رضا حمودة
السطور التالية جاءتني من مجند سابق بالجيش المصري رفض ذكر اسمه، خصّني بها لأضعها بين يديّ القارئ الكريم، عبّر فيها بكل ألم وانكسار وخيبة أمل عن حوادث مؤلمة عاشها أثناء فترة خدمته، ساهمت في تغيير الصورة النمطية المشرّفة والمشرقة لجيش الكنانة إلى الأسوأ.
أضعها أمام القارئ كما هي، دون تدخل مني.
فمضمون الرسالة قد لا يكون صادما، وربما ليس جديدا على الآلاف والملايين من الشعب المصري ممن التحقوا بالخدمة في جيشهم، وشاهدوا ما يحدث داخل تلك المؤسسة عن قرب، وعايشوا بأم أعينهم كيف أن الواقع مغاير تماما لما يتم تصديره إعلاميا للعقل الجمعي المصري والعربي أيضا..
وإليكم نص الرسالة:
كنت شاب مثل كل الشباب حماسي زيادة ووطني شوية ممكن ومنظم جدا ممكن تقول زيادة عن اللزوم تخرجت من كلية الصيدلة وبصراحة يا سيدي كان نفسي أدخل الجيش لأنني من النوع المنظم جدا جدا ومحسوك جدا جدا وكنت ناقم على ميعاد ولادتي لأنني ولدت في عام 67 وكان عمري وقت حرب أكتوبر خمس سنوات وعندما كنت أشاهد الأفلام المصرية كالرصاصة لا تزال في جيبي وملاحم حرب أكتوبر والعبور ووالله أكبر ونصر أكتوبر73 وأرى نفسي وأن أكاد أقفز داخل شاشة التليفزيون لكي أشارك هؤلاء البواسل في سحق إسرائيل.
وعلى هذا كان نفسي أدخل الجيش كي أرى التدريب وأرى الرجال والعسكرية المصرية و........و........... و...............وما إلى ذلك من الشعارات البراقة والجذابة.. ولقد حان الوقت ودخلت الجيش عام 91 ومن فرط حبي في الجيش في مركز التدريب كنت أنام بالبيادة لكي أكون على أتم الاستعداد لنداء صول أو عريف التدريب في الصباح الباكر لكي نقوم بالتدريبات الشاقة والذي سوف يعلمنا اللياقة البدنية والرجولة والصمود والدفاع عن النفس والإجهاز على الأعداء والشهامة والتدريب أيضا على أحدث الأجهزة والمعدات العسكرية ولكن هيهات يا سيدي فبداية القصيدة كفر كما يقولون.
فلقد كنا حوالي 90 مجند جدد ومنذ اليوم الأول للتدريب فلقد وجدت أن الجنود الجدد تتسرب واحدا تلو الأخر في إجازات مع علمي التام أنه لا يوجد في مراكز التدريب إجازات وذلك عن طريق الواسطة بمعنى أننا كنا 90 مجند جدد ... بعد أسبوع بالتمام والكمال وجدت زملائي حوالي 40 مجند فقط والباقي كلهم إجازات ..كيف لا أدري !!!! ولقد رحلت إلى الكتيبة العسكرية الخاصة بي في الجيش الثالث الميداني وليتني ما رحلت وليتني ما رأيت ما رأيت وشاهدت ما شاهدت !!!.
فلقد كنت مسؤولا عن الصيدلة الخاصة بالعيادة للكتيبة كاملة ويحضر لي من آن لآخر رئيس الشؤون الإدارية الرائد محمد عبد الوهاب القائد المباشر لي ويسألني ماذا كانت طلبية الأدوية قد جاءت أم لا؟ وعندما يعلم أن الطلبية جاءت يأمر أحد الجنود بأن يأخذ كميات من الأدوية بالكراتين وأغلى أنواع المضادات الحيوية ومضادات الالتهاب والمسكنات وغيرها والمحاليل والشاش والقطن وما إلى ذلك من الأدوية ثم يأخذها في سيارته الخاصة تمهيدا لبيعها خارج الجيش لصيدلية من الصيدليات المدنية ثم يقبض ثمنها في جيبه.
ثم يطلب مني أن أكتب وصفات أو ما يسمى بأورنيكات أن العساكر كانت مريضة وأخذت كل هذه الأدوية وهذا لم يحدث.
ثم يأخذ الطبيب البشري المجند المسؤول عن الوحدة لكي يقوم بعلاج أولاده. ويأخذ الحلاق يحلق لأولاده ولا يوجد من يحمل في يده مهنة من العساكر (سباك- حداد- سواق- مربي مواشي – ميكانيكي- نقاش) إلا ويعمل سخرة لدى هذا القائد محمد عبد الوهاب وغيره من القادة في بيوتهم أو في فلل خاصة بهم ودائما لا نرى هؤلاء لأنهم في إجازات مفتوحة.
ومما أثار دهشتي وثورتي هو دخول سيارته الخاصة إلى الوحدة العسكرية لتمويلها من بنزين الجيش. جاء لي ذلك الرائد ذات يوم وطلب مني أن أذهب إلى مطبخ العساكر اللي (أنا كنت منهم) وأن أشوف موضوع الطماطم لأن من الطباخين من يشتكي دائما من سوء وضعها وحالتها وبالفعل ذهبت يا سيدي إلى المطبخ وليتني ما رأيت ما رأيت والله ثم والله رأيت عفن الأسبراجيلس ومعه شوية طماطم ولم أجد أصلا طماطم بمعنى أنني وجدت العفن وقد غطى ما يسمى طماطم بل أنك قد تجد صعوبة في النظر داخل الأقفاص عما اذا كانت هناك طماطم أم لا!!!..
وعلى الفور يا سيدي أمرت الطباخين والعساكر القائمين بإرجاع الطماطم إلى المورد قالوا لي إن المورد مشى.!!!!. قلت خلاص ارموها في القمامة فهي لا تصلح حتى علفا للحيوانات والله يا سيدي نظروا إلي نظرة استهزاء واحتقار وكأن لسان حالهم يقول (إيه العسكري النمرة الهلفوت اللي بيتكلم دا!!) وبعدما علموا أنني الدكتور أخذوا كام قفص ورموه بالفعل وبعدما خرجت من المطبخ ارجعوا الأقفاص التي رموها من القمامة وطبخوا بها للعساكر بأمر سيادة القائد.
وكان معي من الزملاء من لا يملك مهنة سوى أنه مدرس رياضة ..تصدق بالله كان يشتري للقائد بتاعة 5 كيلو لحمة وكوارع لكي يعطى له إجازة ومن بين ما شاهدته ورأيته بأم عيني هو زميلي المجند (المهندس خالد) الذي حباه الله بالغنى والمال الوفير فكان ذلك المهندس المجند ينتظر المقدم (شمس الدين) في إجازته الأسبوعية أمام الوحدة العسكرية بسيارته المرسيدس الفارهة ليقوم بتوصيل ذلك المقدم إلى بيته في القاهرة ويأتي به يوم السبت من كل أسبوع وعلى هذا لم نر المهندس خالد طوال الجيش إلا نادرا.
وغير بعيدا عنك وعن الكثيرين فلقد رأينا زملاء منا يسلمون )المخل) جمع (مخلة) الخاصة بهم ولم نرهم في الوحدة العسكرية نهائيا فلقد قضوا الجيش وفترة التجنيد بتاعتهم في البيت عند ماما ودعك من هذا كله يا سيدي فأنا طوال فترة تجنيدي كاملة لا ولم أتعلم كيفية ضرب النار (والحق يقال كانت مرة واحدة ومصادفة وعديمة الفائدة) أو كيفية التعامل مع العدو وما إلى ذلك من فنون القتال وأحدث المهارات في العسكرية المصرية ...والله قضيت عاما كاملا من الفشل والحسرة والألم على حال هذا الجيش...وما تذكرت منه سوى أنني كرهت الجيش وكرهت ما فيه وتركت ذكرى ملوثة بالفساد فالحقيقة أنني شاهدت كل صور الفساد في هذا الجيش.
فلقد رأيت الرشوة والمحسوبية والواسطة والسرقة والأهم من ذلك إلى الآن عندي عقدة نفسية منه ومن العسكرين بوجه عام.
والله على ما أقول شهيد.
انتهت الرسالة، وأتمنى أن تكون قد وصلت لكل ذي عقل منصف، بعيدا عن العواطف والتشنجات والأحكام المسبقة انطلاقا من الانقسام السياسي والمجتمعي الكبير الذي تمر به مصر الآن، وحتى لا يضيع منا الطريق، ويتحول المشهد إلى شفير كارثة محققة، ونستيقظ على هزيمة كبرى تضاف لسجل هزائمنا المتراكمة، نتيجة للعيش في نرجسية زائفة تُورد المهالك، وعُجب بالذات العليّة المصرية!.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق