سوريا من النافذة التونسية.. سلموا السلطة لغيركم!
نقرأ المشهد السياسي السوري بعد المائة يوم الأولى من وصول الثورة إلى الحكم من خلال تجربة الثورة التونسية. فنجد مؤشرات كثيرة على أن المطلوب من المنتصرين هناك أن يسلموا السلطة لغيرهم كما كان الأمر في تونس حيث طُلب من الفائزين في الانتخابات أن لا يحكموا.
تحرك المنتصرون في سوريا تحت شعار “من يحرر يقرر” ولكن يبدو أن هذا الشعار سيتحول إلى تهمة أو جريمة كما تحولت نتائج انتخابات تونس خاصة منها نتائج 2011 إلى تهمة اقتضت التنازل عن نتائج الصندوق حفاظا على سلامة البلد (يمكن توسيع القياس على الحالة المصرية ولكن سنركز على المقارنة بتونس).
من يحرر يقرر تعني أن من دفع الثمن البشري يستحق أن يكون في الحكم مقابل الأثمان المدفوعة، ولكن ينكشف لنا في سوريا أيضا أن فئات سياسية كثيرة لم تدفع نفس الأثمان وفيها من كان جزءا من النظام البائد تمنح نفسها حقوقا بلا مقابل وتستقوي بالخارج مستعملة نفس الحجج التي سمعناها في تونس.
من هذه الزاوية نعيد اكتشاف طبيعة النخب العربية وعمق إيمانها بالديمقراطية لنصل إلى السؤال المضني متى الديمقراطية في بلاد لا تستنكف نخبها عن الاستعانة بعدوها على شركائها لتحكم بلدانها؟
سوريا السنة والبقية
كنا نعرف أن سوريا متعددة الأديان والأعراق ولكن لم نكن نعلم بكل هذا التنوع (خدعنا البعث بصورة الشعب العربي الصافي عرقيا والموحد عقديا).
وكنا نعلم أن نظام البعث قد اضطهد شعبه ولم نكن نعلم أن الاضطهاد سلط على الطائفة السنية دون غيرها. وكنا نتابع أخبار الثورة منذ 2011 ولم ننتبه إلى أنها ثورة السنة ضد نظام البعث الطائفي (وهذا حديث منصف سمعناه من غير المسلمين السنة بل من مسيحيين سوريين).
الآن لدينا صورة أوضح عن المشهد. الثمن المدفوع كان من الجسد السني (قتلا وتهجيرا وهدما للبيوت) ولذلك يكون طبيعيا أن الواصلين للحكم من السنة ويكون شعار من حرر يقرر في سياقه. ولا يكون من يقر لهم بذلك طائفيا أو يروج للطائفية.
إن مجمل ما سمعناه من نقاشات ومعارضات وخاصة منذ إعلان الانتصار وتقديم أحمد الشرع للرئاسة ثم خاصة منذ صدور الإعلان الدستوري وتوسيع صلاحيات الرئيس يقوم على طلب الحكم التشاركي.
وقد أصغينا إلى المطالبين بالتشاركية فلم نفهم هل تكون تشاركية على غير قاعدة العدد والحال أن صندوق الانتخابات لم يفتح بعد وأن المرحلة انتقالية؟ وفي غياب الصندوق لم نفهم كيف تبني التشاركية دون الوقوع في الطائفية؟ هنا نجد أنفسنا أمام المشهد التونسي بعد انتخابات 2011، حيث تحركت الحزيبات كطوائف وعشائر سياسية وحكمت بمسميات التوافق وهو رديف التشارك.
لقد قدم الصندوق الانتخابي في أول انتخابات تعددية في تونس حزب النهضة الإسلامي بأغلبية تحق له وتوجب عليه تشكيل الحكومة. وكشف الصندوق أن جماعات اليسار والقوميين ومكونات تيار الحداثة المعادي للتيار الإسلامي لا وزن لهم عند الناس. لكن ما جرى بعد الانتخابات أن المجموعات غير الوازنة (الصفر فاصل) انتخابيا هي من حكمت فعلا. ووجد الإسلاميون أنفسهم في وضعية انتحارية فأما التمسك بنتائج الصندوق والدخول في مواجهات تهدد سلامة البلد أو التخلي عن حقهم وبالخصوص عن الجمهور الذي صوت لهم لحفظ البلد من الانقسامات.
آثر الإسلاميون الانحناء وخسروا جمهورهم وحكمت الأقليات التي تحركت كطوائف رغم أنها تعرف نفسها تعريفات تقدمية. لقد كان الإسلاميون يرون خصومهم في الداخل يستنجدون بالغرب ليحل المجلس المنتخب ويستعيدون كل تهم الإرهاب التي ألصقها نظام بن علي بالإسلاميين ثم يكرسون فكرة أن على الإسلاميين عدم المشاركة في الحكم لأن الغرب لا يريد ذلك، متغافلين أن في هذه الفكرة بالذات إقرار بخيانة تاريخية. فالغرب لا يقبل في حكم مستعمراته إلا العملاء والخونة. وكانت الطوائف الحزبية مستعدة للدور باسم التوافق أو التشاركية.
مشهد يتكرر في سوريا
التطابق بين مواقف النخب التونسية المعادية للإسلاميين وبين مواقف الأقليات السورية يكشف أن الموجه واحد. الغرب لا يريد فعلا حكم الأحزاب والجماعات الإسلامية الكفاحية وهذه حقيقة قديمة منذ زمن الانقلابات العسكرية (من تركيا إلى مصر) لكنها تتجدد في كل موسم. لن نناقش هنا الغرب (مجملا أو مفردا) في ما منح لنفسه من حق التدخل في حكم مستعمراته القديمة هذه طبيعة قوى الاستعمار. ولكن عجبنا من مواقف النخب التي تقدم نفسها لشعوبها كقوى ديمقراطية ولكنها تستعين بالإسناد الغربي من الإسلاميين لتقدم نفسها للحكم.
هذا ما جرى في تونس منذ 2011 (ومصر وليبيا والمغرب والجزائر) وهذا ما نراه يجري في سوريا. نفس المواقف ونفس الخطاب إلى حد وضع البلدان بين الحصار الخارجي والتخريب الداخلي. أجبر إسلاميو تونس عن التنازل عن كل سلطة. (لاحقا ستنظم عملية انتقامية منهجية إذ لم يبق ممن حكم من الإسلاميين بين 2011 و2013 خارج السجن أحد). ونرى أحمد الشرع وجماعته يدفعون إلى نفس المنحدر. إذا تمسكوا بالحكم حاصرهم الغرب بدعاوي عدم التشاركية وإذا شاركوا غيرهم يبدؤون سلسلة تنازلات حتى لا يبقى لهم من السلطة شيء ثم تبدأ عمليات الانتقام.
إن سلوك شيخ الدروز الهجري حالة مثالية لفهم الوضع السوري، فقد ظل الرجل يتربص بالحكم الجديد مستعملا لغة مهذبة فلما يقن بعد الإعلان الدستوري أن الشرع وجماعته ذاهبون إلى حكم سني (ولو مؤقت) لا يشرك طائفته كما يشتهي استخرج تهم الإرهاب وبنى عليها موقفا سياسيا انفصاليا غاضا الطرف عن استعانة بعض طائفته (وربما بتوجيه منه) بأكبر نظام إرهابي في التاريخ. ماذا دفع الشيخ الهجري في الثورة؟ (نعرف أن شقا من الدروز دفع شهداء وهذا الشق يعارض الهجري وينحاز للشرع). الثمن غير مهم بل المهم أن يحصل قسطا من السلطة لطائفته القليلة العدد بل لجزء منها مقارنة بالأغلبية السنية وقبل أي صندوق انتخابي، ولو بالاستعانة بالكيان الصهيوني. ومن حرر يركن على جنب ليحكم الخونة.
التفصيل السوري الخاص
لأحمد الشرع وجماعته ميزتان عن إسلاميي تونس ومصر وغيرهما. الأولى نصف مليون بندقية مدربة يحركها عقل جهادي والثانية حاضنة سنية تشكل أكبر من تسعين (90) بالمائة من الشعب السوري. كشفت البنادق عن نفسها في أحداث الساحل ولا شك أن من حرك تلك الأحداث من الخارج قد أعاد حساباته على ضوء جاهزية هذه البنادق للدفاع عن ثورتها.
وكشفت الحاضنة عن نفسها في الشارع المتوتر الذي بدأ يخرج إلى الشوارع لدعم الحكم ولا نراه يقبل بما قبل به شارع الإسلاميين في تونس من استكانة أمام اليسار بدعوى حماية البلد. لا أقول هنا أن الحاضنة كلها إسلامية (كفاحية) لكنها بغالبية سنية وقد دفعت الأثمان وإن لم تنخرط في جماعات مقاتلة.
كيف سيواجه الشرع خصومه؟ إذا انطلق من أن خصوم الداخل لا وزن لهم ولا قيمة إلا بالسند الخارجي فإن الطريق أمامه مفتوحا للحديث المباشر مع الكفيل الخارجي لا مع العميل الداخلي. إن الحديث المباشر مع مبعوث ترامب للشرق الأوسط أكثر جدوى من انتظار توبة الشيخ الهجري إلى رشده.
لقد علمتنا تجربة تونس أن الديمقراطية في بلاد العرب لن يبنيها اليسار ولا النخب التي تستسهل الاستعانة بالغرب على شعوبها.
وفي كل الحالات وهذا ليس درسا وإنما تذكير بتجربة أي تنازل من الأغلبية الواقعية أو المنتخبة للأقليات الخيانية هو بداية سلسة من الانهيارات المفضية إلى خراب الثورات. والعاقل من اتعظ بغيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق