وائل قنديل
يتحدث حسن نصر الله في جنوب بيروت، مهاجماً السعودية، وساخراً من "الإسلام الصحراوي"، فيردد إبراهيم عيسى، في جنوب الجيزة، العبارات نفسها، بلا زيادة أو نقصان.
كأنك بصدد فقرة "الحاوي وولده" في سيرك عابر للحدود.
السعودية، بنظر نصر الله وأتباعه، هي الصحراء، والصحراء وفقاً لطرح أصحاب العمامات السود هي الشر والدمار والتخلف.
باتت نكتة سخيفة ونغمة ممجوجة، تلك المحاولة البائسة لطرح نوعيات مختلفة من الإسلام، وكأن الدين العظيم بالنسبة لهم ليس أكثر من منتج، تتباين جودته من مكان إلى مكان، فيصبح هناك الإسلام الصحراوي "السعودي" في مواجهة الإسلام الزراعي "الانقلابي الإيراني"، ويصير المعيار هنا مدى رضا إبراهيم عيسى وسيده، حسن نصر الله، عن المنتج.
يثيرون هذه المسألة على اعتبار أن لفظ الصحراء يستدعي على الفور قيم التخلف والرجعية والجمود والكساد، بينما واديهم الذي يهيمون فيه هو التقدم والتحضّر والحركة والازدهار.
حسناً، دعونا نتوقف عند مسألة صحراوية الإسلام، ولنسأل: أليست الصحراء صانعة الفكر والشعر والأدب؟ أليس معلم البشرية ونورها الذي حباه الله للعالم، محمد صلى الله عليه وسلم، ابناً لهذه الصحراء؟
ألم تكن هذه الصحراء نقطة انطلاق أنبياء الله ورسله إلى البشر، معلمين ومصلحين، ومخرجي الناس من الظلمات إلى النور؟
ألم تكن هذه الصحراء مرتكزا لمن وصلوا بالإسلام، ديناً وحضارة، إلى ملك كسرى وقيصر، وأفاضوا على الدنيا علماً، من الصين إلى الأندلس؟
يردد إبراهيم عيسى، وغيره، طوال الوقت، أناشيد بلهاء عن أن الله خلق الثقافة والحضارة، حصرياً في بيئات زراعية، بينما الصحراء لا تنتج شعراً أو فناً أو ثقافة.
فليعد هؤلاء الظرفاء إلى تاريخ الأدب العربي، شعراً ونثراً، على مر العصور، سيكتشفون، إن أرادوا الكف عن هذه المهارشات الصغيرة، أن البادية كانت مصنع الفكر ومنبت الإلهام والإبداع، ومصنع الشخصية المجربة، المحاولة، المغامرة، من امرئ القيس وعروة بن الورد في الأزمنة القديمة، إلى عبدالرحمن منيف، ابن الصحراء، صاحب واحدة من علامات الرواية العربية الحديثة "مدن الملح"، ثم أجيال من المبدعين والمبدعات العرب، من نبت الصحراء، يقدمون منتجاً إبداعياً، وفكرياً، يتجاوز تلك السفسطة العقيمة التي تجري على ألسنة وأقلام، باتت مثيرة للأسى والشفقة. يكتب الأديب بهاء طاهر، المصري الناصري العتيد، في روايته الخلابة "واحة الغروب" عن "الصحراء، جنة الأنبياء والشعراء، إليها يفرّ كل من يترك وراءه الدنيا لكي يجد نفسه، وفيها تورق الأنفس الذابلة وتزهر الروح".
غير أن المسألة لدى حسن نصر الله وإبراهيم عيسى تتجاوز الصحراء، بوصفها صحراء، إلى مكايدة السعودية، وملاطفة طهران ودمشق وقاهرة الانقلاب، سياسيا، فتنطلق الجوقة، بإيقاع موحد، تستخدم المفردات والنغمات نفسها، في الهجوم على سير عمليات "عاصفة الحزم" في اليمن، وتوقف إمدادات "عاصفة الأرز" إلى مصر، حتى يخال لمن يستمع إلى حسن نصر الله من بيروت، وإبراهيم عيسى من القاهرة، أن السيناريست واحد، والمخرج أيضا، الألفاظ نفسها، والأداء الصوتي والحركي بعينه، من دون تغيير، أو خروج عن النص.
غير أن المدهش في الحالة المصرية أن الخطاب يتغير ويتبدل، حسب ارتفاع منسوب الأرز الخليجي وانخفاضه، ففي أوقات كانت الأمور فيها تمضي على النحو المشبع للمعدة الانقلابية الجائعة، كنت تجد الخطاب مهذباً، ودوداً وهو يتحدث عن "السعودية الجديدة العصرية التقدمية القومية"، حتى إن قطاعاً من الناصريين المحترفين وصل، في تملقه العاهل السعودي الراحل، أن كاد يلبسه قميص عبدالناصر، ويبايعه خليفة للقومية العربية. أما الآن، ومع ظهور التباينات في المواقف، خصوصا ما يتعلق بالمسألة السورية، والمهزلة القضائية المصرية، عادت مجددا فقرات سيرك الإسلام الصحراوي والإسلام الزراعي، والإسلام البحيري، وصعد على الخشبة "مشخّصاتية" يقدمون فقرات، في "مسرح السيسي"، أحدثها ذلك "الاسكيتش" الخاص بمبادرة مصرية انقلابية للمصالحة بين السعودية وإيران.
والمقصود في النهاية توجيه رسالة من القاهرة إلى من يهمه الأمر، مفادها "نحن على مسافة واحدة من الطرفين"، وبعبارة أخرى "نحن في منتصف الطريق بين الأرز الصحراوي والأرز الزراعي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق