الأحد، 6 ديسمبر 2015

تناسخ الأرواح في بلاد الممانعة والنكاح

تناسخ الأرواح في بلاد الممانعة والنكاح

أحمد عمر

جلست مع الحجي على مقعد في حديقة سليمان بخجة في حي أوسمان باشا، في اسطنبول. الحجي في الستين، سمت وهيبة ووقار، لو رأيته لاشتهيت تقبيل يده، لكنه خشن وجلف، وهو أحد أقاربي الأباعد الذين اكتشفتهم في تركيا.

قال لي الحجي معاتبا: سمعت عنك شيئا مذموما يا سبعي المصفّد بالسلاسل؟
فبلعت ريقي، أيكون عَلِم أن العشة التي استأجرها لي فوق السطوح، قد حولّت إلى وكر للملذات الفاسقة، أم ضبطني بالجرم المشهود في موعد عاطفي، مع فتاة عثمان في حديقة أكسراي، حورية البيم، قلت: خير؟

قال وهو يتهم: تحتفل بعيد ميلادك مثل الفرنجة الكفار يا قسورتي؟!
الحمد لله، الأمر أبسط، لكن إقناع الحجي صعب حتى لو حشدت الأدلة الشرعية من المذاهب الأربعة، فقصة عصفور عمر بن الخطاب التي رويتها له كي أرقق قلبه، جاءت بثمرة مرة، وهي خير شاهد على رأس الحجي الجلمود،..
حاولت كمحاكي دفاع عن نفسي المؤتفكة أن أضحك، قلت حجي تقصد الاحتفال على الفيس بوك؟ وتساءلت من هي العصفورة التي أخبرت الحجي بمصيدة عيد ميلادي؟ هل فتح حسابا على الفيس بوك؟ إنه يتصرف كولي أمري، وأمر النازحين المهاجرين إلى الحي.

قلت: حجي، الأمر وهمي، عيد ميلادي كاذب. الاحتفال يجري بصور ورد، لا بورد حقيقي، وكعك لا يسمن ولا يغني من جوع، وشمع بلا نار مزروع في السبانخ .. الأمر أدنى حتى من لعب الحبشة بالحراب في المسجد النبوي .. تابعت المرافعة:

حجي.. تاريخ مولدي على البطاقة الشخصية غير حقيقي، موظف السجل المدني اختار يوم التسجيل بعد أن أعاده ست سنين أو سبع إلى الوراء، حتى أُسجل في المدرسة، وقال لوالدي: مبروك يا ملاّ صار عندك ولد الآن.
 لكن مولدي الوطني سيتأخر اثنا عشرة سنة أخرى، فقد سجلت وقتها في سجلات الأجانب، وهم أحسن حظا من المكتومين بقليل، لكن هذه حكاية أخرى، وسأذكر لك أمرا يا حجي، فزوجتي متفرنجة، وكلما اقترب ذكرى موعد زواجنا يتسبب لي نسيان ذكرى الزواج بمشكلة، فهي تتربص بذكرى اليوم مثل اللبوة، وأنساه، وتحاول تذكيري بالهدية، فتقول لي: هناك مناسبة في الأسبوع القادم،؟ 
فأقول:
- وعد بلفور المشؤوم ؟
- لا..
- ذكرى الحركة التصحيحية الكافرة؟
- لا ..
- عيد الجلاء؟
ثم تنقلب الذكرى إلى غم ونكد حقيقيين.

سأذكر لك قصة جرت معي كاد فيها تاريخ مولدي يتسبب بهلاكي، والمولد يحمل بين فكيه جرثومة الهلاك حقا وفعلا. بعد أشهر من الثورة السورية المغدورة من أصدقائها، ومن دعاتها المتهوّرين، أما الأعداء فقد تصرفوا بهمجية لم يشهد لها التاريخ مثيلا .. 
المهم يا حجي، صارت الحواجز تدقق في الهويات، يمحصون في الصورة الشخصية، ويجرون فحصا دقيقا لصاحبها. سألني العنصر وهو ينظر إلى الهوية بعين المجهر المرتاب، ويبحث فيها عن كهوف وأدغال وأسرار، ويحاول أن يخرتع فيها صفحات: ما تاريخ مولدك؟ وسبب السؤال هو أنّ الثوار صاروا يستخدمون هويات الشهداء، في الاتصال بالفضائيات تقية، أو في التنقل أو قناعا للهرب من الملاحقة الأمنية. المفارقات جعلت الثوار يتناسخون بالأرواح، وهي عقيدة الطغمة الحاكمة الدينية، فعقيدتها هي عقيدة الهنود، وهي تناسخ الأرواح. وهي تورية للحكم إلى الأبد .

قال الحجي: وما تناسخ الأرواح يا فهدي المكبل بالأصفاد؟

قلت: حجي .. هؤلاء قوم يؤمنون بتناسخ الأرواح حسب العارفين، ويزعمون أنّ روح الإنسان بعد موته تنتقل إلى كيان آخر: أسد، دب، ذبابة، حمامة، كلب.. حسب حسناته وسيئاته.
يضرب الحجي يدا بيد، ويقول: عرفت تقصد تقمّص الأرواح؟

قلت: نعم هي تسمية أخرى لنفس الفرع الأمني. ويبدو أنّ الثوار أصيبوا بالعدوى، فالناس على دين ملوكهم غالبا، فاستثمروا عقيدة تناسخ الأرواح في الثورة السورية، وصاروا ينتفعون بهويات الشهداء في التنقل والجهاد والاتصال بالفضائيات لنقل الأخبار ويتسترون بها،
المهم أنّ الحاجز سألني عن تاريخ ميلادي، فلم أكن قد حفظته، قضيت عمري كله، وأنا أحاول حفظ تاريخ مولدي، لا أدري هل تكمن صعوبته لأنه وهمي، أم لأنّ رأسي يرفض الأرقام، فخلطت بين اليوم والشهر، فأنا ضعيف في الأرقام، علما أني متخرج من كلية علمية، قضيت سنوات وأنا أعوم في مصفوفات وأرقام عقدية، وأرقام جبرية، وأرقام طبيعية، وأرقام صحيحة، ففي الأعداد مذاهب أربعة، فكان أن اشتبه الحاجز فيَّ وقال صفْ على اليسار، وأوقفني مع شاب هارب من خدمة الجزمة التي يسمونها في بلادنا خدمة العلم.

انتهى الحاجز من فحص هويات الركاب، وأمر السيارة بإتمام الرحلة، ووقعت في الأسر، ولدى الحواجز أوامر بالقتل المباشر السريع للمشبوهين، قتل إكسبريس يا صاحب العرين.

قال لي عنصر الحاجز الغاضب بلهجة السكين: تجهل يوم مولدك، وصورتك أيضا لا تشبهك؟
قلت: من يشبه في هذا القطر الصامد صورته يا رفيق.
قال الحجي مستعجلا النهاية: وهل أعدموك؟
كانت عناصر الحاجز قد جندلت مسافرين كثرا لأسباب لا أعرفها: لعلها مصائد عيد الميلاد، أو حمل هويات شهداء، فحولهم الحاجز إلى شهداء. أهل الثورة ضعاف في فن التنكر والكيد والاستنساخ يا صاحب العرين.

قلت باسما: لا يا صاحب العرين... وقع اشتباك ومداهمة من الثوار المسلحين، فتلطيت في قبر، كان قد حفر لدفن إحدى جثث الركاب، نحن نحفر القبور بعمق قامة الإنسان، أما قبور الحاجز فكانت بعمق شبرين.
 القبر حماني من وابل النيران، تصوّر..نجوت بفضل قبر أحد الشهداء، ضحى ثانية من أجلي، وخلّى لي مقعده الأخير فنجوت ..
احتل الثوار الحاجز، وحرروني. عرفوا قصتي، وأطلقوا سراحي، وسراح الغلام الهارب من العسكرية، وحملوا رزمة من الهويات التي قتل أصحابها، وقالوا ما اسمك؟ قلت: هاتوا أي واحدة، فضحكوا..

تابعت:
حجي في الفيسبوك عيد المولد ضروري للحساب، وهو عيد وهمي، اخترته في أول شهر من السنة، لكني سأغيره إلى تاريخ نادر في سنة كبيسة.. فأختصر الحفلة السنوية، بذلك، إلى احتفال كل أربع سنوات، وفي اليوم الأسود الميمون سأغلق الحساب يا صاحب العرين.
قال: أنت سبعي المصفد بالسلاسل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق