السعودية والإخوان.. وأنا
إحسان الفقية
“أية نظرية أو مقولة تُفضي بالناس إلى طريق مسدود ليست بنظرية، وليست من العلم في شيء، بل هي إلى الجهل أقرب، وبالتشاؤم والتطيّر ألصق؛ فالمخارج والمنافذ وإمكانات البناء لا تُستنفد إلا من قِبل الجهلة والعجزة، أما أولو العلم والبصيرة والخبرة فإنهم يظلّون بحول الله قادرين على العثور على ثقبٍ في جدار المستحيل، مهما كان الخطب مُدْلَهِمّا، ومهما كانت الظروف غير مواتية، فليست هناك أزمة ليس لها حل“.
رددوها: ليست هناك أزمة ليس لها حل.
عندما قرأتُ المقطع أعلاه في كتاب “من أجل انطلاقة حضارية شاملة” للدكتور عبدالكريم بكّار ترددت كلماته في زوايا رأسي لتقرع جرسًا للتنبيه في أننا بحاجة إلى هذا النمط من التفكير الإيجابي، وعدم الركون إلى سطوة الواقع المُر، والبحث عن ثقب في جدار المستحيل، والإيمان بأن كل أزمة لها حتما حل أو حلول.
وعبر الآثار التراكمية لهذه النوعية من النُقولات؛ تكوّنت في نفسي نزعة البحث عن بصيص من الضوء في كل ظلمة تحيط بالأمة، وأسعى لدعمها بجهد المُقل.
رأيتُ بصيص الأمل في قيادة سعودية جديدة واعية، لم أر منها حتى الآن إلا ما يثلج الصدر، ولئن كنتُ انتقدتّ في السابق كافة الأنظمة العربية أو معظمها، فليس ذلك رغبة في الشهرة عبر مُقارعة الحكام، فعلم الله ما أردتُّ إلا الخير.
وابتداءً أود القول بأنني لم أُفْرِط في التفاؤل، مع أن روح الاستبشار والتفاؤل مطلوبة حتى في أحلك الظروف.
ولله در سعد بن أبي وقاص قائد القادسية، لما أرسل وفده إلى كسرى يزدجرد، وأهانهم الأخير استهانة بهم، وجعل على أحدهم ترابًا إمعانًا في الإهانة، وصل صاحب التراب إلى سعد، فلما رآه قال: “أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم، وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم“.
ومن الملفات الهامة التي تحدثتُ عنها -ولا زلت- منذ تولّي الملك سلمان مهام إدارة بلاده، والتي رجوتُ أن توليها القيادة الجديدة اهتمامًا، ووجدت بالفعل إرهاصات لها، قد جعلتني أعلق عليها أملًا بعد الله: ملف العلاقات بين السعودية وبين الإخوان المسلمين.
فبعد أن أبطل سلمان قرار اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، استبشرتُ خيرًا في أن الرجل يسعى لتصحيح المسار واستيعاب التيار الإسلامي.
أيُعقل يا قوم أن تُواجهنا إيران بميليشياتها الشيعية التي تُنشِئها وتدعمها وترعاها وتنفّذ أجندتها، بينما نحن نقارع الجماعات السنية ونلاحقها وندرجها على قوائم الإرهاب؟
هل هذه الجماعات أخطر على بلادنا من إيران التي ترتع في المنطقة وتهدد أمن البلاد؟ ما لكم كيف تحكمون؟!
في البداية، انطلق خطاب الخارجية السعودية يركز على أنه لا عداء بين المملكة وبين جماعة الإخوان المسلمين، وأنهم جزء من النسيج الوطني.
ثم توالت بشائر ومظاهر هذا التوجه السعودي إزاء الإخوان:
إسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الإخوانية، يعلن في خطبة جمعة له بغزة أن السعودية ستقوم بدور فاعل لحل القضية الفلسطينية…
ومثل هذا التصريح لا يمكن أن ينبني على مجرد توقّعات وتكهّنات.. أليس كذلك؟ أم ترونها ضربًا من أحلامي الوردية؟
قلتُ ساعتها: يا قوم السعودية تفتح صفحة جديدة مع الإسلاميين، ودعمتُ هذا الاتجاه، رغم سيل الانتقادات التي وُجّهت إليَّ باعتباري (مأجورة من قبل آل سعود)، وأكثرهم خُلقًا من نعتني بأنني مفرطة في التفاؤل وكاتبة وردية.
انتظرتُ فجاءت الرياح بما اشتهت سفينة أحلامي الوردية؛ حيث أصدر القضاء المصري رفضًا لإدراج حماس على قائمة الإرهاب، فتسلّل إلى أنفي حينذاك عبيرٌ حجازيٌ، ولم أجد تفسيرًا مُقنعًا إلا أن السعودية تدخّلت للضغط على مصر في هذا الشأن.
عارضني الكثيرون، مُتهمين حركة حماس بالضلوع في صفقة خبيثة أفرزت قرار القضاء المصري؛ فأتى حدثٌ آخر جعلني أتشبّث بما آل إليه اجتهادي من أن السعودية ترعى حماس.
حيث إن حماس، التي تدير قطاع غزة، قد أعلنت حل ووقف أنشطة حركة الصابرين الشيعية الموالية لإيران في القطاع، والذي كان بدوره إشارة إلى تجميد العلاقات بين حماس وإيران؛ حيث رفضت الحركة التماهي مع الموقف الإيراني من سوريا واليمن.
وقلت آنذاك إن حماس التي لجأت إلى إيران من أجل الدعم بعد أن تخلّى عنها العرب، لن تقطع الذراع الإيرانية في غزة إلا إذا كانت هناك قوة إقليمية قد احتضنتها، ولم أجد إصبعي يشير إلى غير المملكة.
صبرًا إخوتي فالجولة لم تنته بعد…
وجاءت زيارة خالد مشعل للسعودية لتتوّج أحلامي بوهج الواقع، فلم أرجع من وادي الأمنيات بخُفّي حنين.
لقد حملت الزيارة بداية مرحلة علَنية جديدة بين القيادة السعودية وبين حركة حماس؛ فانتظروا المزيد يا معشر المتشائمين، ويا بعض المتربصين، وأنتم يا جُموع المغرضين أيضًا…
تقولون عن زيارة مشعل للسعودية: (مجرد زيارة عابرة لن يكون لها صدى)؟
فماذا عن عناصر حماس المُعتقلين في السجون السعودية، والذين قد أُفرج عنهم إثر هذه الزيارة؟
لا زلتم تُصرّون على أن السعودية لم تغير سياستها تجاه التيار الإسلامي؟ اقرؤوا المشهد كاملًا، وأمعنوا النظر في تلك الزاوية الجديدة منه.
بعد أن استطاعت السعودية التي تقود العمليات العسكرية على الحوثيين، وبدعم المقاومة في اليمن، من تحرير عدن؛ تم تعيين نايف البكري محافظًا لعدن.
هل سمعتم بهذا الاسم من قبل؟
هو أحد رموز حركة الإصلاح اليمنية؛ وهو ما يعني أن محافظ عدن الجديد هو أحد قيادات الإخوان المسلمين في اليمن.
اربط بين هذا وبين تقارب وتفاهم السعودية مع حركة حماس، وبين النفوذ السعودي القوي في اليمن، والشعبية الطاغية للملك سلمان بين أبناء الشعب اليمني. لا، بل وبين أبناء الشعوب العربية قاطبة كذلك.
إنها يا سادة نواة مشروع سُنّي جديد تقوده السعودية، تُواجه فيه المشروع الإيراني عن طريق رعاية التيار الإسلامي، ودعم الأقليات السنية؛ لتواجه إيران بنفس سلاحها (الميليشيات والأحزاب الشيعية).
وأرى أن الفترة القادمة سوف تشهد انعكاسًا لهذه العلاقات على الأحداث في مصر، والتي باتت تنظر في قلق إلى هذا التقارب السعودي الإخواني، وهو ما عبّر عنه الكاتب الصحفي المصري (عبد الرحيم علي) في تحقيق له على “البوابة نيوز” يقول فيه إن الملك سلمان يحشد الإخوان المسلمين لمواجهة التمدد الإيراني، الذي تراه السعودية على رأس أولويات المرحلة، بخلاف النظام المصري الذي يعطي الأولوية لمواجهة التنظيمات الإسلامية والإخوان بصفة خاصة.
والتحقيق وإن كان يسعى للتأليب على السعودية ويستدرّ الاتهامات للسعودية بدعم الإرهاب؛ إلا أنه حمل جزءًا من الحقيقة لا يمكن إنكاره، وهو التقارب بين المملكة وبين الإخوان.
لقد أثارت تلك الخطوات قلق الجانب الإسرائيلي أيضًا، والذي يخشى من قيادة السعودية لمحور سني، واعتمادها على الشعوب لا الأنظمة.
إن السعودية، وحتى الآن، تسير وفق رؤية واضحة في عدم السماح بالتمدد الإيراني في المنطقة؛ خاصة بعد تفاقم خطر إيران على خلفية اتفاقية النووي مع مجموعة 5+1، والذي أتى على حساب الأمن الخليجي، بينما تتربّحُ منه إيران وأذنابها وحلفاؤها، والكيان الإسرائيلي كذلك، وأمريكا بلا شك.
التاريخ يُكتب من جديد في هذه الأيام، وتمايز الرايات قد بدأ، وسوف يسفر عن فسطاطين في المنطقة، فتُرى أين يضع بنو قومي أقدامهم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق