكومات من شعوبها وليس من خارجها. ولكنها تردّ على أوباما وغيره بمزيد من الخطابة عن الخارج كإيران وداعش.

تتعلل أحيانا حكومات خليجية بخطر إيران وكثير من تلك الضجة لأجل تبرير قمع الشعوب ومصادرة الحقوق والحريات، وإلا فهي مؤيدة وموافقة للاتفاق، ومن المعروف أن كل مستبد يعيش بتهويل أخطار دائمة على الشعب من الخارج ومن العملاء ومن غير المخلصين للحاكم، ومن ناقصي الوطنية، وما الوطنية عند المستبد إلا تفرده باستعباد المقهورين.

لاحظ أوباما أن الاتفاق لو لم يحدث فسوف تطور إيران السلاح النووي بعيدا عن أي رقابة عليها. ولهذا، فنجاح الاتفاق أمريكيا بكونه يحد من التطور النووي العسكري السريع وينشئ رقابة مستمرة تؤخره لمدد عديدة.

هناك جوانب شخصية أخرى أيضا مثل كراهية أوباما للحروب، وانسحابه من المواجهات وتنفيذه لمزاج أمريكي بعد خروج بوش وعسكرته المرهقة لأمريكا وللعالم، وشعوره بالأثر السلبي للعسكرة على الاقتصاد والحياة وتراجع أمريكا في مجالات عديدة أمام منافسيها.

أما كيري، فهناك اتهام بوجود مؤثر علاقات نسب في العائلة وصلة بإيران، ولكن الأهم من هذا أنه أيضا غير مقتنع باستمرار المقاطعة، ولا باستمرار الحروب، وكان كيري الممثل الأبرز للشباب المحاربين في فيتنام وبدأت شهرته شابا كمقاتل في فيتنام وأستدعي في شبابه إلى الكونجرس وأدلى بشهادة مؤثرة ضد استمرار الحرب الفيتنامية.

هناك تململ من حكومات عديدة من الحصار الأمريكي لإيران ينذر بكسره وبتعامل تجاري أوروبي وآسيوي مع إيران، وقد يفلت القرار من يد من أسسه ويكسر الحصار عمليا، فكانت فرصت إسقاطه بأحسن ما يمكن أن ينتهي إليه.

الاتفاق طريق واحد وقد بدأ كسر الحصار، ولن يرجع العالم من الحصار إلى ما قبله، وشركات العالم مشغولة بالسباق على السوق، والتاجر آني، يسخر الماضي للحظة الحاضرة وللصفقة المتوقعة، وكانت زيارة وزير الاقتصاد الألماني في أقل من أسبوع من توقيع الاتفاق رسالة واضحة ثم زيارة وزير خارجية فرنسا ووعد بريطانيا بفتح سفارتها، وكوريا الجنوبية قادمة والباقون في سباق، وكما جندت أمريكا العالم للمقاطعة لن تستطيع تجنيدهم لها مرة أخرى.

* المخاوف الخليجية:

المخاوف الخليجية من تخلي أمريكا عن حمايتها فيه مبالغة من جانب المحميين، فأمريكا لن تتركهم للضياع، فهي أولا تحتاج نفطهم الرخيص وغازهم القادم للأسواق العالمية، وتقدر أهميتهم وضرورة استعمالهم لتوازناتها القادمة والمستمرة في أمور منها ضبط الإسلام، وضبط تمرد أو خروج إيران لإزعاجات أكبر، وكذا أي قوى أخرى.

فأمريكا التي كانت على خلاف مع حزب البعث العراقي أيام صدام استخدمته لقمع الثورة الإيرانية وإذلال إيران زمنا طويلا، وللتسويق لسلاحها. وأمريكا ليست من الغباء أن ترمي بالخليجيين بعيدا عن قبضتها وهي تنافس تحيزات عالمية قد تنشأ في المنطقة والعالم، ثم إن الاتفاق حمل معه خبث الابتزاز بأن عليكم بشراء المزيد من السلاح فهو يؤمنكم ويجعل لكم مكانة عندنا وقوة ضد إيران.

المزايدات الفرنسية ما هي إلا لمزيد تحكم في سوق السلاح العربي النهم لصناعتها العسكرية، ولكنها لا تقدم ولا تؤخر في الاتفاق وتعلم ذلك والعالم، وهي من أحرص الدول على سوق إيران بكل فروعه. وحين لقي وزير خارجية فرنسا وزير الخارجية الإيرانية ما زاد إلا أن وعده بالزيارة، ولم نسمع عن أي عنتريات، وما أن وقع الاتفاق حتى أعلن الوزير الفرنسي التوجه لطهران.

هذا الاتفاق يعطي فرصا أهم وأعمق للعرب لو وجد في المنطقة من يحرص على بناء اقتصاد أو صناعة أو تحسين للعلاقة مع الشعوب، وفوق ذلك لو وجدت همة إصلاح، أما سياسة الرياء والصراخ من آثار الاتفاقية والخطابة والشكاوى فهي للاستهلاك العام، وحشد الضجة والتخويف للمساكين وكأنهم يعارضون الاتفاق، بينما أبلغت حكومات المنطقة موافقتها وتلقت زيارة التطمينات الديكورية. هذا الإست غباء للشعوب عملية مستمرة.

موقف حكومات الخليج متفرق ومضطرب وتعرف ذلك إيران قبل غيرها، فأكثرهم شاركوها وأمريكا في قرارات كبرى في المنطقة، مثل إسقاط صدام حسين، واحتلال العراق، ومحاربة سنة العراق، بحجة أن منهم إسلاميون، ويشاركونها في الحرب على "داعش" وشاركوا أمريكا في إسقاط طالبان، وبعض حكومات الخليج توافق إيران في إبقاء بشار وفي تأييد الحوثي وصالح. وما زالت المشاركات قائمة في أمور مهمة مثل الموقف من السيسي مثلا.

الاتفاق يعني المزيد من تجذير الخلاف الأوربي الأمريكي، مع أن ظاهره وفاق وإجماع ولكن أوربا ستتجه بعده لمصالحها الدائمة مع طهران، ولم نر نقاشا مهما في برلماناتها ولا حكوماتها ولا صحافتها يحمل ترويعا من الاتفاق. وإيران تدرك هذا تماما، وتعلم أن أوربا بعيدة عن الموقف الأمريكي، وما كان يصح قديما أصبح الآن مختلفا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق