الأحد، 16 مارس 2025

سبع سنابل لمن استوفى حق السائل

سبع سنابل لمن استوفى حق السائل


إذا حلّ شهر رمضان، أدركت أمتنا الإسلامية بركات الإيمان، وعمّ الأمن والسلم الأوطان، وما شهر الصيام الفضيل إلا أعمال خير بها يُنتفع، وإغاثة لهفان علّها يوم العرض تشفع.

ونحن إذ نعقد صيامنا بالنيّات نرجو قبول فروض العبادات، فأفضل السنن والقربات ما كانت خالصة لرب السّماوات، ومن تلك الأعمال الموجبة للرضا ما يغنم بها الضعفاء والمرضى، نفقة أموال الأغنياء وإخراج زكاتهم، وطَرْق أبواب الفقراء ومواساتهم، والصدقة في شهر رمضان لها منزلة مقربة وجنات رضوان، وجزاء يحفّ أنفسنا بالطمأنينة، وحصن لمن ابتغى مرضاة الحليم والسكينة.

وهذه الأسطر المختصرة تقتفي أعمال البررة بما تيسّر لها من مكاشفة معاني آيات مطهّرة، تسرد مآثر أهل الخير والأسرار والكرم في طوافهم على السائل المعدم.

القبول والجزاء في الإنفاق

بين يدينا آية كريمة وردت في سورة البقرة، فيها خصالٌ مهمة عن علاقة الإنسان بمجتمعه، وترابطه الوثيق والمبني على قيم أخلاقية سامية، والآية التي سنستقرئ معانيها جاءت لتحث على الإنفاق مرافقًا فريضة الصيام، ولتذكّر أولي النهى والأحلام، فقال ربنا في محكم تنزيله: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبةٍ والله يضاعف لمن يشاء والله واسعٌ عليمٌ} [البقرة 260].


وفي هذه الآية تبيان لمنزلة الصدقة، حينما يقترن الإنفاق بـ"خالص النية"، وهي على مدار "سبع مراتب" جمعت في سنابل يضاعفها المولى، للذين يتوقون إلى فضل وعفو من له العقبى، والسبع في الآية أبرزت حقيقة الإنفاق بما ارتضته الشريعة للسائل، فإن كان بالمال وجب، وإن بالقول مما يرغب الإنسان استحب، ليحصل ثواب مضاعفة الحسنات، ويكرم بالرضا ورفع الدرجات، فالعمل المرفوع لا يكون إلا لله الوارث.


طواف الأغنياء على السائلين من أهل القرى مذهبه أمر إتباع صدقاتنا بالتقوى، وترك الرياء والسمعة وإلحاق الضرر والأذى بمن ابتلوا بالحاجة واصطبروا للمولى، والأذى يترك في قلب صاحبه ما تمرقه السهام والسيوف تخرقه.

ثم أورد سبحانه بعد وعده بمضاعفة جزاء المحسنين ضمن مشيئته قوله: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذىً لهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}.. شرطان أساسيان لقبول الصدقة: 
"عدم المنّ" و"رفض الأذى"، فالأوّل جاء في سياقات عدّة للنص القرآني، منها قوله تعالى: {يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} [الحجرات 17].

وحاصل الأمر من أفعال البشر أنّ الخيرية لا تقع منهم إلا إذا اقتضوا ملازمة التوفيق من لدن المقتدر، ومعيته لإعانتهم فيما أقرضوه من الخير، إذ المنّ يورث النفس البشرية الإعجاب بعملها، ويدفعها للانسياق نحو الكبر وعلوّها، والصدقة في ظاهر اقتضائها أو سترها طهرة للمال، وحصن للنفس من تكبّرها، وهو ما يخالف القول بالخيرية حين جاء بعض الأعراب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- من دون قتال، يمنون عليه بأفضلية الخصال، فردّهم الله إلى حيث يُعقد الإيمان وصدق الأعمال، فالمنّ لا يحبط بركة الأفعال فحسب، بل يوجب السخط ويرفع القبول.

فرفض الأذى وإن اختلفت صنوفه وأوصافه، كإذلال العائل وإخراج المستضعفين من ديارهم بغير حق، تصديقه دفع الضرر عنهم وتثبيتهم، ودعمهم بالمال وقضاء حوائجهم، وجبر خواطرهم وعدم مداهنة عدوهم، والأذى ليس متعلقًا بالمال في إخراج الصدقة، وإن كان في قوله تعالى {أذى من رأسه} قد لازم البدن على ظاهره، بل يصاغ الأذى في كثير من المواضع على أنّه الأخلاق السيئة والقيم السلبية والخيانة للأمة، ليمحو بذلك الود والترابط والانتصار للمستضعفين.

وطواف الأغنياء على السائلين من أهل القرى مذهبه أمر إتباع صدقاتنا بالتقوى، وترك الرياء والسمعة وإلحاق الضرر والأذى بمن ابتلوا بالحاجة واصطبروا للمولى، والأذى يترك في قلب صاحبه ما تمرقه السهام والسيوف تخرقه.

ومن ترك المنّ في الصدقة وانتصر للمساكين كان على الحق أن يثيبه النورين، وأن يلبسه تاج الأمين، ويمنحه السرور في الدارين، ووعد الله سارٍ مهما دارت الأزمان، وتقلّبت القلوب وخفّت الموازين، إذ إنّه وعد المنفقين بالأسحار، بـ"دفع الخوف" عنهم في الحضر والأسفار، و"رفع الحزن" عنهم في الدنيا ويوم تبلى السرائر؛ فما يصيب النفس من هم وغم، وحزن وخوف، تزيله الصدقة الجارية بالإخلاص، لتنال العافية والسكينة الروحية في الحل والحرم، وتنعم بملء قلوبها بمحبة الخلق وحسن الختام.

خير مايُتصدق به في هذا الزمان، ويرضاه السّائل المستضعف في رمضان، مناصرة أهلنا المحاصرين في أرض فلسطين

الخيرية في الأعمال

والصدقة متعلقة بين مذهبين، سائل يريد أخذ شيء مما يعتقد أنّ غيره يمتلكه، ويرى فيه الأفضلية في المال والمعاش والصحة، وقد يصدر عنه بعض ما لا يرغب المحسن سماعه، فأكثر المحتاجين لا يسألون الناس إلحافًا، إلا الطوافين على الخلق لا يكترثون إن أعطوا أو منعوا، غير أنّ البعض كان لا يرد من سأل بالله شيئًا، حتى ولو لم يملك ما يريده العائل، فإنّه ينفعه بالقول الجميل، والسؤال في العلم وطلب نصرة الأمة جوابه الإيقان بضرورة السّعي إلى الكريم، وعدم التعدي على المستضعفين وتخوين المرابطين.

ومن جلس على كرسي الفتوى، وتدلت لحيته بالشكوى، متّهمًا أهل الرباط بالانحراف والخديعة، كان عليه أن يتأدب في جواب سائله إن اعتدى، وأن يصرف قليل الاختلاف لعظيم الصدقة من جهاد ومقارعة أهل الباطل، فكل ينفق من عمله وقوله، فإما يتزيّن بالحسنى، أو يتذيّل بالرياء والسمعة.

ومن أيقن أنّ النعم كلها بيد المولى، والجزاء معلق بتربية القلب على الحسن والهدى، وعتقه من الضغينة والبغضاء وعداوة المستضعفين، أدركه التوفيق في التعامل مع المرابطين، إذ ليس لعاقل أن يسعى للطعن فيمن يرابط بفلسطين، وأهلها يشدون على بطونهم جوعًا، وصرخات أطفالهم ونسائهم المكلومين تحكي معاناة الملايين؛ فالمعسر وإن دارت به الأيام، وانقلبت أحواله من بعد الغلبة، وتكالبت عليه الأمم بسوء الخذلان وجور الخلّان، إنّما يسأل ملء السنابل ممن انحنت قلوبها تواضعًا بفطرة الواحد، وتقلّبت في نعمه التي فُضّلت بها العباد، ولا ضير في أن تصمت ألسنة المتآمرين عن لغو الكلام، فصدقة القول معروف يضاعفه الصيام، والتحامل على خَلْقٍ، ديدنهم الصبر والاحتساب في رباطهم المعهود بالدفاع عن المقدسات، لا يأتيه إلا صاحب زلّة عظيمة، لم يوفقه الحليم لصوابه، فقد كثرت عليه النّعم وغرته أماني الطغاة، وغلبت عليه الظنون، فاستجلب لنفسه دعاء المستضعفين والمظلومين.


وقد أحسن الأوّلون في إنزال المعترّ مقام الغني لا المقتر، بحسن الصنعة وتعظيم الصدقة، فإن أعطوا أغنوا، وإن تركوا فجميل القول استوفوا، وخير ما يُتصدق به في هذا الزمان، ويرضاه السّائل المستضعف في رمضان، مناصرة أهلنا المحاصرين في أرض فلسطين بمعروف القول، إن قصرت أيدينا عن دفع المال؛ فإنفاق كلمة حق نصرة للمقاومين، باتت ثقيلة على المتخاذلين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق