الجمعة، 24 يوليو 2015

النيل خلية إخوانية عائمة

النيل خلية إخوانية عائمة


وائل قنديل

جاء وقت على المصريين، كانوا كلما وقعت كارثة سير، حريق قطار أو غرق عبارة، أو انهيار مبنى، يستدعون من المخيلة الحوادث المشابهة في اليابان، وغيرها من دول تعتبر المواطن فيها من البشر. كانوا يرددون، وهم موقنون بأن أحدا لن يهتم أو ينصت: لو وقع هذا الحادث المأساوي في اليابان لانتحر الوزير المخاص، واستقال الرئيس وجلس في منزله، إحساساً بالذنب والعار، أما الآن فقد وصلت الأوضاع بمصر إلى مرحلة يستطيع فيها المسؤول أن يرتكب جرائم، ويتسبب في كوارث، من دون أن يعتريه أدنى قلق على منصبه، أو يساوره شك في محاكمته ومحاسبته، لاعتبارات عديدة، في مقدمتها أن هناك مهربا آمنا من كل الأخطاء والخطايا والكوارث، اسمه "الإخوان".
 اقتل وقل "الإخوان"، اسرق واختلس وارتكب كل الأخطاء، عن عمد وبدون قصد، وإن فكر أحد في مساءلتك قل "فعلها الإخوان"، وسيطرب الجميع لهذه الإجابة، بدءاً من حاكم البلاد وحتى أصغر مسؤول في الأرصاد الجوية، إذ معيار البقاء والترقي والمكافأة الآن هو كراهية الإخوان والتحريض عليهم والتشهير بهم، وإلصاق كل التهم بهم، وتحميلهم المسؤولية عن كل شيء، من اتقطاع التيار الكهربائي، إلى تسريب امتحانات المدارس، وسوء الأحوال الجوية، انتهاء بكوارث الطرق، وأخيراً غرق المراكب في نهر النيل.
وإن لم تجد موظفا تتهمه بالتأخون والخيانة في كل قطاعات الدولة الكارثية، يمكنك أن تدّعي أن "المناخ" ينتمي إلى الإخوان، إذا اضطربت الأحوال الجوية، ويمكنك أن تزعم أن "نهر النيل" خلية إخوانية نائمة، أو عائمة، إن غرق قارب أو جفت المياه، وسوف تجد من يساعدك في إقناع الجماهير بادعاءاتك ومزاعمك، إذ هناك جيوش إعلامية جاهزة طوال الوقت، للانقضاض والنهش في لحم الإخوان، وعرضهم، سيقدمون لك هذه الخدمة مجانا، خالصة لوجه الفساد والقبح والانحطاط. إن تحميلها للإخوان يوفر أيضا حصانة مسبقة للزعيم الذي لا يخطئ، وإن أخطأ لا يعاتبه أو يحاسبه أحد. لذا، يصبح الموت المفجع لأكثر من عشرين مواطنا في غرق مركب بالنيل، في قلب القاهرة الكبرى، حدثا لا يسترعي الانتباه، ولا يوجب المحاسبة والمساءلة، لمسؤول ولو حتى وزير، وأقصى ما يمكن فعله، حتى يتم الانتهاء من توليف رواية لتعليق الكارثة برقبة الإخوان، هو حبس "المراكبي" البسيط الغلبان، وتوجيه الاتهام له. أما أن يشير أحد بعقلة إصبع إلى المسؤول الأول الذي يجمع في يديه بكل السلطات في البلاد، فهذا هو الكفر بعينه، والطعن في المقدسات، والذي يورد مرتكبه الجحيم.
في عصر حسني مبارك، كان الناس كلما وقعت كارثة بهذا الحجم يستطيعون الصراخ بأن دماء الضحايا في رقبة رئيس الدولة وحكومته،
وفي أيام محمد مرسي العابرة كان الجميع يقولون إنه المسؤول الأول والوحيد، لو احترقت حظيرة دجاج في أصغر قرية، كلهم كانوا يحفظون ويرددون بطلاقة قصة "عمر وبغلة العراق".
وأذكر أنه في العام 2009، حين وقعت كارثة في قطار الصعيد، وقبل أن يقال وزير النقل، أن اخترع إعلام الحزب الحاكم في ذلك الوقت قصة الجاموسة التي تسببت في خروج القطار عن مساره.
 وقتها كنا نتندر بأننا قد نفاجأ بأحدهم مطالبا بتشريح جثة الجاموسة، لبيان ما إذا كان بأمعائها آثار لتعاطى الكحوليات أو المخدرات أم لا.. وربما قطع آخر شوطاً أبعد من العبث، وزعم أنها جاموسة عميلة لجهات تخريبية أجنبية. ولم لا، وهل بقي شىء معقول فى هذا البلد؟ 
الآن، نحن في انتظار انطلاق مضخات الشعوذة التلفزيونية، لتقول إن غياب الرئيس محمد مرسي عن جلسة قضية التخابر، يوم كارثة غرق المركب، كانت كلمة السر لتنفيذ عملية إغراق القارب، وربما يذهب أحدهم لاتهام "المراكبي الصغير" بأنه من الإرهابيين الإخوان. 
يستطيعون أن يفعلوا كل شيء، كي يبقى "المراكبي الكبير" ممسكاً بالسلطة، حتى وإن غرقت مصر كلها. وما دام ذلك كذلك، فإن جاموسات أخريات سيعبرن فوق قضبان السكة الحديد كل يوم، وسيدخلن تاريخ مصر المعاصر من أوسع أبوابه، طالما بقى الجاموس ملاذا آمناً، وميسرا للغاية لأي مسؤول يريد الهروب من المسؤولية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق