فيلسوف النكسة وعراب الانقلاب هيكل
في شهادة هيكل على التاريخ كتب عن أدق التفاصيل المتعلقة بالثورة، ذكر كيف بدا الملك فاروق متخبطاً في أيامه الأخيرة، وكيف كانت انتخابات نادي الظباط التي فاز فيها مجموعة الظباط الأحرار هي القشة التي قصمت ظهر البعير، وهو هنا يقصد بالبعير القصر ومجموعته، فلدى هيكل الحد الأدنى من الذوق في التعامل مع الملوك.
هيكل خلال شهادته التي نشرها في مقال مطول يقع في 35 صفحة، وفي أكثر من 15 ألف كلمة كشف الستار عن أسرار الملك الخاصة، بل أنه يكتب في فقرة مطولة تحت عنوان "دموع ملك في حالة قلق"، وينقل من مذكرات حسين سري باشا أن الملك فاروق بكى وتأثر خلال مناقشة حامية بينهما، ويعقب هيكل على ذلك بقوله أن هذه الدموع تعكس قلق هذا الرجل ليس على عرشه فقط لكن على واقع الحياة السياسية في مصر كلها.
وحتى خلال شهادة هيكل المصورة على شاشات الفضائيات، فإنه يعبر في أكثر من موضع عن احترامه لفاروق، وعن تأييده له في أكثر من موقف، لكنه لم يكن يذكر شيئا عن المقالة التي نتحدث عنها الآن.
ماذا كتب فيلسوف النكسة وعراب الانقلاب محمد حسنين هيكل في مجلة روزاليوسف، وفي العدد رقم 830 الصادر في القاهرة يوم الخميس 11 من مايو 1944 م ، الموافق 18 من جمادى الأولى سنة 1363 هـ، وبمناسبة العيد الثامن لجلوس الملك فاروق على العرش، وتحت عنوان
"في يوم عيدك يا مولاي" يخاطب الملك فاروق
قائلاًً..
هذه هي الذكرى الثامنة لجلوسك يا مولاي على عرش مصر .. ثمان سنوات وأنت تحمل مسئولية هذا الوطن وهذا الشعب ، كنت فيها نعم الملك الدستوري في ظروف لعلها أدق ما مر بها في تاريخ حياتها ، أوليس الفاروق هو الذي قال ذات مرة :
ـ إنني أحب قيادة السفينة أثناء العاصفة ..
ثمان سنوات وأنت تعمل لهذا الشعب وتخلص له وهو يعمل معك ويخلص لك وستظلان معا إلى الأبد .
وهذه مصر كلها تحتفل بعيد ملكك .. مصر من أقصاها إلى أقصاها ، أفرادا وجماعات ، أحزابا وهيئات ، ولم تجد مصر ما تحيي به هذا العيد سوى الهتاف باسمك والدعاء لك ..
في نادي سعد زغلول طلب الحاضرون إلى ماهر باشا أن يقول لهم شيئا ، فقال : إن أحسن ما أقوله ليعبر عن كل ما نحس به هو أن أهتف من القلب :
ـ يعيش جلالة الملك ..
وردد الجميع هتافه ..
وفي احتفال الأحرار قام الأعضاء وراء هيكل باشا يهتفون باسمك ويدعون الله أن يسدد خطاك .
وفي احتفال الكتلة كان الهتاف لجلالتك يشق عنان السماء بين كل دقيقة وأخرى .
لقد علمت مصر كيف تحبك من يوم أن تفتحت عيناك على نور الدنيا ، فلم تكن وأنت أمير طفل تترك فرصة لتُظهر فيها عطفك على بنيها واعتزازك بها إلا أظهرتها ، وكنت دائما في كل مكان تشعر بأنك المصري الديمقراطي الأول ، فكنت في كل مكان خير رمز لمصر وأحسن عنوان لها ..
ولقد أخذ التفكير في مصر كل وقتك ، وأخذت تعمل ..
في عيد ميلادك تركت قصرك وعاصمة ملكك وذهبت إلى الصعيد لتزور جزءا من شعبك حلت به نكبة المرض ، وقلت : إن أحسن احتفال بالعيد هو أن ترى هؤلاء البؤساء ويروك .
ومنذ أشهر قابلت الكولونيل بون رئيس جمعية الصليب الأحمر فكانت آخر كلماتك له :
ـ لا تدع أحدا يسيء إلى مصر ..
وهكذا أخذت عليك مصر كل تفكيرك ، لأنك تحبها ، ومصر يا مولاي تحبك ..
ولقد قال لي ذات مرة أحد كبار الأجانب وهو المستر إيرل رئيس تحرير الإجبشيان جازيت ـ وكان في صحبة جلالتك إلى بورسعيد ـ قال إنه دهش لما رأى عشرات الألوف من الفلاحين ينتظرون الساعات الطويلة تحت وهج الشمس ينتظرون مرور الملك في قطاره … وربما لم يروه وحتى لو أتيحت لهم هذه الفرصة فلن يدوم ذلك لأكثر من جزء من الثانية ، ثم قال إنه يتساءل عن قوة العاطفة التي تدفعهم إلى ذلك ، وقلت له :
ـ إنه الحب .
ـ وقال :
ـ ياله من حب قوي ..
ولم يكن المستر إيرل هو أول أجنبي دهش لروعة مظاهر الحب بينك وبين شعبك ، وإنما كثيرون شاركوه هذه الدهشة ، ولم يترك أحدهم فرصة للإعراب عن ذلك إلا أبداها ..
وقد قال لي المسيو ليجول رئيس تحرير البورص : إن مصر محقة أن تحب مليكها كل هذا الحب فهو جنتلمان حقيقي ..
وقال مراسل مجلة لايف إنه شاهد ملوكا ورؤساء كثيرين تستقبلهم شعوبهم ، فلم ير أروع ولا أعظم من استقبال شعب مصر لمليكها ..
وأذكر أنني سألت السناتور " ميد " ـ أحد الشيوخ الأمريكان الذين زاروا مصر منذ عدة أشهر .. وكان قد تشرف بقابلة جلالتكم ظهر اليوم نفسه ـ عن رأيه فيكم . فقال :
ـ صدقني يا بني لقد رأيت ملوكا كثيرين قبل ملككم ، وقابلت عظماء كثيرين قبل أن أقابله ولكني لم أجد من أحدهم هذا الحب لبلاده الذي يبدو واضحا خلال حديثه عنها كما هو الحال مع فاروق …
ولن أنسى أن أحد الضباط الأمريكان رآك يا مولاي في إحدى الحفلات فلم يملك نفسه وهتف : " فليحفظ الله الملك " ..
وبعدها قال لي هذا الضابط إنه لم يكن يتصور أن سيأتي عليه يوم يهتف لأحد الملوك وهو الذي ولد جمهوريا متعصبا ، وقال لي :
ـ إنني لم أهتف حتى لروزفلت نفسه .. ولكن ملككم هذا رجل عظيم ..
يا مولاي .. هذه ثمان سنوات ، وأنت وهذا الشعب تتقاسمان السراء والضراء وتسيران في طريق الحياة بأزهارها وأشواكها ، وستبقيان معا إلى الأبد ، لأن هناك رباطا من الحب يوثق بينكما .. رباطا من الحب الخالد ..
صورة ملك.. صورة شعب
لقد رسم الاستاذ هيكل بمقاله المنشور منذ أكثر 63 سنة صورة لملك يحترمه الشعب، ويحترم الشعب، وبغض النظر عن مواقفه السياسية، إلا أنه على الأقل كان حتى اللحظات الأخيرة من حياته يحظى بالإحترام الكافي لملك مثله.
والمدقق في كتابات هيكل، يعلم جيداً أنه يملك الجرأة الكافية للحديث دون إحترام كافي عن رئيس أو ملك أو أمير، لكنه، وقبل 60 سنة، كان لا يزال يملك الصراحة الكافية للحديث عن فاروق بهذا الشكل.
ورغم أن المقال يتم استخدامه ضد هيكل باعتباره كان موالياً للملك قبل الثورة، إلا أن هيكل يرد على ذلك ببساطة، بان هذه كانت مكانة الملك قبل الثورة لدى المصريين، الذين كرهوا الأوضاع السياسية، لكن كانوا لا يزالون يحتفظون بقدر من الحب له، والتقدير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق