من سيربح المليون فلسطيني؟
كل ما تفعله إدارة ترامب، وتساعدها فيه (للأسف!) حكوماتٌ عربيةٌ، أنها تحاول اختزال القضية الفلسطينية في إشكالية إنسانية، بحيث تنحصر في البحث عن حلولٍ وأدواتٍ لتحسين حياة جماعة بشرية توشك على الانقراض، إمّا بالحفاظ عليها في موطنها الأصلي، أو بالبحث لها عن موطنٍ جديد.
في حالة بقائها في مكانها، كما لوّح ترامب أخيراً بأنه لن يُجبر الشعب الفلسطيني على الرحيل من غزّة، فإن هذا مشروطٌ وفق العقيدة الصهيونية التي يتبنّاها الرئيس الأميركي بأن تنتفي عن غزّة، وعن فلسطين كلّها، صفة الوطن، أي أن يكون هناك وجودٌ فلسطينيٌّ داخل حدود الكيان الصهيوني، بحيث يتحوّلون جماعةً عرقيةً أو إثنيةً، مثل أيّ أقلية داخل دولة شرعية.
غير أن جوهر مقاربة ترامب، ومعه أطراف دولية وأخرى إقليمية، أنها تفتح باباً لما يمكن وصفه بالتهجير الناعم، فيفضل هذا الإنسان المنتمي إلى"العرق الفلسطيني" من دون وطنٍ فلسطينيٍ أن يجد لنفسه موطناً بديلاً فيه ظروف حياة تليق بالبشر، بعيداً من هذا المكان الخرب، الذي لا يأتيه طعام أو ماء، ولا تدخله كهرباء، ولا يتوقّف فيه الموت عن التسكّع في طرقاته ومخيّماته، وخيامه الغارقة في مياه الأمطار.
والحال كذلك، يصبح منتهى النضال، بحسب ترامب والمنسجمين مع مشروعه، الذين يعتبرونه الشخص الأقدر على صناعة سلام المنطقة، العثور على مكان آمن لمليوني فلسطيني، أو نصفهم على الأقلّ، سواء داخل حدود فلسطين المحتلّة، التي لا يعترف بوجودها ترامب والكيان الصهيوني، أو خارجها، مع العلم بأن حالة إنكار فلسطين لم تنشأ مع عودة ترامب وفريقه إلى حكم أميركا، بل تجدها في خطّة ترامب المعروفة باسم"صفقة القرن"'، التي طرحها قبل أن يترك مكانه في البيت الأبيض للديمقراطي المخلص لصهيونيته جو بايدن في العام 2020، تلك الخطّة التي وصفها نتنياهو بأنها أكبر هدية قدّمتها واشنطن لإسرائيل، وشبهها باعتراف الرئيس الأميركي، هاري ترومان، بدولة إسرائيل في 1948، لأن هذه الخطّة تجعل إسرائيل تطبّق قوانينها على غور الأردن ومستوطنات الضفة الغربية، ومناطق أخرى، غزّة منها بالطبع.
هذا ما في جعبة ترامب، وملخصّه أنه يمكن السماح بوجود فلسطينيين في الشرق الأوسط، لكن من دون فلسطين، وأن تتحوّل القضية من احتلال ومقاومة إلى إعاشة وإطعام وعلاج ومدّ تيار كهربائي، والسماح بالبقاء تحت سلطة الكيان الصهيوني، أمّا الكلام عن دولة فلسطينية وحقٌّ في المقاومة، فهذا من المحرّمات، فضلاً عن محاولة قطع كلّ يدٍ تحاول إسناد هذه المقاومة، بحيث لا يبقى لها أشقّاء، بل مجرّد وسطاء يقومون بأدوارهم في إطار الهيمنة الأميركية على آلية الوساطة.
مؤسفٌ حقاً أن ثمّة خضوعاً، سياسياً ينعكس بالطبع في الخطاب الإعلامي العربي، لرؤية واشنطن ومفهوم دونالد ترامب للصراع، فصار هنالك ما يشبه التطبيع مع هذه الحالة الترامبية الجديدة، تجدها في مفردات ومصطلحات الخطاب السياسي والإعلامي، على نحو يثير الدهشة والشفقة، سيّما وأن كلّ المصطلحات الصحيحة والدقيقة محمية بغطاء من قرارات المنظّمات والهيئات الدولية الأممية ذات الصلة بالقضية، وعليه، لا يحتاج مراسل قناة عربية لاستخدام عبارات من قبيل "ما يسمّيه المتظاهرون إبادة جماعية"، إذ لا يوجد مانع قانوني أو أخلاقي يجعل القناة تخشى تسميتها "إبادة جماعية"، فقرارات الأمم المتحدة وأحكام محكمتي العدل والجنائية الدوليَّتَين أعفت الجميع من الحرج واللعثمة، ورعشة الصياغة، حين أكّدت بعشرات الأدلّة أن ما فعله الاحتلال 15 شهراً من القصف المركّز على الشعب الفلسطيني في غزّة إبادة جماعية، كما أن حرمان هذا الشعب من الغذاء والمياه وتدمير المستشفيات وحرق مخيّمات النزوح، ليس له توصيفٌ سوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وهنا تجد مأساة أخرى هي حالة التطبيع الذهني والنفسي مع أخبار ومشاهد المجاعة التي تعصف بالفلسطيني في غزّة، من دون ردّة فعل حقيقي سوى إظهار بعض الأسى، وتوصيف ما يجري بأنه ظلم، ثمّ لا شيء.
أيضاً، لا تحتاج وسيلة إعلام عربية إلى التلاعب بالألفاظ، لتطلق على أسرى العدو لدى المقاومة الفلسطينية صفة "رهائن"، ذلك أنهم لم يُخطفوا من شوارع أوروبا أو ملاعب كرة أو مهرجانات ترفيه عربية، بل أسروا في معركة تحرّر ضدّ عدو موصوفٍ في كلّ القرارات والمواثيق الدولية بأنه احتلال استولى على أرض شعب بالقوة، ونفّذ بحقّه اعتداءات إجرامية إرهابية، في إطار عمليات إبعادٍ وتهجيرٍ قسريٍّ (ترانسفير)، كما أن كلّ ما يقدم عليه الشعب الفلسطيني لاسترداد أرضه ووطنه، سواء كان فعل ابتداء أو ردّاً على فعل اعتداء هو مقاومة مشروعة، تكفلها المواثيق الدولية والقيم الوطنية والإنسانية.
بالقياس ذاته، لا يصح مهنياً وإنسانياً وأخلاقياً، أن يستنكف إعلام عربي منح مدنيين يمنيّين، بينهم أطفالٌ لقوا حتفهم في قصف أميركي على المحافظات اليمنية مسمّى "شهداء"، وخصوصاً عندما يكون هذا القصف عقاباً لليمن (بكلّ مكوناته، وليس للحوثيين فقط) على موقف داعم ومساند لكفاح الشعب الفلسطيني ضدّ عدو يحاربه بالسلاح الأميركي، ويستهدف إبادته في أرضه، أو تهجيره خارجها. هنا يصبح معيباً وشائناً أن تتناول محطّات تلفزة عربية الحدث بعناوين مثل "مقتل 19 يمنياً بينهم أربعة أطفال في حصيلة أولية للقصف الأميركي على أهداف في صنعاء وصعدة ومحافظات أخرى".
باختصار، لا يحتاج الدبلوماسي أو الإعلامي العربي إلى إذنٍ من ترامب لكي يكون عربياً حقيقياً، لا ناطقاً بالعربية وحسب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق